اسماعيل أبو البندورة
تتكثف في المشهد السياسي المصري الراهن عناصر، وتقاطعات، ومفارقات لثورة بدأت وأثلجت، وهيجت عقول وقلوب العرب في 25 يناير ولم تكتمل فصولها بعد، ولكنها بعناصرها ومعطياتها ومفارقاتها أصبحت بشكل من الأشكال مختبرا لقراءة ماظهر ومابطن في هذه الثورة، وما نشأ واختبأ في ثناياها، ومايعتمل ويدور فيها وفي مدارها، وما يمكن أن تولده من أحداث وحالات ومستقبلات.
أنشأت الثورة المصرية المجيدة منذ بداياتها "فكرة الشعب الذي يريد.. ويفعل.. " من خلال الانبناء الذاتي المتسارع في الميادين والساحات والشوارع، بدون قيادة واضحة ومعرّفة،وبلا مشروع سياسي مسبق ومعلن، فكانت في بعض صورها تبدو عشوائية، وكادت أن تكون في بعض لحظاتها غوغائية، الا أنها أنتجت حضورا مباغتا وشجاعا للجماهير، وهديرا انسانيا مدويا أرعب النظام وأسقطه في زمن قياسي،وتحديا لثقافة الخوف والقهر والتغييب عزّ مثيله، وأنتجت في الوقت نفسه فضاءا غائما، ومعوّما، ومختلطا، ومضببا لايوحي بما هو قادم، ولا يقدم اشارات واضحة عن المستقبل، أي أن هذه الجماهير الهادرة والمصممة على التغيير أنتجت الثورة بكل صورها وشروطها ومتطلباتها، وأغفلت، وتغاضت، وسكتت عما بعد الثورة وأبقت كل ذلك في حكم المجهول المنذر بكل الاحتمالات.
وكان ذلك (ارتباك وفوضى المسارات والرؤى، وغياب وبهوت صورة المستقبل في الثورة) مخيفا ومحيرا، ومنذرا بشرّ سياسي مستطير، ذلك أن هناك بالافتراض والضرورة من كان يتصيد هذا الفراغ والعماء، ويتربص في الظلام، وفي الداخل والخارج، لكي يجعل من هذا الفراغ والاختلاط أداة للثورة المضادة، أو معبرا وفضاءا لسرقة المولود الشعبي الثوري الجديد. وحصل أن استفاقت كل القوى التي أبهرها هذا البركان سواء كانت من الداخل أو الخارج، وسارعت الى الانقضاض علية جهارا وخفية، بالفعل وبالايحاء والتربص، ونجحت في أخذه الى المجهول " السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي "، ثم أعملت هذه القوى يدها في العبث بجوهر الثورة ومضمونها وتطلعاتها ووعودها، لكي تبقى الثورة سطحية، أو فورة ارتجالية وعفوية، يمكن التحكم بها والسيطرة على مجرياتها، أو محاصرتها في حدود ملتبسة معينة لكي تفرغها من جوهرها الحقيقي.
وكان من أصعب لحظات هذه الثورة وأثقلها وأشدها مثارا للقلق والتحسّب، مجيء قوى سياسية داجنة ومدجنة سياسيا "بحكم براجماتيتها وتاريخها المهادن السابق مع الأنظمة المندثرة " وبلا مشروع سياسي واضح (الاخوان والاحزاب السلفية وبعض القوى السياسية الهامشية)، لتملأ الفراغ أو أن تدير الفراغ، وبمشروع سياسي هزيل فيه الكثير من العناوين والشعارات والهذاءات أحيانا، ويخلو من أية أفكار واضحة حول ادارة الدولة وتشكيل وبناء مجتمع مابعد الثورة، فكانت سنة مابعد الثورة فوضى فكرية وسياسية، وترقيعات سياسية واجتماعية واقتصادية، وخطاب سلطوي فقير يفتقد الى الاستبصار والاستشراف، ومتسرع لايلوي على أية مضامين ومبادرات ومشاريع تؤشر على مسار الثورة والمستقبل القادم. وتحول الأمر الوطني عموما الى رؤى واجتهادات حزب واحد، ورأي أو آراء أحادية تدار في حوزات مغلقة، وتؤسسها عصبوية سياسية تكاد تكون ظلامية في بعض مرجعياتها، لاتفرق بين الحزب والدولة ولا بين خيارات وضرورات كل منهما، وتم أثناء ذلك الاغارة على الرأي والفكر الآخر بممارسات اقصائية هجينة لاتعبر عن المرحلة الثورية الجديدة وماتتطلبه من فك القيود عن المجتمع وفكره وحرياته العامة. اضافة الى السقوط والفشل الذريع في الشأن والتصور والخيار القومي الذي تحتل فيه مصر مكانا افتراضيا تقليديا مميزا وهاما، فتم التهادن والصمت عن العدو الصهيوني ونزوعاته العنصرية العدوانية القائمة، وقطعت العلاقات مع سوريا بخفة سياسية كبيرة دون الأخذ بأبعاد ومخاطر مثل هذا القرار على صعيد الامة، وغابت المبادرة المصرية تماما في المجال السياسي القومي العام، وأشكلت المواقف المصرية القومية المستجدة على الناس (اغلاق المعابر مع فلسطين، مهادنة اثيوبيا في موضوع المياه، الرسالة الموجهة الى المجرم الصهيوني بيريز)، وأعادت الى الأذهان صور قرارات وتهور الأنظمة المصرية البائدة في عهد السادات ومبارك وجرائمهما القومية الكارثية.
وعلى الجهة المقابلة كانت هناك قوى المعارضة الاخرى (الداجنة والمدجنة هي ايضا) التي لم تكن تختلف في جوهرها عن سلطة الاخوان، اذ أن فيها ايضا الالتباس وغياب المشروع السياسي البديل، وفيها من النقائض والنقائص السياسية المهلكة، وركبت موجتها قيادات متهالكة ومستهلكة، غير محصنة، ومرفوضة جماهيريا، وأتى بعضها بشكل أو بآخر من عتمات مغارة نظام مبارك وسوادها ووحشتها الملبدة بالضباب والغبار والقتامة، فالتقىت الفئتان – بحسن أو بسوء نية – على تغييب الرؤى الثورية الجذرية وتمييعها، وعلى تضييع وهج الثورة، أو على اجهاضها بشكل أو بآخر، أو على جعلها بين منزلتين كارثيتين، خطوة الى الامام وخطوتان الى الوراء!
وعلى ضوء ذلك بقي فضاء وفراغ مابعد الثورة مفتوحا على احتمالات كثيرة وتحديات لابد أن تظهر آجلا أو عاجلا، لن يكون أقلها ابقاء المجتمع المصري في حالة دائمة من الصراع والتلاطم، وظهور كل ألوان الفوضى والتراجع، أو الدوران في حلقات مفرغة من الشدّ والجذب تعطل وتكبح المجتمع عن العمليات والممارسات التغييرية المطلوبة، التي يمكن أن تدفعه الى الامام وتقدم له البديل العقلاني عن النظام والحقبة البائدة من تاريخ مصر. ومع أننا نقدر أنه لابد من توقع وانتظار فترة انتقالية ومخاضات مؤلمة حتى يستعيد الشعب وقواه الحية والثورية زمام نفسة ويدرك مايدور حوله وفي مجاله، ويتخطى مرحلة البلبلة، الا أننا نقول بأن هذا التواجد الفائر الكثيف في الميادين، وهذه الصحوة الشعبية والرقابة الجماهيرية المستمرة على النظام وممارساته، لابد أن تضع في النهاية نقاط بداية عقلانية للمستقبل البديل، من خلال الاصرار على ابعاد شبح الانقلابات العسكرية واكراهاتها، والمحافظة على هيبة الجيش ودوره الوطني. عدم اللجوء الى الاقصاء والقصاص والمحاصرة لأية قوة سياسية أو اجتماعية أخطأت في اجتهاداتها ورؤاها وممارساتها. عدم السماح لأي شكل من أشكال التدخلات الأجنبية في القرار المصري. وابقاء المجال السياسي الوطني "نظيفا" وتعايشيا لكي تبقى خطوط الحوار والاتصال مفتوحة بين كافة الاطراف السياسية. اطلاق حوار وطني عام بين كافة القوى الوطنية للتوافق على مرحلة مابعد الثورة وتقديم نموذج ومشروع سياسي مرحلي توافقي ناضج عن امكانية اعادة بناء دولة أسهم الاستبداد والتبعية السياسية في تحطيمها وتحويلها الى دولة هامشية وفاشلة.
ان مستقبل الثورة المصرية سوف يرتبط ويرتهن في انجاز هذه الخطوات الاولية التي لابد من الشروع بها سواء من وسط عقل جماهير الميادين، أو من خارجها في الاطار الوطني المصري العام، ففي ذلك تتحقق الثورة بشمولها واكتمالها، وفي ذلك الخلاص لمصر، وهو طريقها الممكن والمفترض للمضي نحو المستقبل.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.