أحمد الصفار
أعجب ما كشفت عنه الأزمة التي تعيشها البحرين منذ فبراير/ شباط 2011، أصناف من البشر لديهم قدرات عجيبة على التلون وتغيير مواقفهم وخطاباتهم وفقاً للموجة التي يرون فيها تحقيق مصالحهم والحفاظ على مواقعهم في صدارة المشهد.
والأغرب من ذلك أن مواقفهم مسجلة ومؤرشفة بالصوت والصورة، ومنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى وصلات «اليوتيوب»، ولا يكذب وجودها إلا أعمى بصر وبصيرة، ولا ينكرها حتى أصحابها أنفسهم، ولكنهم لا يجرأون على الحديث عنها أو الخوض فيها؛ لأنها تمثل دليلاً صريحاً على قبح نفس وسوء معدن.
والسؤال الأهم هو «كيف يمكن الاعتماد على هكذا بشر لصنع واقع أفضل في مجتمع يتجه كل يوم نحو التصدع والتشرذم؟»، ففي الحقيقة أن مثل هذه الأصناف يمكن استغلالها لإصدار جلبة وضجيج لتمييع قضايا معينة أو خلط الأوراق أو إشغال الناس بقضايا هامشية لا تعبر عن النزر اليسير من همومهم الأساسية والمشكلات الكبرى التي يعانون منها ويتوقون إلى معالجتها، ولكن ما إن ينتهي دور هؤلاء يصبحون كالورقة المحروقة التي لا يقبل بها أي أحد.
الثبات على المبادئ وإن كانت في اتجاه معاكس للتيار، يعبر عن الخارطة الأصلية للنفس الإنسانية، ذلك أن المرء بطبعه وفطرته يتمسك بقناعاته التي يؤمن بها ويدرك معناها وفلسفة وجودها، ويدافع عنها انطلاقاً من الإيمان العميق في داخل نفسه بها، وعلى أساس ذلك ينال احترام الجميع، العدو قبل الصديق.
إن عامل الثقة لا يمكن أن يترسخ ويتأصل تجاه نفس مزاجية متقلبة، تحفزها المغريات وتؤثر فيها المرغبات، فقد تكون مصلحتها يوماً ما مع هذا الطرف فتسايره وإن كان مخطئاً وظالماً بحق نفسه وأهله والآخرين من حوله، فتجمل له سلوكياته وتصرفاته، وعندما تنقطع المصلحة توجه له أصابع الاتهام وتوصمه بأفظع العبارات وتتنصل من علاقتها به وتتنكر من معرفته له، على أمل أن تعثر على طريق لمصلحة جديدة مع طرف آخر.
والمشكلة التي يواجهها المتقلبون في مواقفهم، أنهم يواجهون عزلة اجتماعية قاتلة قد لا تكون واضحة بالنسبة لهم، ولكن ما يجب عليهم فهمه أنهم أشخاص غير مرغوب فيهم من كل الجهات، وإن أظهرت الأطراف المستفيدة من وجودهم مشاعر الرضا والاستحسان لما يقومون به من دور غريب في خلخلة المفاهيم وتفويت فرص الحل والتمسك بخيوط التعقيد، ولكنها في نهاية المرحلة لا تثق بهم ولا يمكن أن تأتمنهم على شيء، لأنهم غير أمناء على سمعتهم ولا سيرتهم التي أصبحت أرخص من التراب.
اليوم نرى أن أمثال هؤلاء غير قادرين على إقناع جماهيرهم أو توجيههم لتبني اتجاه محدد، فالصورة النمطية السيئة تلاحقهم، وبقايا الجلد الذي نزعوه من أجسادهم لايزال باقياً في الموضع الذي تركوه فيه، وهم بحاجة إلى جهود مضاعفة، وحملات تزييف للوعي والإدراك لكي يتخلصوا من بقايا هذا الجلد حتى وإن اضطروا إلى حرقه أو محو أثره من الوجود، ولكن إلى أي قدر سيكونون قادرين على ذلك حين يتخلصون في الدورة القادمة من جلدهم الجديد.
الوطن في هذه المرحلة العصيبة التي نعيشها بكل أوجاعها، بحاجة إلى أناس مخلصين، يضعون انتماءاتهم المذهبية وامتداداتهم الأسرية في صندوق الأمانات، ويخلعون عنهم ثوب الأيديولوجيات والمحاصصات السياسية، يتحركون من دافعهم الإنساني وحبهم لكل مكونات المجتمع، ولا يقصدون من أفعالهم وسلوكياتهم تحقيق مصالح آنية دنيوية، ينتصرون للبحرين ولا ينتصرون لتيار أو طيف أو جماعة، لديهم الثبات الأصيل على مواقفهم وليس في نفوسهم حقد أو زيف أو تلون، ينظرون للغد بعين المتأمل للخير لا المتربص بالشر.
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3564 – الأحد 10 يونيو 2012م الموافق 20 رجب 1433هـ