في منتصف القرن السابع عشر وأمام برلمان باريس قال ملك فرنسا لويس الرابع عشر مقولته المتعجرفة الشهيرة: "أنا الدولة" أو "الدولة هي أنا" لكن الثورة الفرنسية بعد حوالي قرن ونصف قرن ردت على شعار "أنا الدولة" برفعها شعارا ثوريا متحديا هو "أنا المواطن". كان لابد من قص جناح النسر العنجهي ليعيش بين الطيور المرفوعة الرأس.
وكان لابد من وضع تعريف متوازن سياسي للدولة يجعلها مكونة من سلطة الحكم وسلطة المجتمع بشكلين متناغم ومتوازن. فالحكومة لا تساوي الدولة، والمجتمع لا يكون دولة من دون وجود حكومة، والدولة ليست مرتبطة بشخص رئيس أو ملك أو قائد ولا مربوطة بجماعة من مثل قبيلة أو عائلة أو جيش أو حزب، إنها رابطة سياسية بجسم قانوني تسعى عند البعض للمحافظة على النظام وعند البعض الآخر للدفاع عن الحريات وإقامة العدل. لكن في المحصلة النهائية لا توجد دولة في هذه الدنيا غير مبتلاة بتضارب المصالح بين مكوناتها، الأمر الذي يتطلب أن تسعى الدولة لحل ذلك التضارب بالطرق السلمية والديمقراطية والقانونية إن أرادت ألا تضمحل وتموت.
لقد كانت تلك المقدمة المختصرة جدا ضرورية للدخول في صلب المآسي التي تحياها كل الأقطار العربية من دون استثناء، وإن كانت بنسب مختلفة، فالمأساة الأم تكمن في الاعتقاد الخاطئ المتعجرف المماثل لاعتقاد لويس الرابع عشر، الذي تحمله الحكومات العربية من أنها هي الدولة، والدولة هي، وهي لا تدري أو تعي أن ثورة الفرنسيين الدموية على ما نطق به مليكهم ليست حدثا معزولا في التاريخ، بل بالعكس فقد تكررت وتكررت مرات كثيرة عبر تاريخ البشرية.
إذاً، فالمشكلة الرئيسية هي أن كل الأنظمة السياسية العربية التي تدير أمور العباد تعتبر سلطتها مساوية ومتماثلة ومجسدة للدولة، وبالتالي فإن أي معارضة سياسية لبرامجها أو سياساتها، وأي اعتراضات على استئثارها بالسلطة والثورتين المادية والرمزية، وأي مطالبة من قبل مؤسسات المجتمع للمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية.. أيا من كل ذلك سيعتبره قادة النظام تهديدا لاستقرار وأمن وثوابت الدولة.
وسواء أكان الحكم قد جاء على ظهر دبابة أجنبية غازية، أم اختلس عن طريق انقلاب عسكري انتهازي، أم بني عن طريق تزوير لكل انتخاب، أم استند إلى نصوص دستورية غير شرعية ديمقراطية – أي قام في جميع الأحوال كحكم الغلبة الخلدوني الشهير – فإنه يعتبر نفسه تجسيدا لروح وجسد الدولة، وبالتالي يعلي نفسه وزبانيته إلى مستوى القداسة التي لا يجوز أن تمس أو أن يتحداها أحد.
إن هذا الفهم الخاطئ المفجع لما يجب أن تقوم عليه الحياة السياسية في أقطار الوطن العربي يكمن وراء المشاهد المضحكة المبكية فوق المسرح العربي. فعندما يرفع شعار "سلطة الحكم هي الدولة" تصبح الدولة عربة يتوارثها الأبناء عن الآباء في كرنفالات كهنوتية مقدسة، ويصبح تبادل السلطة تهديدا خطيرا لاستقرار الدولة، وينقلب مرض القائد إلى سر من أسرار الدولة، وينظر إلى مظاهرة من بضع مئات من المواطنين الجائعين أو العاطلين أو المهمشين نذير سرطان يجب استئصاله قبل أن ينتشر في جسم الدولة.. الخ من مفاهيم خاطئة تنتهي بالاعتداء على حقوق المواطنين وكرامتهم وسلامتهم الجسدية والنفسية باسم الدفاع عن أمن الدولة.
هناك قول للفيلسوف الألماني هيجل مؤداه: "ما تعلمنا التجارب ويعلمنا التاريخ هو أن الأمم والحكومات لم تتعلم قط من التاريخ ولا من دروس الحياة". ويشعر الإنسان العربي بأن أنظمة الحكم في بلاد العرب ومجتمعاتنا للأسف الشديد يصدق عليهم هذا القول القاسي، مثلما يصدق عليهم قول الشاعر البريطاني أودن من "أن التاريخ قد يقول للمهزومين وا أسفاه، لكنه لن يمد يد المساعدة ولن يغفر".
عبر التاريخ، وعلى الأخص التاريخ القريب جدا من يومنا هذا، أدرك الكثير من الأنظمة السياسية عبر العالم كله، بما في ذلك العالم الثالث، هذه الحقيقة البسيطة: التفريق بين الدولة ونظام الحكم، فالدولة مقدسة، أما نظام الحكم فقابل للمساءلة والمعارضة. ولكن عندنا في بلاد العرب فإننا مازلنا نعيش ما عاشه الفرنسيون في القرن السابع عشر.
التاريخ لا يقول لنا: وا أسفاه، إنه يقهقه.