بسم الله الرحمن الرحيم
أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة
وحدة حرية إشتراكية
مقدمة عامة : النظرة القومية الشاملة
شكلت الرسالة القيمة التي وجهها الرفيق المناضل عزة إبراهيم، الأمين العام للحزب والقائد الأعلى للجهاد والتحرير، إلى الإعلاميين في أواخر عام 2007، خطوة أساسية ومهمة على طريق استكمال مستلزمات نضالنا من أجل تحرير العراق والأمة كلها، من خلال اعتماد إستراتيجية إعلامية قومية للحزب وفصائل الجهاد في العراق، تنطلق من الإستراتيجية العامة للحزب، والتي جسدها المنهاج الاستراتيجي والسياسي للحزب والمقاومة المعلن في أيلول عام 2003، و إستراتيجية القيادة العليا للجهاد والتحرير التي أعلنت في العام الماضي.
إن وضع إستراتيجية إعلامية في معركة التحرير الوطني في العراق أصبح ضرورة أساسية من ضرورات كسب معركة التحرير التي تخوضها المقاومة العراقية على أرض الرافدين لأنها تضمن:-
أولاً: تصحيح الأخطاء ودحض الأكاذيب التي أطلقت حول الحزب وتجربته في العراق، دون نسيان إن حزبنا وقع في أخطاء كأي تجربة إنسانية وان هذه الأخطاء تدرس الآن تهيئة لعملية نقد شاملة حينما تتوفر ظروف مناسبة.
ثانياً : لأنها تزود رفاقنا وأصدقائنا بسلاح جبار، وهو سلاح الحقائق الثابتة والتي تؤكد أن مسيرة حزبنا كانت مسيرة انجازات عظمى يفتخر بها كل إنسان حر.
ثالثاً : لأنها تعزز الاجتهادات الفردية الصحيحة عند الدفاع عن الحزب، بموقف متكامل يغطي كل أوجه الصراع.
واستناداً إلى ما ورد في رسالة الرفيق الأمين العام، وبعد أن اطلع على هذه الدراسة واقرها ووجه بإضافة فقرات مهمة وأساسية، فإننا نقدم هذه الدراسة للعمل بموجبها لتكون أساساً لعملنا الإعلامي في الوطن العربي والعالم كله، وهي تتضمن عدة محاور أساسية، منطلقين من حقيقة تاريخية تؤكد أن الوطن العربي يحتل مركزا استراتيجيا مهما يعرفه كل من درس التاريخ القديم والحديث، وأن قواه البشرية والاقتصادية تشكل قوى إستراتيجية مهمة لا يستهان بها في السياسة الإقليمية والدولية، سواء كان ذلك في زمن الحرب أو السلم أو في فترة الحرب الباردة أو بروز هيمنة أحادية القطب الأمريكي. إننا ندرك أن هذه القوة تبلغ ذروتها وتتحقق معانيها الحقيقية في وحدة الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، إذ أن هذه الوحدة هي القادرة عمليا على خلق قوة فكرية بشرية واقتصادية ضخمة، متكاملة تفرض وجودها على الصعيدين الإقليمي والدولي من أجل تحقيق السلام والتقدم والرفاهية في وطننا الكبير والعالم.
وإذا كانت بعض الأنظمة والقيادات تحاول تجاهل هذه الحقيقة الواقعية، فانها تؤكد انها متقوقعة داخل حدودها القطرية المصطنعة، مسقطة من حسابها موكب العروبة السائر نحو الوحدة القومية والمتطلع للتطور والتقدم والقوة الحضارية، التي يطمح حزبنا بأن يراها متجسدة في وحدة التجربة النضالية للحزب وحركة التحرر الثورية، التي تتسم طبيعتها بجدلية تنوع تضع حدا للفوضى والتسيب والتشتت والضياع، معبرة عن إرادة العقل المنظم وتتجلى فيها إرادة الحسم والمسؤولية التاريخية في إدارة الصراع ضد كل نوع من أنواع الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
إن هذا التوجه ينبغي أن يفهم فهما استراتيجيا حتى نستوعب بشكل جيد أبعاد الهجوم المسعور الذي شنه الأمريكان والصهاينة والفرس وأعوانهم على النظام الوطني في عراق المشروع الحضاري الوطني والقومي والإسلامي، ونفهم أيضا الأوضاع التي وصل إليها العراق بعد الغزو وأبعاد تأييد الفرس والصهاينة لحراك التشرذم والانفصال داخل العراق، وامتداد ذلك إلى معظم أجزاء الوطن الكبير، سواء كان ذلك في سوريا ولبنان أو في السودان واليمن وأقطار المغرب العربي. إن فهمنا لأبعاد المشروع الاستراتيجي الأمريكي الصهيوني الفارسي يجعلنا نستوعب أهمية الأبعاد الإستراتيجية في المعركة التي يخوضها أسود العراق المقاوم ضد الاحتلال الأمريكي البريطاني وضد المشروع الأمريكي الصهيوني الفارسي وعملائهم الظاهرين والمستترين.
ان المقاومة العراقية والفلسطينية هي المعبرة اليوم عن المشروع الحضاري القومي والإسلامي، وهي القوة الاساسية التي ترسم إستراتيجية السياسة المستقبلية وإدراك نتائجها الهامة والبعيدة وسبر أغوارها العميقة بدقة، إذ لا نستطيع أن نجابه إستراتيجية العدو الواضح بثلاثية أطرافه (امريكا والكيان الصهيوني وايران) إلا من خلال إستراتيجية ذات آفاق وطنية وقومية وإسلامية عليا، مستفيدين من تجربة المقاومة في حرب التحرير الجزائرية والفلسطينية والعراقية اليوم في ميدان التكتيك العملي والأفق الاستراتيجي حتى نثبت للعالم صدق الوجه الحقيقي لحضارتنا ولرسالتنا الخالدة، بشكل موضوعي ووعي تاريخي. فشعب العراق الذي ضرب أروع الأمثلة في البطولة والوعي النهضوي والتفوق متجاوزا كل ما هو مألوف في البذل والصبر والتضحية، مثبتا في الميدان ما يختزنه من أصالة قومية وما يمتلكه من حس وطني عريق متواصلا مع عهد الرسالة وقيمه الروحية الخالدة، هذا الشعب نراه اليوم يجدد العهد ويحافظ على العراق وطنا موحدا ويعطي العروبة أسمى معانيها بمواجهته للاحتلال وسياسة التشرذم والتفكيك والتخاذل التي فرضت على العراق، فكانت المقاومة المباركة عنوانا كبيرا لمعركة الأمة العربية كلها في العراق، لما تبذله من التضحيات في المواجهة الميدانية للاحتلال وعملائه ولدرء خطر الشعوبية والأطماع الفارسية على الأمة والحيلولة دون أطماعها التوسعية.
فإذا كانت إستراتيجية حزبنا وما تزال تنطلق في رحلته النضالية الشاقة الطويلة من الإيمان والثقة بالأمة وقواها الحية، مؤكدة على أن الأمة تستطيع أن تبني نفسها من جديد فإن الفعل المقاوم المنظم في العراق يأتي معبرا عن إدراك البعث لطبيعة الصراع ومواجهة الأعداء في الميدان، وإن التعبير عن الأمة ليس رجوعا إلى التاريخ بل تطلعا إلى المستقبل، من خلال التعامل مع مشاكل الحاضر ومواجهة التحديات والرد على الأعداء ردا تاريخيا، وأن المقاومة العراقية التي اوصلت بفعلها القتالي الاحتلال إلى حافة الانهيار لتؤكد تأكيدا قاطعا أن مستقبل العراق والأمة أمامنا وليس وراءنا، وهو إدراك عملي واستيعاب تاريخي لمفهوم تكون الحركة الثورية العربية وسيرورتها التي تلتزم الصدق مع النفس ومع الشعب في كل الظروف المحيطة وتنتظم فيها إرادة النضال المصيري الموحد.
ان المقاومة العراقية، من خلال مدلولات برنامجها السياسي والاستراتيجي (ايلول – سبتمبر عام 2003) وتطبيقاته العملية، تعبر بجدية عن حضور فكري ونضالي في مسيرة النضال القومي والمواجهة المنظمة فتزداد قربا من ضمير الأمة وروح شعبنا من المحيط إلى الخليج، وثقة بأصالة دورها ودور البعث وصدق تمثيلها للمبادئ والأهداف، التي عبر عنها البعث وناضل من أجلها منذ التأسيس وما يزال مؤمنا بانتصارها. وإذا كان ثمة من يعتقد أن النضال العربي لم يبلغ النضج الحقيقي من حيث درجة الإيمان بالعلم والعقلانية ومن ثم بالديمقراطية والتمسك بالقيم الأخلاقية في العمل السياسي، فأن هذا البعض لا يستطيع أن ينكر أن النضال لم يتوقف عن السعي لاستكمال تلك الشروط رغم الصعوبات والعقبات التي تواجهه.
هاهي المقاومة العراقية، ببرنامجها السياسي والستراتيجي وفعلها الميداني، تؤكد أنها تسير في طريق المبادئ الوطنية والقومية السليمة متجاوزة كل التحديات، تخوض حربا فرضت على العراق في ظل صمت عربي رسمي مخيف، ولكنها تواجه تلك الحرب المستمرة منذ احتلال بغداد في نيسان 2003 حتى اليوم بوعي بطولي وتضحية متميزة تجسد سمات النهضة القومية الحديثة المعبرة عن أرقى مواجهة حضارية في الرد المنظم على عقلية الاحتلال الأمريكي -الصهيوني- الفارسي، وهمجية التخلف وطابور العملاء الذين فرضوا على العراق. انها مقاومة تدافع عن شخصية الأمة العربية ووحدتها ودورها القيادي، في مواجهة الأطماع التوسعية والحفاظ على العراق الموحد أرضا وشعبا وعلى الأمة صامدة مؤمنة فأوصلت الاحتلال الأمريكي إلى درك الهاوية، بالرغم من ان ما تمتلكه من إمكانيات هو دون الحد الأدنى من حيث التكافؤ مع قوة العدو الأمريكي الصهيوني الفارسي وطابور العملاء المفروضين على العراق.
إن إستراتيجية البعث العامة، إستراتيجية المقاومة العراقية، باتت مرتكزا أساسيا في ميدان المواجهة لدعم الصمود وإمكانيات النهوض والتحرر في مسيرة الثورة العربية كلها، وعليه لا بد أن يتوحد نضال الشعب العربي وأن تتكتل قواه الحية كي تتمكن من اقتلاع جذور الانحراف والطغيان والتآمر. فالأمة التي تمتلك سواعد قوية تقاوم في فلسطين والعراق لا شك إنها قادرة على استمرار الصمود والتغلب على مخططات الامبريالية الصهيونية الشرسة والأطماع الفارسية مهما كانت الظروف والتعقيدات، وأنها لقادرة أيضا على تحقيق الانتصارات والأهداف القومية الكبرى. وإذا كانت قضية فلسطين، وما تزال تمثل، على مستوى المبادئ والانتماء القومي، خلاصة القضية العربية وروح الثورة العربية وقضية الأمة المركزية، فإن قضية العراق اليوم، على مستوى استراتيجي، أصبحت قضية مركزية في ميدان المواجهة الإستراتيجية لان العراق هو ساحة الحسم في الصراع المصيري الحالي، ومن هنا فإن على الإعلام البعثي والمقاوم التعامل معها بأفق وعمق استراتيجي يجعل منها ومن قضية فلسطين وجهان لقضية واحدة، كما عبر القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله حينما قال (هي الحق الذي يولد القوة، هي العروبة مختصرة مطهرة، هي الإنسانية معذبة معرَّبة، هي وحدة العرب وحريتهم ونهضتهم).
ان الستراتيجية الاعلامية للبعث والمقاومة يجب ان تنطلق من الستراتيجية العامة ووفقا لضروراتها لاجل ان نضمن النصر ووضوح الرؤية.
أهمية الإعلام في صياغة الرأي العام وطنيا وقوميا وعالميا
لم يعد الإعلام مجرد أداة من أدوات التأثير بل أصبح هو الأداة الرئيسية له في العالم كله، بعد عولمة شبكات التلفاز والاتصالات، خصوصاً انتشار الانترنيت. واذا حللنا واقع العالم وأحداثه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم سنلاحظ أن الإعلام اخذ يحتل الموقع الأول تدريجياً، كأداة تأثير فعالة تفوق خطورة القوة العسكرية والاحتلال العسكري. إن ما يميز التأثير الإعلامي هو انه بطئ وغير مباشر غالباً، خصوصاً وانه لا يشكل تهديداً منظوراً للإنسان العادي، فيتعامل معه كمصدر للمعلومات أو التسلية والثقافة، دون الانتباه بقدر كاف إلى أن الإعلام ينقل رسائل مختلفة ويبني ثقافة ويزرع سيكولوجيا خطط لها من يسيطر على الإعلام.
وبخلاف الطابع الموضوعي النسبي للإعلام الحديث فان الغزو العسكري يشكل صدمة مباشرة للإنسان تثير لديه ردود فعل رافضة له شكلا وموضوعا، وغالباً ما يتخذ رد الفعل شكل مقاومة شاملة له، عسكرية وسياسية وإعلامية، لذلك فأن القوى الكبرى ذات الخطط الاستعمارية التوسعية، كالولايات المتحدة الأمريكية، تعتمد تقليديا قبل وصول جماعة اليمينيين الأمريكيين الجدد، على أسلوب الاحتواء الثقافي والسياسي في بناء نفوذها وتغلغلها أكثر مما تعتمد على القوة العسكرية والضغوط الاقتصادية والسياسية.
إن الإعلام المعاصر الأمريكي بشكل خاص والغربي بشكل عام، أصبح يضخ إلى العالم كله كافة أنواع المعلومات والرسائل الثقافية، المباشرة وغير المباشرة، ويعيد مستنداً إلى ذلك تكوين شخصية وهوية الإنسان وفق النموذج الأمريكي بعيداً عن قوميته وثقافته وديانته.
لقد وصُف الإعلام من قبل خبراء الإعلام في أمريكا في الثمانينيات، أي قبل ظهور الانترنيت، بأنه (الإله الثاني)! في إشارة واضحة جداً إلى انه الأداة الأهم في إضعاف واختراق الأعداء. إن العامل الحاسم في سقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية لم يكن القوة العسكرية بل كان الحملات الإعلامية المنظمة والمبرمجة التي ضخمت أخطاء السياسة السوفيتية ووضعتها تحت المجهر عبر عقود متوالية من الزمن، نجحت من خلالها المخابرات الأمريكية في تحقيق اختراق نفسي في أجيال الشباب في المعسكر الشيوعي، وهو اختراق اخطر بكثير من الاختراق العسكري والأمني التقليدي، لأنه حيّد ملايين الشباب سياسياً وتمكن من تجنيد جواسيس لخدمة أهدافه، وبذلك خلقت فجوة خطيرة، بين جيل الشيوعيين الكبار في السن وأجيال الشباب في تلك المجتمعات، أدت إلى عزل الشيوعية وجعلها نظاماً بيروقراطياً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فانهارت النظم الشيوعية بسهولة بعد تعرضها لازمات شبه عادية لأنها لم تكن مدعومة بشباب مؤمن ومحصن، رغم أنها صمدت أمام الضغوط العسكرية والاقتصادية وأحبطت محاولات الاختراق الأمني في هذه الحقول!
أما الآن، وفي عصر الانترنيت والهواتف النقالة، فقد صغر العالم جداً وأصبح المواطن الأوروبي والآخر الأمريكي يتلقيان ما يتلقاه المواطن العربي والهندي من تأثيرات وفي نفس اللحظة، وبنفس الطريقة السهلة جدا، فحصلت صدمة حضارية هائلة للمواطن العربي، لأنه لم يكن محصناً ضد الاتصال المباشر والشامل والفوري مع العالم بمختلف ثقافاته ومؤثراته، ولا مستعداً لتحمل هذا الكم الهائل من المعلومات والمؤثرات السمعية – البصرية – السيكولوجية. وفي هذا الإطار فإن الفضائيات العربية والأجنبية أصبحت موجودة داخل غرف نوم أطفالنا تنقل إليهم الكلمة البذيئة، وترسم صورة للأسرة المفككة في سياق غزو ثقافي منظم.
بل إن فضائيات عربية أخذت تروج للإباحية والانحلال والشذوذ، مع أن كافة المجتمعات العربية تعد ذلك انحرافاً خطيراً يتناقض بشكل كامل مع تربيتنا الدينية والقومية والاجتماعية.
والأخطر من ذلك أن هذه المؤثرات الإعلامية المتدفقة علينا، كإعصار مدمر، موجهة ومحتكرة من قبل دولة واحدة تقريباً هي الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا الجزء الصهيوني منها، فشبكة الانترنيت أمريكية، والفضائيات الرئيسية المؤثرة أمريكية، والبرامج والأفلام أمريكية، وللأسف الشديد فإن المال العربي يُسخر في خدمة هذه التوجهات الإعلامية إلى حد كبير، كما أن الأموال الموظفة في هذا الحقل والاحتكارات الصهيونية الإعلامية الكبيرة تسحق من يحاول التصدي لها، لان الإعلام يعني المال أولا، وبه تشترى الخبرة والقدرة، ومن يملك أكثر من غيره مالا يصبح صوته أكثر علوا من الأقل مالا، خصوصاً وان الحكومات تمارس القمع والمنع ضد من يقاوم هذه الإستراتيجية الإعلامية المكثفة.
من هنا فان حرب الإعلام بالنسبة لأمريكا هي الحرب " الاستباقية " التي تذلل العقبات أمام الحروب العسكرية وتمهد لها، بإضعاف حصانة الشعب الوطنية، وخلخلة معنويات القوات المسلحة وإرباكها، والأخطر من كل ذلك غرس الفجوات النفسية بين النظام السياسي الحاكم الرافض للإملاءات الأمريكية وبين الشعب، من خلال تضخيم الأخطاء أو خلق أخطاء ليست موجودة، الأمر الذي يجعل المواطن أكثر استجابة لتلك الحملة خاصة مع وجود فجوة نفسية بين الشعب والحاكم حتى ولو عدل.
إن تجربة حزبنا في العراق تقدم لنا صورة واضحة عن دور الإعلام في تمهيد كافة الطرق لشن سلسلة حروب انتهت بالغزو الشامل وتدمير دولة ومجتمع وإبادة أكثر من ثلاثة ملايين عراقي (منذ فرض الحصار في عام 1990 وحتى الآن)، دون أن يحدث رد فعل عالمي مواز للحدث الكارثي! نعم لقد حصلت مظاهرات ملايينية ضد غزو العراق قبل الاحتلال، ولكن رد الفعل هذا كان قاصراً ومحدوداً إذا قورن برد الفعل العالمي على النازية، رغم أن النازية ارتكبت جرائم تبدو اليوم اقل وحشية وبربرية من جرائم أمريكا في العراق والكيان الصهيوني في فلسطين.
إن السبب في ذلك هو أن أمريكا تسيطر على الإعلام العالمي وتوظف المعلومات وتصوغها بالشكل الذي يسهل فيه إقناع الرأي العام العالمي، وتضخها بسهولة ويسر من خلال آلاف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة.
ولئن كانت فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي (قبل سقوطه) والصين قد عجزت عن مواجهة التفوق الأمريكي في الإعلام فما بالك بالعراق وهو دولة حديثة مؤسساتيا، وإن تميزت بين دول العالم الثالث بنهضتها؟ كان العراق اقل قدرة تقنية وأضعف إمكانية في مجال امتلاك الخبرة والكفاءات والتنوع الإعلامي من تلك الدول، ناهيك عن المصادر المالية، لذلك كان لمؤسسات الإعلام الأمريكية والأجهزة المتنوعة التي جحفلها معه، الأثر الحاسم في التمهيد لغزو العراق، وفي تصدير أكاذيبه وأضاليله ضد الحكم الوطني في العراق، وكانت تلك الأكاذيب بمثابة تمهيد ضلل الرأي العام العالمي، ومنه جزء كبير من الرأي العام العربي، حول أهداف العدوان على العراق واحتلاله.
وبالرغم من ذلك فإن المقاومة العراقية، بصمودها وبطولات مقاتليها، قد أفشلت الغزو الأمريكي ومنعت تحقيق أهدافه الستراتيجية وأوصلت أمريكا إلى حافة الهاوية، ولكن علينا ان نقر بان القدرة الإعلامية للمقاومة كانت ولا تزال اضعف بكثير من قدراتها القتالية، لأسباب موضوعية وذاتية عديدة. ووجود هذه الحقيقة لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، بل يمكننا أن نبتكر وسائل وآليات إعلامية تتناسب مع إمكانياتنا وإمكانيات القوى التي تساندنا، فمهما كانت الإمكانيات ضعيفة فإنها ستلعب دورا كبيرا خاصة أن العالم مشدود إلى الساحة العراقية ومجرياتها، وكذلك الجماهير العربية، كما هو مشدود إلى معرفة ما تفعله المقاومة العراقية كونها طليعة من أهم طلائع حركة التحرر العإلمية.
إن عملنا على رسم إستراتيجية قومية للإعلام هي عملية تصد مباشر لعوامل الضعف في أداءنا الإعلامي، ومحاولة جادة لاستثمار ما نملك من طاقات وقدرات، خاصة بنا اوصديقة لنا، لأجل تحقيق نهوض إعلامي كبير هدفه إيصال صوت المقاومة والبعث للعالم كله، خصوصاً لأبناء الأمة العربية، للحيلولة دون أن ينفرد العدو المشترك (أمريكا – إيران – الكيان الصهيوني) بإعلامه ومنابره السياسية، بتصدير المعلومة والتحكم في صياغتها وفق سياساته ومنهجيته التآمرية لخلق الاستجابة والانطباع لدى المتلقين في الاتجاه الذي تتوخاه وترسم مساراته القوى المعادية أي العدو المشترك.
إلا أن وضع إستراتيجية إعلامية أمر مستحيل دون تحديد أهم سمات الصراعات الإقليمية والدولية الدائرة الآن والخطوط العامة للإستراتيجيات المتصارعة، فتلك العناصر هي المكونات الأساسية للمشهد السياسي العام ولحلبة الصراع الذي تخوضه القوى المختلفة، ولا يمكننا أبدا أن نتحرك إعلاميا بصورة صحيحة من دون أن نحدد الثوابت الأساسية للصراعات الإقليمية والدولية ونسلط الضوء عليها كشرط أساسي وضروري لوضع إستراتيجية إعلامية تفي بالغرض. وإذا كانت إستراتيجية المقاومة واضحة من خلال أكثر من منهج تم إقراره ونشره، وخاصة المنهاج السياسي والاستراتيجي في العام 2003، وإعلان تأسيس القيادة العليا للجهاد والتحرير في العام 2007، إلا أن أهداف الصراعات الإقليمية والدولية الدائرة الآن في العراق وخطوط استراتيجياتها هو ما يستوجب علينا تحديدها ومعرفتها، والكشف عنها، الأمر الذي يؤسس رؤية إعلامية سليمة، ومن ثم يسهم بشكل علمي وواضح في وضع إستراتيجية إعلامية ناجحة تخدم أهدافا إستراتيجية كبرى في حرب التحرير الشعبية ومواجهة كافة أنواع وأشكال الهيمنة الأجنبية التي تحاول الحركة الصهيونية والامبريالية الأمريكية جعلها أمرا واقعا مفروضا على الأمة العربية.
السمات الرئيسية للواقع الحالي عربيا واقليميا ودوليا
إن صورة العالم الراهن دوليا وإقليميا وعربيا تتميز بما يلي :-
1- تفكيك الاتحاد السوفيتي أدى إلى غياب القطبية الدولية الثنائية التي هيمنت على العالم ما يقرب أكثر من نصف قرن، واستتبع ذلك تحييد الصين، ونجاح الولايات المتحدة الأمريكية في احتواء أوروبا ودمجها في عملية تنفيذ إستراتيجيتها الكونية.
2- هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وحكم العالم بقطب واحد، الأمر الذي فتح أمامها بوابة الهيمنة على المنظمات الدولية وتسخيرها من أجل خدمة مصالحها من جهة، ومكنها من استخدام إستراتيجيتها العسكرية بالغزو المسلح المباشر من جهة أخرى.
3- تعاظم نفوذ الكيان الصهيوني، من خلال اللوبي الصهيوني في أمريكا ومنظمة " إيباك "، على صانعي القرارات الإستراتيجية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تصب جميعها في خدمة التحالف الأمريكي الصهيوني الاستراتيجي وتعزيز هيمنة الكيان الصهيوني في فلسطين وتسييده على أقطار الأمة العربية وضرب وقمع أيه حركة من حركات التحرر العربية وخصوصاً المقاومة في العراق وفلسطين.
4- تبلور تلاق واضح في الاستراتيجيات بين أمريكا والكيان الصهيوني بشكل خاص، وإيران بشكل عام، حول هدف محدد وهو دعم بروز إيران الملالي كقوة إقليمية لانها ذات مشروع تفتيتي يقوم على تذويب الهوية القومية للأمة العربية وتجزئة أقطارها على أسس عرقية وطائفية، وذلك هدف صهيوني غربي قديم.
5- غياب العدالة وتسخير القانون الدولي والمنظمات الدولية والإقليمية لخدمة الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك أصبح الغزو المسلح وارتكاب جرائم بحق الأمة العربية من الظواهر المألوفة.
6- استهداف التيار القومي والفكر القومي من خلال النيل من كل انجازاته ومن مسيرته النضالية وتضحياته وفي مقدمتها البعث.
7 – إن القوى الدولية التي كانت تحد من النفوذ الأمريكي، خصوصا في الوطن العربي، إما تفككت كالاتحاد السوفيتي، أو حيّدت كالصين، أو استميلت مجددا إلى جانب أمريكا بعد فترة من البحث عن استقلاليتها مثل أوربا، كما سبق الإشارة أعلاه، لذلك فان الاعتراضات على السياسات الأمريكية ضدنا لم تكن لها قيمة كبيرة لأنها شكلية.
8 – إن الأنظمة العربية بغالبيتها قد أصبحت تحت التأثير الأمريكي الكامل أو شبه الكامل، من خلال سياسة العصا والجزرة والتلويح بتهم عدم محاربة الإرهاب أو إيوائهم، لذلك لم يعد بالإمكان، مع الأسف الشديد، الاعتماد على الدعم العربي الرسمي لحركات التحرر كالمقاومة العراقية بشكل خاص والفلسطينية بشكل عام.
إن هذه السمات للوضع العالمي هي التي تحدد طبيعة إعلامنا وأسسه وأهدافه وأساليب عمله. وإن حجم التحالف المعادي لحركة التحرر العربي، يدل على سعة إعلامه المكثف والموجه ضدها جملة أم تفصيلا، كما يدل على ضخامة المهمة الملقاة على عاتق تلك الحركة بشكل عام وعلى عاتق حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل خاص، وعلى عاتق المقاومة الوطنية العراقية المباركة بشكل أخَص.
الإستراتيجية الإعلامية للبعث
إن الهدف المركزي في إستراتيجيتنا الإعلامية هو مواجهة الهجمة الأمريكية الصهيونية الإيرانية، والرد عليها وإسقاط دعاياتها ومنع أو تقليل مؤثراتها، لذلك فان السؤال الأساسي هو : ما هي أهم ملامح إستراتيجية العدو المشترك؟
هناك هجوم شامل على الهوية العربية، تشنه القوى الثلاث (أمريكا – الكيان الصهيوني – إيران)، وهو يقوم على تحقيق ما يلي :-
1- استكمال تجزئة أقطار الأمة العربية، بعد تجزئة الامة وفقا لاتفاقية سايكس – بيكو، باعتماد إستراتيجية تفتيت الأقطار العربية على أسس عرقية أو طائفية أو إيديولوجية أو سياسية أو مناطقية.
2- تغيير مفهوم سيادة الأمة على ثرواتها الوطنية أذ تعمل القوى المعادية، من أجل إضعاف الأواصر الوطنية بين المكونات السكانية، على تشجيع نزعة سيطرة كل مكون منها على الثروات الطبيعية الموجودة في منطقته. وهو مشروع خبيث يعزز النزعات الانفصالية بين مناطق القطر الواحد بتوفير استقلال اقتصادي لكل منها بمعزل عن المناطق الأخرى. الأمر الذي يؤسس لمشاريع نزاعات اقتصادية بين ابناء القطر الواحد تضاف إلى النزاعات الطائفية والعرقية. وهذا ما يحصل في العراق الآن، إذ يتم تقسيم الثروة البترولية بين جنوب العراق وشماله لتعميق الشرخ ودعم المشروع الفيدرالي، الذي نص عليه الدستور المفروض أمريكيا وإيرانيا، من اجل تعزيز خطة تقسيم العراق باغراء عوامل وامتيازات اقتصادية تجعل سكان المناطق الفيدرالية أو الكونفدرالية يقومون بالدفاع عنها في مواجهة الفيدراليات أو الكونفدراليات الأخرى. وهذا ما تتم الدعوة إليه أيضا في السودان بين شماله وجنوبه. وكما يمهد ويتم التخطيط له لتنفيذه في اليمن من خلال قوى الردة والانفصال أيضا.
إن هذه الخطة مصممة لإثارة الميول الأنانية الضيقة لتصبح أداة جديدة مضافة في شرذمة الأمة.
3- تسويق حجج ودفاعات عن إحياء نزعة الأقليات، والعمل على وضعها على مسار تصادمي مع هوية الأمة : الاثوريون في العراق، البربر في المغرب، الأقباط في مصر.. الخ.
4- استغلال المشاريع الدينية السياسية لوضع الدين في مواجهة مع المشروع القومي، وتغليب الانتماء الديني والطائفي على الانتماء الوطني، ووصف الرابطة القومية تارة بأنها (منتج غربي)، وتارة بأنها (ماسونية)، وتارة أخرى بأنها (عنصرية)، لأجل تعميق الشعور الطائفي على حساب الشعور الوطني وتجذير العداء للقومية العربية كخطوة فكرية وثقافية أساسية تستغل لإحباط أهداف الأمة العربية في الوحدة، وإشاعة التناقضات بين المذاهب والأديان لضمان استمرار الهيمنة الخارجية وتقسيم مناطق النفوذ في القطر الواحد تحت حجة توزيع الأدوار في حماية الأقليات المذهبية أو الدينية.
5- دعم انفصال الأقليات القومية (كالأكراد في العراق وسوريا).
6- تشجيع نشوء (كيانات) جديدة داخل الهوية الواحدة، مبنية على أساس التنظيم الحزبي أو العشيرة أو الحي أو الجهة، ولذلك رأينا دستور الاحتلال في العراق يستخدم وصف (كيانات) للأحزاب، وهو استخدام مدروس بدقة بهدف خلق جزر مجهرية داخل الهوية الواحدة، يحكمها فرد طامح أو مريض، أو الشيخ أو رجل دين، أو أكاديمي مصاب بداء العظمة.
7- منع التكامل الاقتصادي بين أقطار الوطن العربي، وإلحاق الاقتصاد القطري بالاقتصاد الأمريكي، أي عولمته وأمركته، وبذلك تضيع الثروة العربية في بحر العولمة المبنية على ترسيخ القطرية وتعزيز جزر المصالح الضيقة المتناثرة، ويصبح الاقتصاد القومي تابع يتم استغلاله لخدمة القوة الرأسمالية الكبرى، ويستخدم في أغلب الأحيان في مجال تمويل الغزو الأجنبي للوطن العربي بكل أشكاله العسكرية والسياسية والثقافية والدينية، ويتحول سكان الجزر المجهرية، حكاماً ومحكومين، إلى متلقين وتابعين لا حول لهم ولا قوة.
8 – إلى جانب تنمية وتشجيع التيارات المتسترة بالدين والطائفية وبذور الانفصالية والتشرذم، عبر الفضائيات وغيرها، ومحاولة تغليب إيديولوجيتها على الفكر القومي، فأن هناك فضائيات أخرى متخصصة في إعادة تشكيل وعينا وقيمنا وثقافتنا مستندة الى نشر قيم التحلل الاجتماعي وتعميم الغزو الثقافي على الصعد الاجتماعية والأخلاقية، في محاولة لاجتثاث القيم والأعراف العربية، باستخدام فضائيات متخصصة في إشاعة التحلل ومظاهر الإباحية والنزعات الأنانية والفردية.
ولئن كان الغزو العسكري والحصارات الاقتصادية وتفجير حروب داخلية، هو المظهر المباشر لخطر العدو المشترك، فأن الحملة الثقافية والإعلامية الغربية (أمريكا + بعض أوروبا) – الصهيونية – الإيرانية تركز على تذويب هويتنا العربية وإحلال النزعات المجهرية محلها تدريجياً ولتشويه ديننا الإسلامي، وتحويله إلى أداة صراع بين المسلمين من جهة، وسلاح لقمع حركة التحرر الوطني العربية ذات الهوية القومية من جهة ثانية، بدل أن نحافظ على الطبيعة الأصلية للصراع، وهو انه صراع تحرري بين حركة التحرر العربية من جهة والاستعمار والصهيونية من جهة ثانية، وأخيرا، وليس آخرا، زرع قيم اجتماعية وخلقية تشابه قيم الغرب والصهيونية القائمة على التحلل الأخلاقي والاجتماعي الكاملين، مع أننا ننتمي لقيم مناقضة لكافة أشكال التحلل، الأمر الذي يفجر أسوأ أنواع التناقض والصراع النفسي والفكري والاجتماعي في مجتمعنا العربي وخصوصا بين أجياله من الشباب ليخلق حالة من حالات استهداف الهوية والكينونة والاستلاب والاستتباع الحضاري، ناهيك عن خلق هوة عميقة بين الأجيال من الآباء والأبناء! وهكذا تتحول الهوية العربية إلى ذكرى من الماضي تغلبت عليها نزعات قطرية وما قبل القطرية واصغر منها، وأنانية وازدواجية ثقافية تزرعها الفضائيات ونظم التعليم العربية التي فرضت، منذ التسعينيات، لتحل محل النظم التعليمية العربية – الإسلامية.
9- محاولة إقامة نظام شرق أوسطي جديد على أنقاض الجامعة العربية، رغم هزالها، يجتث الأقطار العربية، ويتشكل من قوى إقليمية كبيرة وقوية : الكيان الصهيوني وإيران وتركيا، وبقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وداخل هذا التشكيل ستجد الدول العربية نفسها تسبح بين أمواجه، وناهيك عن الكيانات المجهرية التي نشأت على أنقاض الوطن القطري الصغير الذي قسم أو على وشك التقسيم، مهمشة وتابعة لهذا الطرف أو ذاك. لذلك فأن دور من كانوا عرب الهوية، وأصبحت هويتهم الثانوية والفرعية هي الممثل الرسمي لهم، ليس سوى تلقي القرارات والعجز عن التأثير على النظام الإقليمي مهما امتلكت هذه الكيانات المجهرية من ثروات. ومما لا شك فيه فأن هناك محاولة لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفق المخطط الأمريكي الصهيوني والإيراني، ومشروع منظومة دول البحر الأبيض المتوسط الذي قادته فرنسا، فالأول هو مشروع ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية، وتسهم فيه الصهيونية من جانب، ودول الجوار الجغرافي للوطن العربي، إيران وتركيا، من جانب آخر. أما الثاني فترعاه أوروبا بقيادة فرنسية، في محاولة لجعل كلا المشروعين بديلا عن المشروع القومي العربي، والبدء في تهديم كل المؤسسات العربية كمؤسسة القمة العربية ومؤسسة جامعة الدول العربية، لتلحق بهما كل المشاريع الوحدوية السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية التي نتجت عنهما.
أن تعزيز قوة إيران العسكرية وغزو العراق، من اجل تغييب القوة العراقية التي كانت قوة الردع الإستراتيجي للكيان الصهيوني وإيران، ليس سوى مقدمات لإقامة النظام الإقليمي الجديد. ويجب ان لا يغيب عن ذاكرتنا طلب " الكيان الصهيوني الرسمي " بالانضمام إلى جامعة الدول العربية، كما أن التوترات الأمريكية المصطنعة مع إيران هي بمثابة عمليات إعداد لتغييرات داخل النظام الإيراني تؤهله للعب دوره الإقليمي المكمل لدور الكيان الصهيوني، كما أكدت وقائع غزو العراق وما يحدث من فتن طائفية في الوطن العربي.
10- إن تحويل الأقطار العربية إلى كيانات قزمة مهمشة بلا هوية ثابتة، وفرض الهيمنة الإستراتيجية الأمريكية على الثروة العربية كمنطلق أساسي في الهيمنة على العالم، وفرض سياسة الأمر الواقع الرامية إلى جعل الأنظمة العربية والوطن العربي تابع كلياً للغرب والكيان الصهيوني، وترسيخ أبعاد الإستراتيجية الأمريكية الرامية إلى تحقيق تكامل إستراتيجيتها النفطية في السيطرة على الثروة العربية والاحتياطات الثانوية في بحر قزوين وإفريقيا، كل تلك خطوات هدفها البعيد هو اكمال عملية فرض حصار طاقة على كل العالم، تقوم به الولايات المتحدة من اجل تركيعه ودفع قواه للاعتراف بان القرن الحادي والعشرين هو (قرن أمريكي)، وان أمريكا هي التي تقود العالم فيه بدون منازع، كما خططت النخب ومراكز البحوث الأمريكية.
11- ولأجل إكمال شرذمة قوى حركة التحرر العربي، وأحزابها ووضعها في مواجهة بعضها البعض، وضعت خطة أمريكية واضحة المعالم عمادها منع القوى المناهضة لمشروع الهيمنة الأمريكية – الصهيونية – الإيرانية على الوطن العربي، من التوحد والتضامن فيما بينهما، ودفعها للاحتراب أو على الأقل خوض حروب الكلام. وتحقيقاً لهذا الغرض زرعت المخابرات الأمريكية عناصرها في الوسط الثقافي والإعلامي المناهض للاحتلال المشترك، ودربتها على إثارة المشاكل بين القوى الوطنية والقومية والإسلامية بذكاء لأجل منع وحدتها أو تعاونها في إطار عمل مشترك إعلامي – ثقافي يوضح للجماهير مسار الصراع وحقائقه.
وتكمن خطورة هذه الخطة في أنها لا تمنع توحيد القوى الوطنية فقط بل أنها أيضا تخلق اليأس والإحباط في نفوس الجماهير، مع أنها هي مصدر قوة النضال العربي ضد الاستعمار والصهيونية سواء بالقلم أو الموقف السياسي أو بالبندقية. وحينما تنجح هذه الخطة فأن المقاومين العرب سيجدون أنفسهم معزولين عن الجماهير، لأن الأخيرة لا تثق بمن يفتقر للعقل والنضج والحكمة، ومن ثم تصبح عملية تصفية القوى الوطنية والقومية والإسلامية من قبل أعداء الأمة أسهل بكثير.
12- ومن بين اخطر مظاهر الخداع والتضليل الذي تمارسه قوى العدو المشترك هو اصطناع صراعات لا مبرر لها، أو أنها ثانوية، فيما بينها ومحاولة تغليبها إعلاميا ونفسيا على الصراع الأساسي، وهو الذي يدور في العراق، لتحقيق أهداف عديدة، في مقدمتها تضليل الجماهير عن طريق اصطناع قيادة بديلة للصراع تحل محل القيادة الفعلية والميدانية التي تخوض الصراع وهي المقاومة العراقية.
أن أزمات لبنان المتكررة والمستمرة مثلاً تقدم لنا أنموذجا لهذا النوع من اصطناع صراعات ودفعها إلى الواجهة لتكون إعلاميا وسياسياً هي الطاغية على مشهد الصراع، في حين أن الصراع الرئيس والمعركة الرئيسية تدور الآن في العراق وليس في لبنان أو فلسطين أو غيرهما.
إن نظرة سريعة لحشد القوى يوضح لنا حقيقة الصراع، فأمريكا، وهي المصدر الأساسي لقوة الكيان الصهيوني والدرع الذي يحميه، تخوض الحرب مباشرة في العراق، تحشد اغلب قوتها العسكرية والمالية والاستخبارية في معركة العراق. لذلك فأن معركتها الحاسمة والرئيسية هي مع المقاومة العراقية وليس مع أي قوة أخرى.
كما أن محاولات إيران تصعيد الصراع دعائياً وسياسياً مع أمريكا، حول الملف النووي ثم حول تقاسم الغنائم في العراق والأقطار العربية، ليس سوى عملية تعبئة لزرع النفوذ الإيراني في الوطن العربي والعالم الإسلامي ومنح إيران أسلحة قوية تستطيع بواسطتها الدفاع عن نفسها بحجة أنها (تقود المواجهة مع أمريكا وإسرائيل) كما قال خامنئي، مع أنها تخوض اخطر المعارك ضد الشعب العراقي ومقاومته الباسلة، متحالفة مع أمريكا وبريطانيا، إضافة إلى أنها تعمل على تنفيذ اخطر بند في إستراتيجية الكيان الصهيوني والغرب وهو تقسيم الأقطار العربية على أسس طائفية.
إننا نؤكد هنا بأن الصراع بين المقاومة العراقية المسلحة والقوى الوطنية الداعمة لها وبين العدو المشترك الذي يحتل العراق، وهو أمريكا وإيران بشكل خاص، هو الصراع الأساسي والرئيسي في المنطقة والعالم كله، أما الصراعات الأخرى وفي مقدمتها الصراع في الساحة الفلسطينية والساحة السودانية والساحة اللبنانية، فأنها صراعات ملحقة بالصراع الأساسي في العراق وبعضها مفتعل ومفروض كالصراعات في لبنان. أن انتصار المقاومة العراقية على القوة الأساسية في تحالف الأعداء وهي أمريكا، سينسحب بقوة، ولا نقول بتلقائية، على صراعاتنا القومية في فلسطين والسودان، وستتراجع أزمة لبنان المفتعلة من قبل أمريكا وإيران، وكذلك ستتقلص قوة الدعوات الطائفية العنصرية التي شجعتها ودعمتها أمريكا وإيران من موريتانيا حتى عمان.
13- ورغم أن الأنظمة العربية تتراوح مواقفها بين المساهمة المباشرة في اغتيال فلسطين والعراق وبين الصمت والتواطؤ، فأن قواعد الصراع تفرض علينا أن ننظر إليها كمصدر تهديد ثانوي. أن مواقف الأنظمة العربية، و مهما بلغ سوءها، لا قيمة لها إلا بقدر ما يستغلها العدو المشترك، من هنا فأن التركيز على دحر العدو الرئيسي، وهو أمريكا وإيران، أو إضعافه على الأقل، سيسهم في تقليل سوء الأنظمة العربية. ويترتب على هذه الحقيقة موقف واحد صحيح وهو أن معركتنا الآن ليست مع الأنظمة العربية، بل مع العدو المشترك، وعلينا أن نبذل كافة الجهود لأجل تقليل خدمة هذه الأنظمة للعدو المشترك، حتى وان فشلنا في الاستفادة من بعضها مالياً أو سياسياً أو غير ذلك. إن قدرتنا على تضييق نطاق الأعداء وعددهم هو أمر حيوي لكسب المعركة الرئيسية في الحرب، ولذلك يجب أن نوازن بين التحديات، ونفرز من بينها التحدي الرئيس ونركز عليه، وان نعمل على تحييد بقية القوى التي تشكل تهديدات أو تحديات لنا بدرجات مختلفة. وفي علم السياسة كما في علم الحرب، لا يجوز أن نفتح معارك مع الجميع، بل يجب علينا أن نركز طاقاتنا على العدو الرئيس الأكثر خطرا، وان نحاول تحييد بقية القوى إن لم ننجح في استمالتها للتحالف معنا.
14 – أن نضالنا يجب أن يتضمن خططا مدروسة لتحسين علاقاتنا بقوى سياسية أخرى لا نتفق معها حول الكثير من القضايا، ولكننا يمكن أن نجد قاسماً مشتركاً معها حول الغزو ومحاولات شرذمة الأقطار العربية، والوصول إلى قاعدة الوفاق والاتفاق التي لا تفرط بالثوابت الوطنية والقومية ولا تغرق في التفاصيل التي تقود أحيانا إلى الخلاف والاختلاف أو التقاطع.
15 – إن العدو المشترك يستغل وجود أقليات أو جماعات تشعر بأنها مضطهدة أو محرومة من بعض أو كل الحقوق، فيحركها ضد القومية العربية ووحدة الوطن، وبدلاً من حل مشاكل هذه الأقليات في إطار الوطن الواحد يقوم العدو المشترك بدعمها لأجل الانفصال وحمل السلاح ضد الإخوة في الوطن الواحد لذلك، ولقطع الطريق على استغلال وجود مشاعر غبن لدى بعض الناس، يجب الاعتراف بحقوقهم داخل الوطن الواحد والتعامل معهم على أساس المواطنة المتساوية قانونياً وفعلياً.
16 – وان وجود قوى سياسية متعددة إيديولوجيا وسياسياً يطرح إمكانية نشوب صراعات بينها، خصوصاً بوجود عاملين يشجعان على تفجير الصراعات، وهما التحريض الخارجي، والخلفيات التاريخية التي شهدت صراعات دموية بين القوى السياسية حتى دمرت الثقة بين