اسماعيل أبو البندورة
بأي عقل يمكن أن تتكون أوتتحدد المداخلة البعثية في المرحلة العربية الراهنة؟ وهل تكون المداخلة المفترضة تكرارا لما يقال، أو اعادة انتاج للمقول البدهي السائد، أم تكون صياغة جديدة ومتطورة لرؤية اعتراضية – اجتهادية، وانقاذية، يمكنها أن تجتذب العقل العربي، وقواه النهضوية، من اجل الاندراج في عملية تحاورية قومية، تضع الامة على أعتاب مرحلة جديدة من الوعي والاستبصار؟
المداخلة البعثية لا تقدّم ولا تدعي تقديم حلول سحرية لواقع عربي مركب ومعقد (كما يمكن للبعض أن يفترض)، وانما تسعى لاستدخال منهج متطور ونقدي لمناقشة الاوضاع القومية الراهنة، كما أنها تسعى لاستدراج العقول القومية النهضوية للانكباب على تقديم قراءات، وتشخيصات، تزيل العماءات المرتبطة بهذا الواقع وتناقضاته، وتفك الاشتباك الحاصل والمتأجج بين الرؤى المتضادة، والافكار الشريدة التي تريد أن تصور العرب على أنهم لايأبهون الا بالظاهر، وبالفراشات التي تحلق حول واقعهم، دون تكليف أنفسهم ابتداع عقل نقدي يستطيع أن يفكّك ويركّب، ويصوغ، ويستنتج، ويستشرف، مثل أي عقل شغال، وفطن، وخلاق.
وتنبني المداخلة البعثية على معطيات واقعية، ومنهج قومي واقعي ونقدي قوامه مقاربة الظواهر وتحليلها وتفكيك عناصرها، وعدم ليّ اعناق الحقائق، أو تقويلها مالاتريد أن تعبر عنه وتقوله لكي يأتي موافقا لافتراضاتها المسبقة، أو تخيلاتها السياسية الرغبية وامنياتها. وهي لا تستسلم لأية مناهج دون معاينتها، ومعاينة حقائقها وفرضياتها، وانما هي تبتدع اسلوبيا ومنهجيا ما يمكنها من التفكيك والتركيب العقلاني المنسجم مع الواقع والمطابق له.
وهي مداخلة تهتم بالكليات، وجوهرها، ولا تتوقف كثيرا عند الجزئيات والتفاصيل التي تشرذم احيانا الافكار والوقائع، وتثير القلق، وتبعث على التشتت، ذلك أنه عندما تكون الكليات واضحة، والافكار الكبرى مفصّلة، فانه يمكن ببساطة معرفة كيفية توالد الجزئيات، ومعنى ومدى ارتباطها بالكليات، فالواقع العربي الراهن يحتاج الى كليات وحدوية واضحة تفسّره، وتضع له محددات، وأطر، ومرجعيات، لكي يبقى محافظا على سياقاته الجوهرية، ولكي لا يتوه أو يتخلى عن ثوابته ومسلماته، عند أول منعطف أو جزر وتغيّر.
تريد المداخلة البعثية أن تقول في بعض تعبيراتها عن المرحلة الراهنة، أنها مرحلة انتقالية ومخاض قومي يريد فيه الشعب العربي أن ينفض عن ذاته الكسل والضيم، وتهمة الشلل والاستعصاء الثوري، وهي لحظة جماهيرية بامتياز، انبنت انبناءا ذاتيا، وارادت الجماهير العربية من خلالها أن تتحرر من ثقافة الاكراه، والارغام، والاستنقاع، ومن ثقافة الخوف التي نسجت شباكها على العقل والواقع العربي، وكبلته بقيود ثقيلة، وعطلت وابتلعت المجتمعات وأبقتها خارج الفعل لآماد طويلة. كما أنها لحظة استثنائية لمحاسبة هذه الانظمة العميلة – التسلطية واقتلاعها، وطردها هي وملحقاتها من المجال السياسي العربي، وانشاء نظم شعبية مرتبطة بقضاياها الوطنية والقومية، وساعية الى الحرية والنهضة والوحدة والاستقلال. وهي لحظة طاردة ومطاردة للاستعمار بالمقاومة والنضال، وتسعى الى استئصال الاستعمار، واجتثاثة الى الابد، أو على الأقل تجذير مناهضته ومقاومة اهدافه الاستعمارية الشريرة، كما أنها لحظة يتجدد فيها الوعي القومي على الكيان العنصري الصهيوني وأخطاره وجرائمه ويتجدد فيها العزم والسعي الى ازالته وتفكيكه.
ولذا فان المداخلة البعثية تراهن وتعول الكثير على تفتّحات واشتعالات الوعي القومي الجديدة في المرحلة الراهنة، كما أنها تسعى الى تأطيرها وبلورتها وتحويلها الى برنامج قومي جديد تنهض به الامة، وتتخلص به من ازماتها، لكي تمضي قدما في مشروعها النهضوي بخطى ثابتة وواعية.
ان القواسم الفكرية والسياسية المشتركة التي أشرنا الى بعضها هي مايجمع ويشغل عقل الامة في المرحلة الراهنة، وهي ما يشكل الارضية التي تتفاعل وتتحاور الافكار من خلالها، ولذا فان أي عملية لتعميق هذه القواسم في الوعي العربي هي من متطلبات النضال العربي الراهنة الجوهرية، وهي من بين خيارات كثيرة يمكن أن تسهم بالنهوض في الواقع العربي وتحويله ايجابيا لصالح الامة وقضاياها الكبرى.
المداخلة البعثية لاتريد أن تدعي احتكار الحقيقة، أو ادعاء ابوة الواقع العربي، وطرق فهمه وتحليله، وتحريكه، ولكنها تحاول أن تسهم مع افكار قوى النهضة الاخرى في تقديم قراءة نضالية مغايرة للواقع العربي في لحظة مخاضه الراهن، قراءة تخرجه من القوالب الجاهزة والافكار المعلبة والمصاغة في مراكز ودوائر تجهل تاريخ العرب، وتجهل تاريخ نضالهم، وتعرجاته، وسياقاته، وطريقة اشتغاله، ولذا فان المداخلة ترى ذاتها أمام مهمة فكرية ونضالية ضاغطة تتعلق وترتبط بكيفية صياغة السؤال القومي في المرحلة الراهنة، وكيفية ابتكار الجواب المطابق للسؤال، حتى لايفلت منا الواقع أو يتشتت في اتجاهات متناقضة!!
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.