عبد الاله بلقزيز
في المجتمعات الحديثة التي عاشت ثورات اجتماعية، تصل قوى الثورة إلى السلطة وتضطر قوى النظام القديم للتحول إلى المعارضة . في البلدان العربية، التي شهدت “ثورات”، تتحول قوى “الثورة” نفسها إلى معارضة لأن طريق السلطة ينسد أمامها بسبب احتكار فريق بعينه لها مع أنه – في أفضل الأحوال – شريك واحد من شركاء كثر فيها .
مفارقة تتعصى على العقل والتفسير العقلي . وهي تطلعنا على أن خللاً كبيراً دب إلى “الثورات” العربية، فأخرجها من نطاق المشهور والمألوف من ثورات البشرية المعاصرة . قلنا مثل هذا الكلام في عام “الثورات” الأول – منذ نهاية ربيع 2011 – وكأننا نغرد خارج السرب، وما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأ المتحمسون ل “الثورات” منذ صيف ،2012 يجهرون بنقدهم للمسارات المجهولة التي تسير فيها، والتي أسهم فيها كثير منهم بأخطائهم التي أخذتهم إلى خارج السلطة، وإلى الصيرورة معارضة .
الأخطاء الصغيرة في السياسة تلد الأخطاء الكبيرة . ولكن بينما يمكن إصلاح الأخطاء الصغيرة في مهدها، يتعصى إصلاحها بعد إذ تصبح كبيرة، وبينما يرتكب السياسيون الأخطاء الصغيرة، تدفع الشعوب ثمن الأخطاء الكبيرة . ولقد كان في الوسع الرجوع عن أخطاء ارتكبت في البدايات، تحت وطأة اندفاعة الحماسة “الثورية”، أو تحت وطأة الخشية من الوقوف في وجه تيار الساحات والميادين المندفع، لكن حظ العقل والحكمة كان هزيلاً في ذلك الإبان، فسارع من سارع من أقطاب المعارضة اليوم إلى الدفاع عن جدولة سياسية ل “المرحلة الانتقالية” ما كان لها، بهندستها الملغومة، إلا أن تقود البلاد إلى هذا النفق الخطير الذي تمر به، ويتهدد الاستقرار ووحدة الجماعة الوطنية .
لن نقول، بلغة التسامح المزعوم، إن ما حصل قد حصل، وها إن المخطئين في الحسابات أمس يعودون، اليوم، عن أخطائهم إلى الصواب، أو إلى طريق الصواب . صحيح أنهم انتبهوا، متأخرين، إلى فداحة ما أتوه من أخطاء، فغيروا حساباتهم، وعادوا عما أخطأوا فيه، ولكن ذلك حصل “بعد خراب البصرة”، وبعد أن بات الشعب كله يدفع ثمن تلك الأخطاء من حاضره ومستقبله الذي بات في حكم المجهول . إن أقل ما يطلب، اليوم، من المعارضات العربية في بلدان “الثورة” – وهي كانت شريكاً في عملية التغيير – أن تجري محاسبة ذاتية شجاعة لنفسها، لسياساتها، وتحالفاتها، ورهاناتها الشعبوية، التي كان لها سهم في أخذ “الثورة” وتضحيات الناس إلى حتف سياسي حقيقي باسم الديمقراطية وحاكمية صناديق الاقتراع، إن الشجاعة الأدبية والأخلاقية المطلوبة، اليوم، من هذه المعارضات العربية ليس شجاعة الوقوف في وجه الديكتاتورية الجديدة “المنتخبة”، وحشد الشعب لمواجهتها، ولو أنها شجاعة تسجل لها، وإنما الشجاعة الأعلى كعباً هي النقد الذاتي، والمراجعة العميقة للخيارات السابقة، لأنها وحدها تعيد بناء ثقة الناس فيها وترميم الصدقية المشروعة، والثقة في السياسة، كما في الاقتصاد والحياة العامة، الرأسمال الوحيد الذي يبنى عليه .
من السهل جداً أن يقول الذين كانوا شركاء في “الثورة” ووجدوا أنفسهم، اليوم، خارج السلطة: في مصر وتونس وليبيا، إن خروجهم منها إنما كان إقصاء لهم من قبل فريق لا يؤمن بالشراكة، ويبدي شغفاً غير عادي بالسلطة إلى حد احتكارها . ومع أن هذا صحيح، إلا أن التعليل غير كاف ولا مقنع، فالمفترض أن معارضات اليوم تعرف، منذ زمن بعيد، أن الحركات السياسية التي تسلمت السلطة، في بلدان “الثورة”، حركات كلاّنية (توتاليتارية) مغلقة، لا تؤمن بالشراكة لأنها تملك – وحدها – الحقيقة، ولأن لديها مشروعاً لأسلمة الدولة لا تريد أن يعرقل تطبيقه شريك مخالف في السلطة، ولعلها تعرف، أيضاً، ومنذ زمن بعيد، أن الديمقراطية عند تلك الحركات مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة وليست نهجاً وعقيدة سياسية في إدارة الدولة . . إلخ . من المفترض أن ذلك من المعلوم عندها، ومع ذلك لم تأخذ به حين جارتها في مواقفها من انتخاب جمعية تأسيسية، ومن انتخاب للمؤسسات قبل إقرار الدستور، ومن تحالف معها في الانتخابات، ومن مجاراة لها في الموقف من دور المؤسسة العسكرية في المرحلة الانتقالية . . إلخ، حتى إن بعض تلك المعارضة صدق، حقاً، وعد بعض تلك الحركات بعدم تقديم مرشح لها لانتخابات الرئاسة .
في وسع المعارضات أن تلقي باللائمة على أنظمتها الجديدة التي خدعتها وخذلتها، وكشفت عن منازع إقصائية واستبدادية مخيفة، فذلك مما لا يجادلها فيه أحد، بيد أنه لا يسعها أن تتجرد من مسؤوليتها الثابتة في التمكين لهذه الأنظمة من القيام واحتكار السلطة، وتحويل الثوار إلى معارضين، ووصف معارضيها ب “البلطجية” وفلول النظام السابق . لن يشفع للمعارضات أنها ظلمت وجردت من حقوقها، وإنما سيشفع لها فقط أنها تصارح شعبها بالحقيقة وتدعوه إلى برنامج عمل بديل مما قدمته حتى الآن . إن مظلوميتها لن تتحول إلى رأسمال سياسي، في وجه الاستبداد الجديد، إلا متى تحولت إلى مشروع سياسي قادر على إقناع الناس بالاستمرار في استكمال ما لم ينجز من أهداف “الثورة”، والاقناع هذا لا يكون بمجرد الفوه بشعارات، وإنما بالتعبئة المنظمة للجمهور، وهذه – حتى إشعار آخر – هي نقطة ضعف هذه المعارضات في مواجهة حركات منظمة تنظيماً صارماً، زادت إليه امتلاكها اليوم سلطة الدولة وأدوات تلك السلطة .