قد يظن البعض اني أدافع عن النظام السابق في العراق، وأدفع التهمة عن حكم الرئيس صدام حسين وحزب البعث وأبرئهما من الأخطاء، وقد كنت على العكس من ذلك، فلست من أنصار النظام، بل كنت أكثر زملائي تعرضا بشكل حاد لسلوك العهد السابق، ولم أتوقف عن نقدي اللاذع له إلا بعد أن صدمتني مكتسبات التحرير المزعوم على يد الجيوش الغازية، والنعمة التي جلبها لنا من رافقه من الأبناء العاقين الذين ضلوا الطريق، وارتضوا العمالة وباعوا أنفسهم للشيطان، ولهول ما رأيت وعانيت، ولشدة ما قاساه شعبي من تفشي الفساد والعنف والإرهاب، عضضت على أصابعي عضة الألم والندم.
أقولها بصراحة حكمنا البعث والرئيس صدام حسين ثلاثين عاما، كنت أقول عنها لم يحكم العراق أسوأ منه، فقد حدثت في ظل حكمهم أخطاء وإعدامات وقسوة ولا جدل في ذلك، وسيأتي يوم نحاسب فيه النظام السابق في كتاباتنا، ولكن حساب عتب ولوم وليس حساب تنكيل وتشفي وابتزاز وتخوين كما يفعل المتنطعون (البدون) اليوم، فما جرى في حكم صدام الذي يتهمه أزلام الغزاة المحتلين دائما بالمقابر الجماعية، وينسجون عنها قصصا خيالية مبتدعة هي ليست أكثر من أكذوبة اعتاد عليها المستضعفون المتظلمون في مناقبهم المزعومة، فالمقابر الجماعية أشبه ما تكون بالخزعبلات والخرافات التي يدين بها هؤلاء ويتشدقون بها في مجالسهم الحزينة وفضائياتهم الكئيبة.
لقد شاهدت مقابلة تلفزيونية كان بطلها رئيس لجنة الأمن القومي العراقية للدفاع عن الغزاة على مدى خمس سنوات بعد الاحتلال، ثم تقاعد بعدها أو أحيل على التقاعد، وسبق أن قدم في السبعينات عريضة بتوقيعه يطلب فيها منحه الجنسية العراقية والتخلي عن جنسيته الإيرانية ورفضت، وبقدرة قادر صار على زمن الاحتلال اكبر مسؤول أمني عراقي، فتدبر وتفكر؟ وسئل «الزلمة» عن الدول التي كانت تتدخل في شؤون العراق وخاصة إيران، فاعترض على مقدم البرنامج ليتخلص من الإجابة، لا نريد أن نتكلم عما جرى سابقا، فلا تسألني عن الفترة السابقة لكي لا نبقى نلوك الماضي ولو كان قريبا، وابتسمت مع نفسي من صفاقة هؤلاء، وتساءلت ألستم من ينبشون التاريخ بحثا عن أساطير منسوجة، هل تركتم الحديث عن أكذوبة المقابر الجماعية التي اتخذتموها ترنيمة وتراتيل مقدسة تتغنون بها على نقر دفوف المظلومية والثأر المزعوم عشرات السنين ومازلتم، أما إيران لأنكم من دمها فعلينا أن ننسى فعالها السود حتى لا ننبش الماضي! ولله في خلقه شؤون.
يا سادتي وأنا المسؤول أمام الله ما ارتكب من أخطاء وجرائم في عهد النظام السابق خلال ثلاثين عاما لا يوازي ما ارتكب من القتل على الهوية والخطف والتعذيب والاغتصاب والاعتقال والتهجير والتفجير والجوع والفقر والمرض وما جرى في شهر واحد من أيام الاحتلال وحكوماته المتعاقبة. فما وقع في الشهر الأخير من عام 2006 فقط بحسب وثائق ويكيليكس أن عدد القتلى تجاوز خمسة آلاف وخمسمئة قتيل وهذا هو العدد الذي تعرفه جيوش المحتل وتسجله مذكراتهم. ومن بينهم أربعة آلاف وخمسمئة مدني بريء، ومثل هذا العدد لم تسجله المذكرات وخفي على المحتل ووسائل الإعلام، فهل حدث مثل هذا في التاريخ في أي بلد من بقاع الدنيا.
نحن شاهدنا ما عرضه المحتلون على الفضائيات وما قيل عنه أكبر مقبرة جماعية زمر لها المحتل في جنوب العراق قرب النجف الأشرف، ولم تكن غير مقبرة رسمية للضحايا العراقيين في حرب الخليج الثانية قتلى وشهداء من الجنود والمدنيين العراقيين على يد القوات الدولية التي جاءت لتحرير الكويت وقتلى من الإيرانيين الذين دخلوا العراق لنشر الغوغاء، وقتلى التمرد ممن لم يسأل عنهم أهلهم لأسباب عدة في ظروف صعبة جدا انعدمت فيها التنقلات، وحصيلتها الكلية وصلت إلى أربعمئة جثة.أما بقية المقابر التي تضم عشرة وعشرين جثة فهي مدافن جنود عراقيين شهداء مجهولين وجثث مشوهة أثناء المعارك في الحرب العراقية الإيرانية يجمعون على مدى شهر أو أكثر، فإذا تأخر أهلهم بالسؤال عنهم وعدم التعرف على جثثهم لظنهم أنهم أسرى أو مفقودين فيدفنون قرب مواقع وحداتهم العسكرية مع وضع قنينة فيها كل التفاصيل، ولكن السياسيين الجدد استغلوها للدعاية المضادة وعزفوا على أوتار قيثارتها المشروخة.وشاهدناهم بالفضائيات كيف أشاعوا أن هناك مساجين تحت الأرض يسمعون أصواتهم من بئر مموهة بالمياه، ويتسمعون إلى الأرض بآذانهم ويقسمون أنهم يسمعون صراخ المساجين، وبالنهاية لم يجدوا شيئا. وقالو تحت قصور صدام سراديب وممرات ومدن وعالم آخر جديد فيه تختبئ جيوش الحرس وملاجئ لأسرة صدام يستطيع التخفي فيها سنين ولم يظهر أو يثبت شيء من ذلك.
ونتساءل: لماذا لا يتحدثون عن المقابر الجماعية المكشوفة التي ترتكبها العصابات ومفارز الطرق والجثث الملقاة في الساحات والترع وعلى المزابل ومكبات النفايات. لماذا لا يقولون: هل عشنا قبل
الاحتلال الفرز الطائفي والعنصري الذي يعيشه العراق اليوم؟ هل رأينا الأسوار والكتل الكونكريتية التي تفصل بين الأحياء في المدينة الواحدة التي نشاهدها اليوم؟ هل رأينا الحواجز وفرق المليشيات وعصابات القتل التي مرت بنا؟ هل عانى العراقيون الفقر والمرض في ظل الحصار كما يعانون اليوم في ظل تدفق النفط لمن هب ودب؟ هل كان هناك من المسؤولين من يتقاضى مرتبا خمسين مليون دينار شهريا؟ هل سمعنا في شوارع بغداد أو غيرها من المدن من يعرف اللغة الفارسية أو يتحدث بها؟ هل كان لجيش القدس والمخابرات الإيرانية عملاء يصولون ويجولون في العراق، وهل كان الصهاينة وجواسيسهم يسرحون ويمرحون في شمال العراق، وكم وكم ولكن: لقد أسمعت لو ناديت حيا… ولكن لا حياة لمن تنادي.ونتساءل لماذا لا يتحدثون عن المقابر المكشوفة والمفتوحة والجثث التي تجمع من المزابل والقنوات والبرك والساحات، وعن مصير مئات المغدورين والمفقودين الذين تحفظ جثثهم في جناح الطب العدلي قرب مدينة الطب وتدفن آخر كل شهر في النجف بمقابر جماعية. وهي معلنة في وسائل الإعلام.لا نقول إلا ما قال الله تبارك وتعالى: «يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».