لم يعد أحد يجادل بأن الواقع الذي يمر به القطر العراقي الشقيق قد جعل المرحلة الراهنة من أسوأ المراحل في تاريخ أمتنا العربية، حيث تعيش أقطارها حالة من التفكك والذل والهوان وحالة من التراجع على كل المستويات وإلى "مديات" مخيفة تصل إلى ما دون الصفر، بعد أن تضاءل وزنها وتأثيرها في مجرى الأحداث التي تشهدها المنطقة، فالعرب لم يعودوا لاعبين أساسيين فاللاعبون الاقليميون هم تركيا وإيران والكيان الصهيوني.
وهذا الواقع ذاته هو الذي جعل الأشقاء العراقيين يعيشون وضعاً ظالماً ومظلماً لم تعرف أو تشهد البشرية له مثيلاً، واقعاً جرى فيه سرقة العراق من حضن أمته العربية ورميه في أتون محرقة أشعل نيرانها المحتل الأمريكي وزمر الشر والعمالة التي جلبها معه، وتم تقاسمه أو تقاسم المصالح فيه بين الاحتلال بوجهيه الأمريكي والايراني، وتحول هذا البلد العربي ــ الذي كان يوماً ملء السمع والبصر ــ إلى مرتعاً لأجهزة المخابرات الصهيونية وغيرها وإلى وكر لعصابات القتل والإرهاب تمارس فيه أبشع جرائمها بحق الناس الأبرياء.
كل هذا الذي حصل ويحصل في العراق، والأنظمة العربية عاجزة عن فعل التأثير أو التغيير المناسبين في هذا الواقع، بعد أن جرى ابعاد العرب (قسراً أو طوعاً) عن هذا البلد، بل الحقيقة أنه لم يعد مقبولاً أو مسموحاً للعرب بالوجود في الساحة العراقية من دون موافقة وإرادة قوى الاحتلال، وبما يخدم مصالح هذه القوى وليس مصالح العراق أو العرب، بمعنى أنه إذا ما فكرت الأنظمة العربية في التحرك باتجاه العراق بهذا الشكل أو ذاك فعليها أن تدخل من بوابة المحتلين وتحت مراقبتهم.
ان الذي نقوله هنا ليس تنظيرا مجردا أو تحليلا سياسيا يتجاوز الحقيقة والموضوعية، بل نحن على يقين بأن هذه الحقائق لم تعد غائبة عن تفكير وهواجس النظام العربي الرسمي، فجميع الدول العربية ــ من دون استثناء ــ صارت تلمس لمس اليد التداعيات الكارثية لغياب العراق على مجمل هذه الأقطار العربية وعلى قضاياها في كل ساحة الوطن العربي.
وإذا نحن حاولنا اليوم تجاوز دور النظام العربي الرسمي فيما آل إليه الوضع في العراق، وتغافلنا عن تواطؤ بعض الدول العربية مع الدول الاستعمارية وحلفائها في غزو العراق عام 2003، بعد أن سقطت تلك الدول (واعية أو غافلة) في فخاخ الخداع الأمريكي، وارتضت أن تكون أداة من أدوات العدوان والحصار الجائر الذي فرض على العراق مدة ثلاثة عشر عاما تمهيداً لغزوه واحتلاله، وهي اللحظات التي بدأ فيها هذا النظام العربي الرسمي يعلن سقوطه وتخليه – طوعاً أو كرهاً – عن تأثيره ودوره السياسيين وفقدانه هويته الوطنية والقومية وبالتالي فقدانه الإرادة والسيادة في اتخاذ القرارات التي تخدم المصالح الوطنية والقومية لهذه الأقطار..
نقول لو تجاوزنا كل ذلك – بالرغم من مراراته وقسوته -وافترضنا أن هناك اليوم صحوة عربية تجاه ما يحصل في العراق، وأن هناك وعيا حقيقيا بدأ يتبلور لدى الأنظمة العربية وقادتها حول مخاطر ما يجري في هذا البلد على مستقبلهم جميعاً، خاصة بعد أن تأكدت حقيقة فشل وهزيمة مشروع الاحتلال الأمريكي في العراق، وصار هذا الفشل وتداعياته يمثل أزمة كبرى للدول العربية خاصة تلك التي استجابت للخداع الأمريكي وتواطأت على العراق وشاركت في احتلاله.
في مثل هذه الحالة – واستجابة لمنطق المصالح، ولا نقول منطق المبادئ – أن تلك الصحوة المتأخرة – إذا ما وجدت فعلاً – تستدعي اتخاذ خطوات ضرورية وفورية لا تتحمل أي تأجيل أو تسويف، وأولى هذه الخطوات إعادة النظر في طريقة وأسلوب التعامل مع القضية العراقية بصورة جذرية وفك الارتباط بعجلة مشروع الاحتلال الأمريكي في العراق، وهو ما يعني النظر إلى قضية العراق باعتبارها قضية تحرر وطني، كما يحصل مع أي قطر يتعرض للعدوان والاحتلال اللذين لابد أن يقودا حتماً إلى فرز نقيضهما، أي إلى وجود المقاومة الوطنية للقضاء على هذا الاحتلال الذي هو السبب الرئيسي لكل ما جرى ويجري حاليا في العراق، فالترجمة الحقيقية للصحوة العربية المفترضة، تكون بمد الجسور مع المقاومة الوطنية العراقية واحتضانها على المستوى القومي، كما هو حاصل على المستوى الوطني، وتقديم الدعم المادي والسياسي والإعلامي لها.
وعندما نقول أو نطلب إلى الدول العربية إعادة النظر في سلوكها ومواقفها تجاه المقاومة الوطنية العراقية، فاننا ننطلق من حقيقة لم تعد موضع شك، وهي أنه طوال سبع سنوات من عمر الاحتلال قد تأكد أنه لا جدوى للعرب من الاصرار على الوجود أو الدخول إلى العراق عبر بوابة الاحتلال، أو المراهنة أو اللجوء إلى دعم هذا الطرف أو ذاك من أطراف ما يسمى العملية السياسية المزعومة، لأنه رهان خاسر، فليس هناك طرف من هذه الأطراف معني بمصلحة العراق أو حامل لهموم العراقيين، بل هم جميعاً يتسابقون على احتلال المواقع التي توفر لهم الفرصة للإمعان في الجريمة والفساد والسرقة والنهب، وأن ما يشهده العراق من صراعات بين هولاء العملاء لا يخرج عن كونه صراع "اللصوص" للاستحواذ على أكبر قدر من "الغنيمة" والمكاسب الشخصية والحزبية والطائفية، بل هو صراع "ذئاب" تتكالب على سفك دماء العراقيين والنهش في لحومهم. فكل هؤلاء ليسوا سوى ادوات واذرع اجرامية للاحتلال ولنا في التفجيرات الاجرامية الأخيرة وفي كل ما سبقها من أعمال إرهابية وما يرافقها من مشاهد مروعة خير دليل على مدى استهانة هؤلاء العملاء بالدم العراقي والمتاجرة به في دعايتهم الانتخابية، وفي كيفية تسخير امكانيات الدولة واجهزتها وميليشياتها في ترويع وقتل العراقيين، وقد جاء حادث اجتياح القوات الإيرانية للأراضي العراقية واحتلالها حقل "فكة" النفطي وما أعقبه من رد فعل لسلطات الاحتلال الأمريكي وهو موقف في الواقع يرقى إلى مستوى التواطؤ الفعلي مع الاحتلال الإيراني وكذلك موقف الحكومة العراقية العميلة وهو موقف خانع وذليل تجسد في التعامل مع هذا الاختراق لسيادة وحرمة الأراضي العراقية باعتباره مجرد "اشكال" و"سوء فهم" لا يدعو إلى "القلق"، نقول جاء هذا الحدث ليؤكد حقيقة أن العراق لم يعد له سيادة وأنه صار أرضاً مستباحة ومقسمة بين الاحتلال الأمريكي والاحتلال الإيراني والحكومة الطائفية.
لكل هذه الأسباب نقول انه لا طريق لإنقاذ العراق أولاً والعرب ثانياً سوى طريق التحرير، وان "البوابة" الحقيقية التي تقود إلى هذا الطريق هي "بوابة" المقاومة التي أعلنت أهدافها بوضوح لا لبس فيه وهي إزالة الاحتلال بوجهيه "الامريكي والإيراني" وعودة العراق حرا عربيا وموحدا لأنه من دون تحرير العراق واسترجاع وحدته وهويته العربية ستبقى كل الأزمات والمؤامرات على العرب مستمرة، وستبقى الأخطار محدقة بالأمة من كل اتجاه وستكون كل قضاياها الأخرى عرضة للاختراق والاخفاق، وستبقى الفرقة والتمزق في صفوف العرب، وسوف يستمر الفراغ قائماً على كل المستويات القومية، وسوف يكون هناك دائماً من يحاول ملء هذا الفراغ خاصة من دول الاقليم الجغرافي من أصحاب المشاريع المتناقضة أو المعادية للمصالح العربية، مثل تركيا وإيران التي لم يعد مشروعها في المنطقة سرا، بل هي تعمل من خلاله جاهدة ليكون المشروع البديل للاحتلال الأمريكي في حالة انسحابه، وليس للدول العربية بعد ذلك من حق في لوم إيران أو غيرها عندما تسعى إلى انجاز مشروعها أو تحقيق مصالحها، طالما أن الدول العربية هي التي تفتقر إلى مشروعها في العراق أو في غيره، وهي التي قبلت بمحض إرادتها أن تكون على قارعة التاريخ تنتظر ما يقرره الآخرون نيابة عنها، وأخد دور المتلقي للنتائج التي تسفر عنها طاولة مفاوضات الدول والقوى التي ليس بينها أحد من العرب.
إذاً يجدر بالأنظمة العربية ألا تقع مرة أخرى في خطأ الحسابات وسوء القراءة للأحداث والتطورات الاقليمية والدولية، خاصة الدول ذات الثقل السياسي وعليها أن تضع في حساباتها احتمالات أن تقدم الإدارة الأمريكية وهي تبحث عن مخرج لمأزقها في العراق وأفغانستان على حل أو تسوية خلافاتها مع دول الاقليم الجغرافي للوطن العربي، وهي تسوية إذا ما تمت فانها ستكون القاصمة التي ستكسر ظهر العرب وتخرجهم من دائرة الفعل والتأثير بصورة نهائية، وستجعل الوطن العربي برمته يدفع ثمن هذين النكوص والاحجام العربيين عن أخذ زمام المبادرة وصياغة المواقف والرؤى الاستراتيجية لكل القضايا العربية وخاصة قضية العراق التي هي اليوم مفتاح بوابة حل كل القضايا القومية.
وعلينا أن ندرك أن دولا مثل تركيا أو إيران سوف لن تقدم خدماتها للولايات المتحدة الأمريكية مجاناً، وهي حتماً ستعمل على مقايضة هذه الخدمات بما يحقق مصالحها ويقربها من تنفيذ اجندتها ومشروعها في المنطقة، وليس خافياً أن أحد محاور هذا المشروع أو الاجندة اغراق الدول العربية بأزماتها الداخلية وزعزعة استقرارها السياسي والأمني عبر إثارة النعرات الطائفية والعرقية، وهي كما نلاحظ اهداف لا تختلف في جوهرها عن أهداف مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طالما روجت له الدوائر الأمريكية والصهيونية وها نحن نرى اليوم أن جميع الدول العربية من دون أستثناء – كبيرها وصغيرها ــ أصبحت عرضة لتأثير هذا المشروع، وليست الحروب التي تخوضها هذه الدول على الحدود أو الصراعات المذهبية التي تشتعل داخل حدودها ليس كل هذا سوى أحد تجليات أهداف هذا المشروع الاستعماري الخبيث، الذي سوف لن تكون أي دولة عربية بمنأى عن تداعياته الكارثية، إذا ما نجح في استكمال كل حلقاته وتثبيت أدواته لا سمح الله.
واليوم وبعد أن ادركت الدول العربية حجم خسارتها ومرارة تجربتها نتيجة لاستجابتها للخداع الأمريكي سواء بالنسبة إلى دوافع الاحتلال أو بالنسبة إلى النتائج المترتبة عليه، التي عمقت من مأزق هذه الدول وصارت معها لا تخرج من أزمة الا لتدخل مرة أخرى في أزمة جديدة هي أشد وأعمق من سابقتها، نقول بعد أن أدركت الدول العربية كل هذا، فان الواجب الوطني والمسؤولية القومية يفرضان عليها أن تواجه الحقائق كما هي، وتسأل نفسها لماذا قامت أمريكا بغزو وتدمير دولة قائمة وذات سيادة وعملت على تمزيقها إلى "كانتونات" و"فيدراليات" طائفية وعرقية؟ ولماذا تسعى اليوم إلى التنصل من جرائمها في هذا البلد وتحاول الهروب منه وتركه في عهدة قوى وتجمعات طائفية وعشائرية متخلفة تتقاتل على تقاسم النفوذ والثروة؟
وكان على الدول العربية أن تفهم كذب وخداع الشعارات الأمريكية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وحول قيم الحداثة وبناء الدولة العصرية في الوقت الذي تلجأ فيه إلى أكثر القوى والشرائح الاجتماعية تخلفاً.
من هنا نحن نعول أو نأمل أن تكون "الصحوة العربية" تجاه ما يحدث في العراق ناجمة عن استيعاب دروس السبع السنوات المريرة من عمر الاحتلال في هذا البلد العربي وبالتالي الوقوف على حجم الكارثة التي تعرضت لها الأمة جراء خسارة العراق بعد خروجه أو إخراجه من المعادلة القومية.
ان هذا الوعي (ان وجد حقا) يفرض على هذه الدول أن تقلع بشكل عاجل ونهائي عن "رهاناتها" التي اعتادت التوسل بها في تعاملها مع القضية العراقية طوال كل هذه السنوات، والتخلي عن محاولتها تسويق أو شرعنة افرازات المحتل خاصة الحكومات العميلة التي فرضها عنوة على الشعب العراقي.
ان حل قضية العراق يتم فقط عن طريق بوابتها الحقيقية وهي كما قلنا بوابة المقاومة، والدخول عبر هذه البوابة يتطلب أن يكون توجه الدول العربية نحو العراق توجها عربيا خالصا وأن يكون قرار استرجاع العراق قرارا عربيا محضا، فهذا التوجه وحده هو الذي سوف يسمح للعرب بوضع اقدامهم على عتبات العراق، العراق العربي الموحد، الحر، غير المنقوص السيادة، العراق الوطن العزيز القوي، الذي هو لكل ابنائه العراقيين، والذي هو من حصة أمته العربية وهو القطر الفاعل والمؤثر في وجودها، والمدافع عن حقوقها ومستقبلها.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.