قبل شهرين من هذا التاريخ، لم يكن أحد يتنبأ، في الشرق والغرب بأن هذا العام، سيشهد انعطافا حاسما، وغير مسبوق في التاريخ العربي. صحيح أنه كانت هناك أحاديث متكررة في الشارع العربي، عن احتقانات شديدة في بلدان هذه المنطقة، وعن اتساع الفوارق الطبقية، وتراجع مشروع النهضة العربية، والسقوط في شرك التبعية للهيمنة الأجنبية، وبروز خطاب متواطئ مع مشاريع التفتيت،
ومعاد للتطلعات القومية في الوحدة والتحرر، لكن ما حدث ويحدث الآن، هو أبعد من كل القراءات الأكاديمية، ومن تحليلات الواقع السياسي، التي سبقت هبوب العواصف.
تطرح هذه المقدمة أسئلة ملحة على الفكر السياسي، تتطلب أجوبة غير تقليدية، تسد القصور الذي كشفت عنه الحوادث في غياب القدرة على التنبؤ بما يمكن وصفه بالمفاجأة الكاملة. فليس يكفي اعتبار الفاقة والجوع أسبابا مباشرة لهذه العواصف، لأن ما لدينا من وقائع تدحض الاستناد إلى نظرية الفاقة والجوع كعناصر لازمة لاندلاع الثورات الاجتماعية. وليس يكفي أيضا، القول بغياب الحريات السياسية والنقابية، كمحرضات للانتفاضات الشعبية، والأمثلة التي تقف بالضد من هذه المقولة، هنا أيضا كثيرة. وحتى القول بعجز الدولة عن مواجهة استحقاقات مواطنيها، كسبب في فقدانها للمشروعية، رغم أنه صحيح وموضوعي، لكنه ليس كافيا لقلب الواقع القائم.
حالة الاحتقان في الواقع العربي، مضت عليها أكثر من ستة عقود، هي عمر الدولة العربية المعاصرة. وكانت مظاهر أول التعابير عن حالة الاحتقان في المجتمع العربي، سياسية ولم تكن اقتصادية، ارتبطت بنكبة فلسطين، وبصفقات السلاح الفاسد الذي يطلق رصاصه إلى الخلف. وكان إطلاق الرصاص إلى الخلف هو كلمة السر، التي نبهت الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، إلى حقيقة مؤداها أن معركة فلسطين، ليست على الجبهة، لأنها في مقدماتها معركة ضد الفساد، وأنها ليست على الخطوط الأمامية، بل هي خلفها، بالاتجاه المعاكس.
اندلعت الثورات في الوطن العربي، في الخمسينيات والستينيات، وكان عمودها الفقري الضباط الشباب في المؤسسة العسكرية، وأحدثت تحولات كبرى في الواقع العربي. لكنها فقدت عصبيتها، "وفقا للتعبير الخلدوني"، ومع فقدان العصبية، تتسلل الشيخوخة، ومعها تتسلل مظاهر البيروقراطية والفساد. وجاءت نكسة الخامس من حزيران/ يونيو لتقضي على البقية الباقية، من وهج الثورة.
كان من الطبيعي أن يتراجع مشروع النهضة، مع شيخوخة القوى الاجتماعية التي حملت شعارات المشروع: قوى التنوير، فيما بين الحربين، والضباط الوطنيون في المرحلة التي أعقتبت ثورة 23 يوليو 1952م.
ومع بداية السبعيينات، بدأت مرحلة جديدة في التاريخ العربي، مثلت انتقالا استراتيجيا في السياسة العربية، عبرت عن نفسها بقبول فكرة التصالح مع الكيان الغاصب، وكانت المبررات زائفة في مقدماتها ونتائجها. فالصلح كما أشيع كان بهدف التخلي عن فكرة الحرب، واستثمار الثروة المالية المهدورة التي كانت تنفق على المؤسسة العسكرية، في تنمية البلدان العربية، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في بلدان المواجهة، التي أنهكتها الحروب. وكان شعار الحقبة الساداتية، هو "بناء دولة العلم والإيمان". وتحت هذا الشعار جرى تسويق مشروع الصلح مع الصهانية، وتوقيع معاهدة كامب ديفيد، والتطبيع الشامل مع "إسرائيل".
فرحت الغالبية العظمى من الناس، بخروج مصر من حالة الحرب، خاصة وأنه أريد لهذه المرحلة، أن ترتبط بشعار الدمقرطة، ومرة أخرى، كان الوعد زائفا، والهدف منه هو الإيحاء بأن القبول بمشروع النهضة، يعني القبول بالاستبداد، ولم يكن ذلك صحيحا، فقد كان هدف مشروع النهضة العربية ولا يزال هو أن يكون الوطن مكان السعادة العامة التي تبنى من خلال الحرية والفكر والمصنع، كما ردد ذلك رفاعة رافع الطهطاوي، أحد رواد التنوير في حركة اليقظة العربية.
وقد شهدت مرحلة الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من هذا القرن، إفراغ معظم المجتمعات العربية، من الطبقة المتوسطة، العمود الفقري لأي مشروع نهضوي. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك، ضعف الحراك السياسي والاجتماعي وشيخوخة حركات المعارضة، لتتماهى في تشكيلاتها وتكويناتها مع البنية البطركية للنظام السياسي الرسمي، الذي أكد شيخوخته هو الآخر، من خلال عجزه عن مواجهة مشاريع الهيمنة على المنطقة، التي انقضت بشكل متوحش على البلدان العربية، وكان من نتائجها احتلال عاصمة الرشيد، وتشظي الصومال والسودان واليمن، وتصاعد مناخات الفتنة في لبنان، وتفجير الكنائس في أرض الكنانة.
الصورة إذن بدت الآن واضحة وجلية، فالذين عجزوا عن التنبأ بالحدث، وفاجأهم الطوفان بقوة حركته، هم أيضا، نتاج مرحلة انتهت، وكانوا يقرأون حركة التاريخ من مواقعهم، وليس من موقع حركته. فكانت النتيجة عجز الأنظمة السياسية، وعجز معارضاتها، والنخب السياسية والفكرية والثقافية مجتمعة عن التنبؤ بالقادم من الأعاصير. وفي وضع كهذا، لن يكون مستعربا أن تكون المفاجأة كاملة لحراس البناء الفوقي، ولمن يحاولون التسلق، ليكونوا قريبين من سفوحه. وهكذا أيضا كانت المعارضات، أيقونات ديكورية، ينطبق عليها القول الطريف للفنان الخالد نجيب الريحاني، لزوم لزوم الشيء أعلاه.
كان هذا الوضع قد عبر عن نفسه، بانتفاضة أطفال الحجارة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بنهاية الثمانينات، حيث قرر الأطفال الفلسطينيون أن يتصدوا بصدورهم العارية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن رأوا حلمهم في التحرير يتهاوى أمام عجز النخب السياسية، التي قادت الكفاح الفلسطيني، والتي مثلتها آنذاك، منظمة التحرير الفلسطينية. وكان ثمنها للأسف اتفاقية أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية، ووصول قضية التحرير إلى ما آلت إليه الآن.
والنتيجة الطبيعية، أنه لم يبق في الساحة العربية، سوى جيل الشباب، من خريجي الجامعات، الذين وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، دون أمل في مستقبل وحياة أفضل. لقد وجد هؤلاء في التقنيات الإلكترونية الحديثة ضالتهم، فاتجهوا إلى الفيسك بوك وتويتر ويوتيوب، متنفسا للتعبير عن آرائهم، وتأسيس واجهاتهم، والإمساك بزمام مقاديرهم، متماهين في شعاراتهم ومطالبهم، مع تيار إنساني عالمي، فوار ومتحرك، ينمو وتعزز قدراته بشكل يتسارع كل يوم، باتجاه مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، وصناعة تاريخهم، وصياغة مستقبلهم، وكسر حواجز الخوف، والانتقال بفعلهم، من الاحتجاج السلبي، إلى المبادرة بالتظاهر علنا، والمطالبة بوضع حد لتهميشهم، والعمل على قيام نظام يعتمد تداول السلطة، والفصل بين المؤسسات الدستورية والتشريعية والتنفيذية، واحترام حق الناس في التجمع وتأسيس المنظمات والجمعيات المعبرة عن آمالهم ومصالحهم.
وفي التدافع الملحمي، تتطهر النفس من أدران الجمود والتكلس، ويحمل اليافعون لمجتمعاتهم البرء والتطهر، وتنهزم شرور الطائفية والفساد، وأمراض أخرى عشعشت في المجتمع العربي، بسبب العجز والفشل والوهن.
إن عجز النخب الثقافية والفكرية، عن إدراك ما جرى هو وجه آخر لعجزها عن تقديم أي فعل حقيقي ينتقل بالمجتمع العربي، من حالة الركود والعجز ومقابلة استحقاقات الناس. وهو عجز يقابله ائتلاف ثورة الغضب يقودها الشباب اليافعون، حيث الفراشات في موسم الربيع، تمتص زهر الياسمين، لتجعل ربوعنا أكثر اخضرارا وبهجة.