اسماعيل ابو البندورة
نحن الآن داخل مشهد سياسي عربي لا نحسد عليه ، اذ فيه اشارات لاتثير الاطمئنان ، وفيه آفاق مفتوحة للفوضى والارتداد والتراجع ، وفيه ما يستعصي على التحليل والاستشراف ، وفيه ايضا ما يجعلنا نتوقع مفاجآت ومتغيرات انعطافية هائلة قد تحدد وتهدد المستقبل العربي بأكمله .
فالامة التي غابت وغيبت عن الفعل السياسي التاريخي لفترات طويلة لا بد أن يحدث فيها ما يحدث الآن من فوضى وتداخل والتباس ودمار ، فهذا الانقطاع التاريخي القسري والمدبّر هو منبت الاضطراب والضياع ، وغياب الرؤية ، وتداخل الخنادق ، وهو الذي يمن أن يجعل من الثورة ثورة مضادة ، ومن عملية التحرر عبثا مطلقا واشتعالات باهتة ، ومن اعادة البناء هدما وانهداما في الوقائع والأنفس ، ومن نشدان التقدم الى تقهقر الى الوراء واستدعاء للجاهلية والظلامية .
اذن علينا أن لا نتفاجأ بما يحدث الآن في الوطن العربي الكبير ، فهو تحصيل حاصل للانقطاع والتغييب والتجهيل والاقصاء وتجريف الوعي ، وخنق المجتمعات ، ومحاصرة احلامها وافعالها واشواقها للحرية ، وتكريس الاستبداد والقمع اسلوبا في الحكم والمعاش ، والاخفاق والفشل الذي صبغ المراحل السابقة بصبغته ، وأنتج الاحباط واليأس والموات الاجتماعي ، وافرغ المعارضات من مشروعها السياسي البديل .
ولذا يفرض علينا هذا الواقع أن نقرأ المشهد العربي الراهن بهذه المحددات والمسبقات والتصورات التي حكمت ولا تزال تحكم عقلنا وحراكنا العربي ، وبدون ذلك فانه سيصعب علينا استيعاب واستدراك ما يجري ، وسوف نصبح أسرى لتشاؤمية مطلقة ومديدة ، لن تجعلنا نخرج من عتمة هذه المناخات السياسية والتاريخية ، وتبقينا اسرى الاعتقادات السلبية والاستعصائية التي حاولت قوى كثيرة قراءة حالنا على ضوئها وانطلاقا منها ، وتكريسها في عقلنا وواقعنا العربي .
ويبدأ البدء الواقعي والصحيح لاستيعاب غرائبية ما يحدث ، في استظهار وفهم هذه المقدمات والمسبقات التي حكمت ولا تزال تحكم وتتحكم بأي فعل سياسي – تاريخي يقدم عليه العرب على طريق نهضتهم ، وكذلك الظواهر المختلفة الداخلية والخارجية التي تنشأ حول هذا الفعل وتحاول عرقلته واجهاضه بشتى السبل ، وذلك من اجل أن يتسنى لنا استيعاب التناقضات التي تنشأ في سياقات هذه الافعال النهضوية التغييرية وما يحيط بها ، ومن اجل أن نتفهم وعورة الطريق الذي تسير عليه محاولات نهضة الامة العربية ، فهي ومنذ القدم في مواجهة حادة مع هذه العراقيل وكيفية تجاوزها والتغلب عليها ، حتى أن ذلك اصبح يشبه القانون التاريخي الذي يحكم مسارات هذه النهضة .
ولا بد من الاشارة الى أن ما يطرح علينا في عملية التغيير والنهوض ( وما نواجهه في الواقع المعطى ) يختلف جذريا عما يطرح على امم اخرى عندما نقرأ سيرها النهضوية وسياقات تطورها ، ذلك أننا نجد انفسنا نواجه في عملية التغيير وفي كل مشروع للنهضة تحديات ومؤثرات كثيرة ومختلفة على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بحمولاتها ومتطلباتها الهائلة ، ولذلك ترانا وفي الكثير من المحطات لانقف امام تحديات معروفة الابعاد والقسمات ومحددة الآفاق والمساحات تتيح لنا أن ننتج في مواجهتها انتصارات معينة ، ولذا ترى نزوعنا للنهضة والتغيير واندفاعنا نحوهما يتوزع على مساحات متداخلة وشائكة ، وتختلط فيه عناصر متناقضة ، وتتخلق بداخله التباسات مستعصية ، ونرى انفسنا امام ارتباك وفقدان للاولويات ، وامام فوضى في ترتيب مسائل التغيير والنهضة ، وعليه يفقد المشهد اطاره وجوهره في احيان كثيرة ، أو يخرج عن سياقاته المفترضة . ونحن بهذه الاشارة لا نميز انفسنا عن الامم الاخرى ، أو نفترض خصوصيات عربية تعفينا من التدقيق والمراجعة النظرية ، ولكننا نعبر عن واقع نراه ونتمعن في تفاصيله ومفرداته ، ونقارن نتائجه ومعطياته فنجده نافرا في بعض محطاته لاتنطبق عليه مسارات الامم الاخرى ، ولا يخضع لقياسات نهضة وتطور هذه الامم .
وربما يكون التطور والتكون المشوه الذي فرض على هذه الامة ، وفعل فعله في واقعها وعقلها وتكوينها الحديث قد انتج مثل هذه السياقات الشاذة التي لاتخضع للمعايير التاريخية في نهضة الامم ، ولذلك نرى الآن مهمتنا ملّحة في التنقيب عن مثل هذه الخلفيات الغائبة التي قد تقود الى فهم ظاهرة التشتت والفوضى في فعل التغيير وغياب الاولويات وتبعثرها ، وتضييع الفرص التاريخية التي لا تتاح للامم دائما من اجل تحقيق حريتها ونهضتها ، علّنا في كل ذلك نستوعب ما يجري ، ونستدركه بالوعي والتبصر والقراءة النقدية المطلوبة !