د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
ليست المقاومة قانونا شرعيا ووضعيا فحسب، بل هي فطرة الانسان التي يجابه بها تهديد الوجود على المستوى الشخصي والعام، ولعلها من أكثر الوسائل الشرعية التي تكتب بها الشعوب تواريخها. كانت المقاومة العراقية أول تصدٍ تاريخي منفرد بدون غطاء دولي أو أقليمي، ضد القوة الاولى في العالم في العصر الحديث. فلا معسكر أشتراكي يدعمها، ولا حاضنة أقليمية تمنحها عُمقاً ستراتيجياً. بل أنها كانت الاولى التي لم تحصل على أعتراف أممي حسب القوانين الدولية، وتعرضت الى شتى الطعون، والصقت بها التهم جزافاً بقصد أو بدونه. لكنها صنعت تاريخها على الرغم من أن ظروف صنع هذا التاريخ لم تكن جميعها تحت السيطرة. كانت سنوات الغليان 2003 2009 هي الاختبار الحقيقي لشعب العراق وللمقاومة، لأنها الصفحة الاولى والاهم لإثبات الوجود وتعزيز الذات وأظهار البطولة.
كان الفشل في الميدان والهروب أمام المحتل، يعني صناعة تاريخ جديد بأيدي من يقولون أنهم المنتصرون، وكان يعني أن اللافتة التي رفعها بوش على البارجة الامريكية (المهمة أنجزت) تصبح حقيقة على أرض الواقع بكل أستحقاقاتها المرحلية والمستقبلية. حتى الجغرافيا كانت ستتغير ليس في العراق فقط بل المنطقة بأسرها. لكن المصدات العراقية هي التي أسقطت كل تلك الاولويات من المنهج الاستعماري الجديد، وجعلت المحتل يسعى الى زيادة قواته لتقليل هزائمه، وينفتح حتى على من كان يروم أسقاطهم بعد العراق كي يساعدوه في أيقاف جحافل المقاومة التي شكلت الصدمة الكبرى لديه، بعد أن قررت مجابهة التاريخ وجها لوجه.
أغاضت المقاومة العراقية وهي تسجل نصرها أصحاب نظرية قبول الامر الواقع والاستسلاميين، والباحثين عن المصالح الشخصية ورجال دين وزعماء قبائل وكتاب ومثقفين كثر، وأتحد مع هؤلاء بعض الحكام الذين باتوا يخافون صحوة المحكومين. فتشكل طيفا واسعا لتشويهها، وتحركت أقلام وأموال وفتاوى وأجهزة أستخبارات لصد فعلها، حتى حان وقت القول بأن الاحتلال قد رحل وعليكم القاء السلاح.
ولكي نكون واضحين جدا نقول بأن البعض من المحسوبين على المقاومة قد دغدغ غرائزهم هذا القول، فباتوا في أنتظار رسول السلطة التي نصبّها المحتل كي يقول لهم تفضلوا للحوار. فذهب من ذهب، وأبى من أبى. إن الفعل الستراتيجي الذي حققته المقاومة كان إصابة الهدف الذي لم يستطع أحد غيرها إصابته وهي القوة العسكرية الامريكية الغازية وحلفاؤها، وبذلك أكتسبت عظمتها بعد أن أضافت الى التاريخ صفحة ناصعة جديدة. ولكي تكتسب العبقرية إضافة الى العظمة فإن عليها إصابة الهدف الذي لايستطيع غيرها رؤيته، كما يقول الفيلسوف الالماني شوبنهاور. فالسلطة الحاكمة اليوم لم تصبح بعد شكلا مقبولا تماما على الصعيد الداخلي والخارجي. ولازالت لاتملك الشرعية والمقبولية الشعبية لأنها جاءت مع الاحتلال، على الرغم مما يقال زورا بأنها نتيجة صندوق الانتخاب، كما أن الكيمياء التي تتكون منها المعادلة السياسية في المشهد العراقي، لم تعرف التوازن حتى الآن، بل هي في اقصى حالات الاختلال الذي يرتب خسائر يومية على حياة المواطن ومصالحه. كما أن الشعب العراقي لازال يملك قوة الرفض الكامنة التي يمكن أن تُعين المقاومة على المرحلة الجديدة بجهد مضاف. إذن فإن الهدف الذي يجب على المقاومة أن تحشد له في الوقت الحالي، والذي لايستطيع أحد غيرها رؤيته هو الوضع السياسي اللاشرعي القائم اليوم، لأن سلطة المال والمصالح التجارية والسياسية والزمن قد تعطي شرعية لمن لاشرعية له في عالم اليوم خاصة عندما يكون صناعة أمريكية، وبالتالي لايصبح هدفا في نظر الاخرين حتى لو قتل نصف شعبه، لذلك فإن الاحتياطي المضموم لدى كافة فصائل المقاومة قد حان وقته الآن، وعليهم أن يصنعوا محطتهم الثانية التي تتمثل في صنع عراق ديمقراطي حقيقي تتحقق فيه أنسانية الانسان كقيمة عليا، وأن أعطاء إنطباع واضح وشفاف بأن هدف المقاومة ليس التحرير فحسب، بل تحقيق الاستقلال الناجز وإعادة بناء الوطن على أسس الوحدة الوطنية، سيكون السد المنيع في وجه كل القوى التي تنظر الى المقاومة على أنها مرحلة باتت في الخلف. إن إشتراك المقاومة في صنع القرار العربي بما يخص القضية العراقية، وتحفيز الدبلوماسية العربية كي تكون في صف المشروع السياسي للمقاومة، خاصة في الظرف الراهن الذي تنشط فيه لدعم بعض الاشقاء العرب في عدد من الاقطار، والابتعاد عن صنع أعداء للمقاومة سواء في الداخل أو الخارج، باتت قضايا جوهرية لابد من العمل عليها. لكن ذلك لايتم الا على أساس القوة المعنوية وصبر المطاولة التي تملكها، لذلك عليها تطوير أمكاناتها ووسائلها السياسية وأن تعبر حاجز التفكير في أستراحة المحارب، كي لايكون هنالك إندفاع غير محسوب للاستجابة الى شروط السلطة القائمة اليوم، والتي تحاول فتح باب الحوار. كما أن أبتعاد كل فصيل عن الفئوية في المطالبات يعزز وحدة الهدف، ويأتي بكل طبقات المجتمع الى ساحة التأييد والمساندة والتعاطف معها، مما يوفر لها جدران صد كبرى وحواضن شعبية كثيرة.
وأذا كانت وحدة فصائل المقاومة مطلبا شعبيا وهدفا يسعى له الجميع، فأن عدم تحققها حتى الآن لايعني تشرذمها أو وجود خلافات جوهرية في الرؤى، بل يعني أن القضية المركزية تضاء من زوايا مختلفة وهي حالة صحية وليست مرضية، وأن المرحلة الآنية تتطلب من جميع الفصائل وكتابهم وناشطيهم السياسيين وقنواتهم الاعلامية، التحرك الفعال بأتجاه أبقاء جذوة المقاومة فعالة في النفوس، كي نقارع الاتجاه السلطوي الذي يسعى الى تسقيط هدف المقاومة بأكذوبة رحيل المحتل. أن التعبئة التي هُزم بها الغزاة يجب التركيز عليها لاستكمال المنهج، فحالة الفخر والاعتزاز بالافعال البطولية للمقاومة في بريطانيا وفرنسا وغيرها من دول أوربا ضد الغزو الالماني، لازالت مُتّقدة في نفوس هذه الشعوب رغم مرور عقود طويلة، لأنها فِطرة أنسانية. أن بناء علاقات ستراتيجية بين المقاومة والمنظومة العربية هي حالة صحّية تماما، وليس مُعيبا أن تسعى المقاومة لتعزيز الجانب المادي والسياسي والشعبي لديها من خلال هذه العلاقة، بل هو واجب تفرضه صِلات الدم والمصير والدين، مع التركيز على عدم السماح بتخطي الداعمين حدود المقاومة أو أستخدامها لاغراضهم السياسية وأعطاء القيادة لهم. وأذا كانت السلطة تتهم المقاومة بتلقي الدعم من هذا القطر أو ذاك وتعتبره وسيلة للنيل من شرف المقاومة، فلانها باتت عارية أمام الجميع نتيجة ارتمائها في أحضان أعداء الامة، وتحاول بهذا الادعاء التغطية على عوراتها من خلال المساواة بين الدعم العربي والدعم الايراني، الذي مُحال أن يتساوى. لقد عبرت المقاومة العراقية الباسلة ضِفاف بُحور التحدي والاتهامات وباتت أقرب الى نفسها وشعبها وأرضها من أي وقت مضى، ولن يفتّ في عضدها اليوم أتهامات البعض وتشكيك الاخرين وأزدواجية المعايير في الفعل المقاوم على المستوى الدولي والاقليمي، حيث تعرف أن كل التجارب التي سبقتها تعرضت الى نفس التشويه. فعندما قاتل الفيتناميون اليابان كانت أمريكا تعترف بهم كمقاومة، لكنهم عندما قاتلوا الغزو والاحتلال الامريكي كانوا يسمونهم أرهابيين
القدس العربي
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.