في الأيام الأخيرة، عاد إلى الواجهة من جديد، وبقوة موضوع ملف إيران النووي، حيث تسعى إدارة الرئيس الأمريكي أوباما لإقناع مجلس الأمن الدولي بتبني عقوبات أكثر تشددا، على إيران إذا ما واصلت استكمال بناء منشآتها النووية. أسئلة مركزية عديدة لا تزال في انتظار الإجابة: هل ستتمكن الإدارة الأمريكية من تحقيق إجماع دولي يمكنها من فرض المزيد من العقوبات على إيران؟ وإذا ما تجاهلت الأخيرة تلك العقوبات وأصرت على مواصلة برنامجها، فما هي الخيارات الأخرى المطروحة للتعامل مع هذا الملف؟ وما هي انعكاسات الأزمة على تدفق النفط، وأسعاره وإسقاطات تطورات الأزمة على الساحة الدولية، وبشكل خاص على الوجود العسكري الأمريكي في العراق والتطورات السياسية في بلاد ما بين النهرين، وعلى منطقة الخليج والحراك الداخلي الإيراني؟. هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة ستكون موضوع هذا الحديث، وربما أحاديث أخرى قادمة.
قراءة ما يجري على المسرح الدولي، في الشهور الأخيرة، لا تشي بتحولات مفاجئة بمنطقة الخليج. فالدول الكبرى التي تربطها علاقات اقتصادية متينة بإيران، كالصين وروسيا والهند لا تزال مترددة تجاه فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية على طهران، لأن ذلك يلحق الضرر بمصالحها الاقتصادية. فالصين على سبيل المثال، هي أكبر مستورد للنفط من إيران، وترى في أي عقوبات جديدة على إيران تهديدا لتدفق النفط إليها، بما يسهم في رفع أسعاره، ويهدد نمو اقتصادها. والإدارة الأمريكية، التي تقود المعسكر المتشدد تجاه إيران، تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية، مر بها العالم منذ الكساد الكبير في نهاية العشرينيات من القرن المنصرم، وليست في وارد تقديم أي نوع من الدعم الاقتصادي لحلفائها، إذا ما تعرضت منطلقة الخليج للخطر.
لذلك فليس من المتوقع أن تأتي لحظة الحسم قريبا. والسيناريو الأقرب للواقع هو أن تشهد المواجهة الدولية مع إيران، كرا وفرا. وحتى إذا ما تم الاتفاق بين الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن على تبني عقوبات جديدة، على إيران، فلن يكون لها شأن كبير على قرارات الجمهورية الإسلامية، وسيكون بالإمكان احتوائها، بسبب اتساع حدود إيران، وتعدد منافذها في معظم الإتجاهات. وسوف تستغل إيران مواقف الدول الكبرى، المتعاطفة معها، للتمرد على العقوبات المفروضة عليها وخرقها.
وحتى الأمريكيون، أنفسهم الذين يقودون حملة التصعيد على إيران والمطالبة بتشديد العقوبات عليها، لا يبدون جادين في نواياهم المعلنة حيال قضية الملف، على الأقل في هذه المرحلة، رغم كثرة الصخب والضجيج، في وسائلهم الإعلامية. فهم لا زالوا يتعاونون مع إيران في الشأن العراقي، والتنسيق بين الطرفين حول متابعة العملية السياسية في بلاد النهرين يسير بشكل مطرد.
إن مواقف الإدارة الأمريكية تجاه التطورات الأخيرة المتعلقة بالعملية الانتخابية في العراق، لا تنبئ باستعدادها لممارسة أي ضغط عملي على إيران لإيقاف برنامجها النووي. فأمريكا وقفت متفرجة في الأسابيع المنصرمة، وهي تشهد الضربات تكال لحلفائها، الذين وقفوا معها منذ الأيام الأولى لاحتلال العراق: علاوي، الهاشمي، المطلك، السامرائي… ويجري الآن، باسم قانون المحاسبة والعدالة، القانون البديل لقانون برايمرز باجتثاث البعث، تصفية خصوم رئيس الحكومة المالكي، من قادة للأحزاب السياسية، ومن ضباط كبار تعانوا مع الاحتلال وساهموا في مواجهة المقاومة العراقية. ويتم ذلك بتعاون وثيق بين حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى بإسناد من حكومة الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد. وإذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، في المشهد السياسي العراقي، فإن الاحتمال المرجح هو حصد حزب الدعوة، الذي يقوده المالكي والمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم لأغلبية المقاعد. والحزبان معروفان بتبعيتهما لإيران، بما يعني أن الإدارة الأمريكية ترسخ الحضور الإيراني في العراق، ولا تسعى لإضعافه.
إن أي موقف أمريكي متصلب تجاه الملف الإيراني، لن يكون جادا إن لم يقابله تصلب آخر تجاه منع إيران من التدخل في سير العملية السياسية بالعراق. فمن غير المعقول أن تقوم الإدارة الأمريكية بضغوط على إيران تصل حد التهديد بالعمل العسكري، بينما هي تسلم مقادير مصالحها لحلفاء إيران في العراق. إن ذلك يبدو فعلا عملا مستغربا، خاصة وأن الإدارة الأمريكية تملك خيارات سياسية أخرى في العراق، من شأنها الإسهام في إضعاف النفوذ الإيراني. إن الموقف الأمريكي المتسامح مع التدخلات السياسية الإيرانية في شؤون العراق، لا ينسجم أبدا مع الحملات والتهديدات التي يشنها المسئولون الأمريكيون على إيران، ويضع أسئلة كثيرة حول مستوى جدية الإدارة الأمريكية في تهديداتها لإيران.
ذلك لا يعني بأية حال، أن الأمريكيين وحلفائهم الأوروبيين سيقفون إلى ما لا نهاية، مكتوفي الأيدي حيال مواقف إيران من الملف النووي. من المتوقع أن يواصل الأمريكيون متابعة سياسة العصا والجزرة من خلال التلويح باستخدام القوة أحيانا، والوعود بتقديم الحوافز التكنولوجية والاقتصادية، في أحيان أخرى. وليس من المستبعد أن يجري الأمريكيون مقايضات مع إيران على حساب العراق وربما منطقة الخليج بشكل عام. وسيستمر ضغط الروس على إيران لكي تقبل بتخصيب اليورانيوم في روسيا، بما يحقق مكاسب للأخيرة، ويسهم في تعزيز الروابط بينها. وربما تقبل إيران بتلك الحوافز.
إن موقف إيران تجاه مسألة الملف النووي سيكون مرهونا بالحراك السياسي الإصلاحي في إيران. إن تراجع هذا الحراك، من شأنه أن يوفر أرضية لسياسات أكثر براجماتية داخل إدارة الجمهورية الإسلامية، بما يجعل من التوصل إلى حل حوله أمرا ممكنا. أما في حالة استمرار تصعيد الإصلاحيين لحراكهم، فإن الولي الفقيه، سيكون مضطرا لتصدير أزمته للخارج، وتبني سياسات متشددة، توحد الإيرانيين خلفه من أجل مواجهة العدو المشترك. ذلك هو ما ستفصح عنه الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة.
والأكثر احتمالا أن المواجهة العسكرية، ستكون مع الكيان الصهيوني، وليس مع أحد غيره، وستكون مواجهة محدودة جدا، ستستوعب نتائجها إيران وإسرائيل على السواء وستكون أشبه بما أطلقته عليها في مقالات عديدة بحرب تحريك، لن تستمر طويلا، وقد لا تتجاوز عدة أيام، يتدخل إثرها المجتمع الدولي، ولا يستبعد أن تتم المعالجة بوساطة أمريكية، أو أمريكية أوروبية مشتركة. وخلال فترة الأزمة، وهي فترة وجيزة على أية حال، يتوقع أن تقفز أسعار النفط إلى أعلى، قريبا من أعلى سقف بلغته عام 2009، بسبب تلويح إيران بالتعرض لمضيق هرمز. وستعود أسعار النفط لتستقر ثانية، قريبا من سعرها لحالي، لحين تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية. وسيكون لاستهلاك الصين والهند لاحقا التأثير المباشر على سيرورة سعر النفط في الأسواق العالمية.
في العراق الآن، تغيرات جذرية في خارطة التحالفات والاصطفافات السياسية، حيث تنسق بعض أطراف العملية السياسية مع قيادات المقاومة الوطنية العراقية. ويبدو أن كل الأطراف تتهيأ لمرحلة جديدة من المواجهة العسكرية فيما بينها، بعد خروج الجيش الأمريكي من العراق. هذه المواجهة ستكون بين الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران من جهة، وبين أطراف المقاومة وبعض القوى السياسية التي جرى تهميش أدوارها مؤخرا من جهة أخرى، وربما تلتحق مجموعات الصحوات في تلك المواجهة.
سيكون لهذه المواجهة تأثير كبير دون شك على الملف الإيراني النووي. فالأمريكيون، إذا ما تعنتت إيران في استجابتها لمطالب مجلس الأمن الدولي، سيغلبون كفة القوى المناوئة لإيران في العراق، وسيسهمون في دعمها بما يحقق استنزاف الخزينة الإيرانية من مدخراتها. وربما ضغطوا على الدول الصديقة، المنتجة للنفط لزيادة الإنتاج وإغراق أسواق النفط، بما يسهم في انهيار الاقتصاد الإيراني. إن ذلك بالتأكيد سيكون رهن للتطورات التي تحدث في موضوع الملف، لكنه لا يبدو أمرا مستغربا، من خلال القراءة التاريخية للسياسة الأمريكية.
إن الجمهورية الإسلامية، تعي جيدا لعبة الخطوط، ولن تتجاوز أبدا الخطوط الحمراء، لأن كلفة ذلك ستكون كبيرة جدا، تشمل انهيار اقتصادها وتدمير البنية التحتية الإيرانية بأسرها، ودخول المنطقة بأكملها في لجة يصعب خروجها منها. وهو أمر بالتأكيد ليس في صالح أحد، بما في ذلك إيران نفسها.
الوضع الشعبي الإيراني، خلال احتدام الأزمة سيكون متضامنا مع سياسات الدولة، وستكون الأزمة عاملا توحيديا للإيرانيين، وسيجري تهميش أقطاب الحركة السياسية الإصلاحية، وعزلهم أثناء تداعيات الأوضاع، وربما استغلت حكومة السيد أحمد نجاد تلك التداعيات لتصفية حساباتها مع خصومها في ظل استعار قومي وحماس ديني، يوفر لها مستلزمات ذلك. لكن الأزمة في إيران عميقة جدا، وستطل برأسها بقوة، بعد انقشاع العاصفة، وهي أزمة كما نعلم جميعا مركبة ومعقدة وذات جذور عميقة، لن يكون بالإمكان تجاوزها أبدا إلا من خلال إعادة هيكلة جذرية للأوضاع، وإعادة الاعتبار، لدولة الدستور والقانون والمؤسسات، بمفاهيمها المعروفة، وتأسيس الدولة الحديثة.