منذ أن شكلت سلطات الاحتلال الأمريكي في ديسمبر 2003م ما يسمى بالمحكمة الخاصة لمحاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه، كان ذلك يعني أو يؤشر على بدء دخول المواجهة بين المقاومة وقيادتها وبين الاحتلال مرحلة أخرى، وكان واضحا أن المحتل الأمريكي وسلطته العميلة يريدان جعل هذه المحاكمة ساحة للانتقام والثأر، وليس طلبا للحق والعدالة كما يدعيان، وقد جاءت جلسات هذه المحاكمة ولجوء المحتل والسلطة الساقطة التابعة له لاستخدام أساليب غير شرعية وغير قانونية، والتمادي في أسلوب الاستفزاز في طريقة التعامل مع الرئيس صدام حسين ومع هيئة الدفاع عنه، كل ذلك جاء ليؤكد أن هذه «المحاكمة« أو «المهزلة« هي في الواقع محاكمة سياسية وليس لها علاقة بما روج له المحتل الأمريكي وإعلامه من أكاذيب وتلفيقات حول وجود ما يدعي «بقضية الدجيل«. وتوجيه تهمة ارتكاب «جرائم حرب« للقيادة العراقية في هذه القضية الملفقة بكل تفاصيلها المفبركة وشخوصها المصطنعة وروايات «شهود الزور«، وكذلك تحامل الادعاء العام الذي أفقده كل صفة «الحيادية«، وأخيراً وليس آخراً تدخلات قوى المحتل الأمريكي في توجيه سير هذه المحاكمة بصورة دائمة ومستمرة، وهو ما جعل هذه «المحاكمة« ساحة من ساحات المواجهة، وفيها كان يريد المحتل النيل من المقاومة وقادتها، ردا على إخفاقه وفشله في ساحة الميدان، حيث التقابل القتالي بالسلاح، ليكون رد المقاومة هذه المرة أيضاً بتحويل «المحاكمة« إلى صفحة من صفحات المنازلة الممتدة والمفتوحة في المواقع القتالية، حيث تخوض المقاومة المنازلة الجسور، أو في ساحة «المحكمة«، حيث استطاع الرئيس صدام حسين وهو «الأسير« ان ينازل ويطاول الاحتلال الأمريكي وخونة العراق الساقطين من السلطة العميلة ورموزها وشخوصها. وكان التماهي والتماثل بين شخص الرئيس صدام حسين وعنفوان المقاومة واضحا وجليا حيث كان عزمه من عزم المقاومة وتحديه في تحديها، وجهاده من جهادها، وهو ما أرعب الاحتلال وأربكه سياسيا وأخلاقيا وإعلاميا. وتحولت جلسات المحاكمة الى وبال عليه، في الوقت الذي كان يخطط لاستثمارها سياسيا ودعائيا، والحصول على بعض المكاسب السياسية والأمنية لقواته وللسلطة العميلة الخائبة في العراق. بل ان المحتل الأمريكي قد أوهم نفسه بأنه ــ من خلال هذه المحاكمة والتلاعب بها ــ سوف يكون قادرا على مقايضة المقاومة المسلحة بحرية الرئيس صدام حسين، ولكن بروزه شامخا ومتحديا رافضا الاعتراف بشرعية هذه المحاكمة وبكل افرازات الاحتلال وتداعياته، وكانت هذه الصلابة والمبدئية التي لم تكن غريبة أو مفاجئة ــ لمن خبر معدن هذا القائد ــ قد أدخلت المحتل في مأزق جديد إضافي، وبات اليوم على يقين بأن الرئيس صدام حسين لا يساوم على المبادىء ولا يهادن الاحتلال والعدوان، وبات متأكدا بأنه ليس هو الذي يتنازل عن حق العراق وحق الأمة ويقبل بالتعامل مع العملاء أو يفرط في سيادة ووحدة وعروبة العراق. وهكذا صارت المواجهة بين المقاومة ومنظورها الاستراتيجي المتفوق كما دبرها وأطلقها وهيأ لاستمرارها الرئيس صدام حسين، وبين الاحتلال الأمريكي وما يعيشه من ورطة حقيقية بعد تأكده في فشل وانهيار مشروعه الاستعماري في العراق والمنطقة بفعل المقاومة، وتحول هذا الواقع الى مولد لمزيد من الضغوط على «إدارة بوش« في الداخل والخارج، ومحددا لردة فعل وتصرفات هذه الإدارة وما تتميز به من تخبط وهستيرية تصل الى حد الجنون والهوس أحيانا. في ضوء هذه الحقائق علينا ان نفسر أو نقرأ ما حصل في جلسات هذه المحاكمة، وتوالي فصولها و«مهازلها« خاصة ما جرى في جلسة يوم 29/1/2006م وما رافقها من فضائح قانونية وأخلاقية في الجلسة الأخيرة التي غاب عنها الرئيس صادم حسين ورفاقه وهيئة الدفاع، وذلك احتجاجاً على تصرفات القاضي الجديد المعين من قبل قوات الاحتلال بعد ان قدم القاضي السابق (رزكار أمين) استقالته رافضا على ما يبدو تدخلات واملاءات المحتل والسلطة العميلة في توجيه سير هذه المحاكمة. وقد شاهد العالم حالة «قانونية« عجيبة ونادرة في هذه المحكمة، تمثلت في الاتفاق والتناغم لدرجة التطابق في المواقف بين القاضي الجديد والادعاء العام. والرغبة المحمومة لدى أركان هذه المحكمة في سلخها والدفع بها الى نتائجها المرسومة والمعدة سلفا من قبل المحتل الأمريكي، وهي إقرار التهم الباطلة الموجهة للرئيس صدام حسين وإصدار الحكم الجائر بحقه. ولعل هذا ما يفسر تلك الزيارة العاجلة التي قام به عضو لجنة القضاة في الكونجرس الأمريكي، وما أعقبها في استبدال للقاضي بعد ان جرى اتهام القاضي الأول بالتهاون والتساهل في إدارة جلسات المحكمة، وتول الثاني رئاسة المحكمة، والذي أراد ان يوهم المتابعين و«المتفرجين« بأنه صارم وحازم منذ البداية، وبصورة فيها الكثير من التكلف والتشنج والتصنع في الأداء، مما أوقعه في العديد من الأخطاء القانونية والإنسانية، كاشفا بذلك عن فصل مسرحي جديد في هذه «المهزلة« التي تسمى زورا «بالمحكمة«، كما كشف لنا اننا أمام «ممثل هزيل« لم يحسن إجادة الدور الذي اسند إليه وساهم «بحماقته« في إفشال كل السيناريو الذي جرى إعداده من قبل المخرج الأمريكي. اضطر معها هذا الأخير الى التدخل مرة أخرى والطلب منه تأجيل الجلسة حتى يتمكن هو والسلطةالعميلة المرعوبة معه في إعادة ترميم أو تصليح ما أفسده هذا «الممثل« القادم من إحدى «مقابر التاريخ«. وبمناسبة الحديث هنا عن التاريخ، دعونا في هذا السياق الرجوع قليلاً الى التاريخ القريب جدا الخاص بتشكيل هذه المحاكمة، في محاولة منا للتذكير ببعض الحقائق، لعل ذلك يقرب لنا الصورة أكثر في فهم «العدالة الأمريكية« المزيفة التي يريد «بوش« وزمرته نشرها في العالم، ومن هذه الحقائق على سبيل المثال لا الحصر: 1 ــ حسب القانون الدولي واتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب، فإن الوضع القانوني للرئيس صدام حسين وأعضاء الحكومة العراقية وأعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذين جرى أسرهم من قبل القوات المحتلة، هم جميعاً يعتبرون أسرى حرب حسب القانون الدولي (وقد أعلن رامسفيلد في البداية ذلك صراحة). وهم بهذه الصفة يجب ان يتمتعوا بحماية «الدولة المحتلة«، وكان يجب على قوات الاحتلال إطلاق سراحهم بعد انتهاء العمليات العسكرية في العراق بعد ان أعلن الرئيس الأمريكي بوش في 2/5/2003م من على حاملة الطائرات الأمريكية (لنكولن) انتهاء العمليات الحربية وادعائه «بإنجاز المهمة«. ولكن الذي حصل ان المحتل الأمريكي قد غير رأيه وواصل احتجازه القيادة العراقية، وأعلن عن نية تشكيل محاكمة عسكرية «لمحاكمتهم« بتهمة ارتكاب جرائم حرب. ولكن مرة أخرى يكذب المحتل ويكشف عن حالة مأزقه وتخبطه عندما سمح للحكومة العميلة التي أوجدها لمحاكمة قيادة العراق تحت مزاعم وجود «حكومة سيادة وطنية«، ولا أظن ان أحدا في العالم حتى هذه اللحظة قد هضم أو ابتلع «كذبة« السيادة الوطنية في العراق. 2 ــ ان تشكيل هذه «المحاكمة« قد تم من قبل ما يسمى «بمجلس الحكم«، وهو المجلس الذي أوجده رئيس الإدارة المدنية لقوات الاحتلال الأمريكية (بريمر)، الأمر الذي يطرح منذ البداية العديد من التساؤلات حول مدى شرعية هذه المحاكمة، وقبلها وبعدها شرعية السلطة التي أصدرت تشكيلها. وهو ما يؤكد الطابع السياسي لهذه المحاكمة وبعدها عن صفة «الجنائية« التي يروج لها المحتل الأمريكي، والى هنا وسنترك هذه المسألة الى رجال القانون الذين هم أعلم منا وأقدر على تحديد أصول (المحاكمات الجنائية) وما تفرضه من التزامات على الدول التي تنشىء مثل هذه «المحاكمات وعلى رأسها ضمان محاكمة الأشخاص بإنصاف وعلانية من قبل محاكم مختصة ومستقلة وحيادية يتم تشكيلها بموجب القانون، ولا نظن ان أحدا يستطيع الادعاء بأن «المحكمة المهزلة« القائمة حاليا تحوز على هذه الصفات أو بعضها؟ 3 ــ إن جهة اختيار القضاة وأعضاء هيئة الادعاء لهذه المحكمة هي كما قلنا «مجلس الحكم« ذاته المعين من قبل الاحتلال وليس هيئة مستقلة مثل المجلس الأعلى للقضاء مثلا، وهو ما يعتبر خرقا فاضحا لاستقلال القضاء الذي تحرص كل دول العالم على استقلاليته ونزاهته. وحيث ان أمر تشكيل هذه المحكمة قد أنيط الى جهة سياسية وليس قضائية، فإن المسألة تبدو عادية وطبيعية في استخدام أو توظيف هذه المحكمة لأغراض سياسية من قبل «للسلطة التنفيذية« التي أوجدتها، وكذلك مسألة عزل أو تعيين رئيس للمحكمة وهو ما يجعل هذا القاضي أو ذاك عرضة للتلاعب أو الابتزاز، وهو ما يمثل إخلالا جسيما بضمانات عمل القاضي وما يجب ان يتمتع به من شرف وعدالة، وما يتمتع به من قوة واستقلالية تحصنه ضد العزل أو أي ضغوط قد تمارس عليه من قبل السلطة السياسية. ترى هل ما حصل ويحصل في هذه المحكمة وطريقة اختيار قضاتها يعكس شيئا من هذه الاستقلالية أو الحيادية؟؟ 4 ــ إضافة الى ما تقدم، فالعالم كله يعرف الأجواء غير الطبيعية التي تنعقد في ظروفها هذه «المحاكمة« من قبيل تشديد الإجراءات الأمنية وإخفاء مكان المحاكمة وشيوع حالة الهلع والخوف في أوساط قوات الاحتلال والحكومة العميلة عند انعقاد جلسات هذه المحاكمة . وكذلك حالة الفوضى والارتباك والأخطاء الفنية والتنظيمية والقانونية التي ترافق عقد جلساتها، والتحكم فيما يجب ان يصل الى الإعلام منها، كل ذلك يكشف عن ضعف وهشاشة الوضع السياسي والأمني الموجود في العراق. كما ان هذه المحكمة هي بالأساس وليدة احتلال غير شرعي وحكومة عميلة هي نفسها متهمة بارتكاب جريمة «الخيانة العظمى« بتعاونها مع الاحتلال في تهديد وتدمير البلاد وقتل شعبها، وهذه من أهم أسباب مأزق هذه المحاكمة وتآكلها، وأن تبديل شخوص القضاة لا يمكن ان يغير من هذه الحقائق شيئا، وفي المقدمة منها حقيقة تعمق مأزق الاحتلال في هذه «المحاكمة« بالتوازي مع مأزقه وانهياره المحتوم أمام ضربات المقاومة المتوالية عليه. وعود على بدء، نقول ان محاولة الاحتلال الأمريكية الخائبة بالرد على المقاومة من خلال «مجريات« محاكمة الرئيس صدام حسين سوف لن يوقف أو يؤخر مصير المواجهة التاريخية المفتوحة بين المقاومة بقيادة البعث وبين الاحتلال الأمريكي، التي سوف تحسم عاجلا أو آجلا لصالح الشعب العراقي بدحر الاحتلال وهزيمته وإسقاط وتدمير السلطة العميلة. وكما نجحت المقاومة حتى الآن في تطويق وإفشال المشروع الاحتلالي السياسي والأمني والاقتصادي في العراق، فإن الرئيس صدام حسين قد نجح هو الآخر في تفتيت وتقزيم «المحاكمة« المهزلة، والدفع باتجاه تعريتها قانونيا وأخلاقيا، وزعزعة هيكلها القضائي، وستبقى هذه الحقيقة تقض مضاجع المحتلين والعملاء بعد ان تأكدت خسارتهم في هذه المواجهة بفضل اليد الطولى للمقاومة وقيادتها.