اسماعيل أبو البندوره
غاب عنا -مدججا بالعز من أمجاده.. مشردا عن بلاده- أحد قادة الفكر القومي العربي الدكتور الياس فرح بعد رحلة شاقة ومضنية قضاها في النضال من أجل تطوير الفكر القومي وتجديده وضخ أفكار تجديدية في سياقاته، وفي الدفاع عن القيم العربية النبيلة والأصيلة، وعن الأمة وفكرها وموقعها في التاريخ. غاب وعينه على بغداد الجريحة التي أنشأ فيها معظم أطروحاته وكتاباته الهامة ودروسه.. غاب منفطر القلب وهو يرى بلده سوريا في اقتتال وانشطار وتبدّد، حزينا وهو يرى أمته العربية في تلاطم ومخاضات قاتلة.
انها رحلة وجع لمفكر حاول أن يبحث عن النور والتنوير ويؤسس للنهضة في كافة أنحاء وطنه العربي، وتقصى لهذه الغايات الأحداث والأفكار واستمد منها مشروعه ومنهجيته فقرأ واستقرأ وبقي يؤمن بمستقبل وانبعاث لهذه الأمة مهما تكالبت عليها المحن والمشكلات، وكان عمق فكره وأصالته دليله الى هذا المستقبل الذي بقي مؤمنا به حتى آخر لحظة من حياته.
عندما نفكر "بنظرية البعث" وفكره فاننا نتوقف طويلا عند اسهامات الراحل الياس فرح الفكرية القيّمة والثريّة المؤسسة والشارحة لنظرية ونصوص هذا الفكر واشكالياته، وطريقته ومنهجيته الخلاقة في استنطاق هذه النصوص والغوص في دلالاتها والاضافة والبناء عليها، ولم يكن في كل ماكتب "أصوليا" بعثيا يقدس النصوص ويضعها في مصاف المطلق، وانما كان باحثا عن جوهرها وماتقوله أو مايمكن أن يقوله ويجسده هذا الجوهر في الأزمان المختلفة، ذلك أنه سعى مثل غيره من المفكرين الكبار بجعل النصوص معاصرة لذاتها ومن ثم معاصرة لنا. وكانت تلك مزية هامة من مزايا أطروحاته في اعادة البناء والتأويل والتجديد، كما أنها كانت مدارا لاشتغاله الفكري والقومي.
كان الدكتور الراحل الياس فرح مراجعا لكل الأفكار العالمية والقومية بشكل خاص بغية الاستبصار الواعي واستمداد المعاني، وضخ أفكار جديدة في سياقات الفكر القومي العربي لرفده بمعطيات الفكر العالمي وايجابياته ومن أجل تحقيق التواصل والتكامل والانسجام بين مانفكر به قوميا ومايفكر به العالم في كل لحظات العصر، وما يمور فيه من تحولات متسارعة، فالمعاصرة والتجديد والحداثة كانت أحد هواجسه الكبرى ومنظورا حضاريا يرى به ومن خلاله حركة الفكر والأفكار ويدقق في كيفيات استلهامها لدى الأمم المختلفة، ولذا وجد مهمته الفكرية الكبرى في جعل هذه المعاصرة منظورا وسياقا من سياقات تطور الفكر القومي وليس احلالا لفكر آخر أو ابدالا اعتباطيا له ولسياقاته الجوهرية مثلما فعلت بعض الأحزاب والقوى السياسية العربية عندما اندغمت قصورا واعتباطا في فكر آخر.
وكان له رأي وأطروحات واضحة ودقيقة عندما ناقش قضايا وأطروحات الفكر الماركسي وكيفية التعامل معها قوميا في التأكيد على رفض الاسستسلامية العلمية والاستلاب والاغتراب، والاصرار على المقاربة والمحاورة النديّة والخلاقة.
نستذكر الدكتور الياس فرح بفكره وأطروحاته ومنهجيته وتجديده واضافاته أولا قبل أي فصل آخر من فصول حياته النضالية المديدة والشاقة والعامرة الغامرة، واغترابه في أكثر من مكان، لأن أي تعريف أو استذكار لهذا الانسان النبيل الوديع الكبير سوف يبقى ناقصا اذا لم يتوقف امام هذا العقل القومي الخلاق الذي أسهم اسهاما مميزا في تطوير الفكر القومي والبعثي منه تحديدا وناضل من أجل حرية العرب ووحدتهم نضالا قاسيا لايلين، وغادر بغداد مكرها، مهيض الجناح وحزينا، وبقيت عينه عليها وعلى مقاومتها الباسلة وعلى الرجال الرجال الذين شاركهم واقتسم معهم كل لحظات النهوض والدفاع عن حياض الأمة العربية ووجودها وتاريخها ومشروعها القومي النهضوي.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.