نواصل في هذا الحديث سلسلة مقالاتنا التي بدأناها الخميس الماضي، بهدف تقديم قراءة تحليلية تاريخية، في الكفاح الفلسطيني من أجل إقامة الدولة المستقلة . مع شروع مجلس الأمن في مناقشة الطلب الذي تقدم به رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس عبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة، للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة وعضواً في الهيئات الدولية، على قاعدة الاعتراف بوجود دولتين على أرض فلسطين التاريخية: الكيان الصهيوني في الحدود التي كان قائماً عليها حتى حرب يونيو/حزيران عام ،1967 ودولة فلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها مدينة القدس .
لقد ميزنا في حديثنا السابق، بين هدف تحرير فلسطين، ووجود أطر تمثيلية للشعب الفلسطيني . وهذا التمييز رغم بديهيته، يبدو مهماً تأكيده في سياق التحليل لسيرورة الكفاح الفلسطيني . فرغم إدراك استحالة تحقيق هدف التحرير من غير وجود هيئات تمثيلية لشعب فلسطين، فإن وجود هذه المؤسسات لا يعني حتمية التوجه نحو تحرير فلسطين، بآفاقها وموقعها، كما هي جغرافيا وتاريخ .
لماذا نطرح هذا الجدل في هذا المنعطف التاريخي، للقضية الفلسطينية؟ هل نحن أمام مماحكات صورية أو رياضة ذهنية، أم أن ذلك هو في القلب وفي الصميم من موضوع الدولة الفلسطينية، وفي مقدمة هذه الموضوعات عروبة القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين؟
لنتحدث أولاً عن القضية الفلسطينية في سياق حركات التحرر الوطني التي شكلت ملمحاً مهمّاً من ملامح القرن العشرين، ومثّلث صبوات شعوب العالم الثالث للتحرر والانعتاق . لقد ماجت شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بإيقاع متناغم أنجز في حقبة قصيرة هدف الاستقلال . ولا شك أن الظروف التاريخية، وانقسام العالم إلى معسكرين، وهزيمة الاستعمار التقليدي في الحرب العالمية الثانية، قد أسعفت مشروعات التحرير ومكّنتها من إنجاز أهدافها في انتزاع وثائق الاستقلال .
تبنت الولايات المتحدة منطق الإزاحة للبريطانيين والفرنسيين، أما الاتحاد السوفييتي فأمّل بنصرته حركات التحرر الوطني، أن يوسّع دائرة نفوذه، تعزيزاً لاستراتيجيته في الصراع مع القطب الأعظم الآخر، والنتيجة أن الدماء الغزيرة التي سالت في معارك التحرير لم تذهب سدى .
غاب التناقض الجدي، في مرحلة الاستقلال، بين موقف النظام العربي الرسمي وبين الأهداف المعلنة لحركات التحرر الوطني العربية . ولم يشكل تقديم الدعم العربي لهذه الحركات، تهديداً حقيقياً لوجودها، نظراً لاسترخاء قبضة الاستعمار التقليدي، وانشغال القطبين الأعظمين، في استكمال ترتيب المسرح الدولي بما يتسق مع الحقائق التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية .
ومع نهاية الستينات، أنجزت معظم شعوب العالم الثالث استقلالها السياسي، وتوزّعت تحالفاتها، أو استتباعها للخارج، بين السوفييت والأمريكيين . ولم تتبق أرض عربية محتلة غير فلسطين، وأرض عربية أخرى في أطراف الوطن العربي .
النقطة الجوهرية، في هذه القراءة، هي أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، جاء في منتصف الستينات من القرن المنصرم، بعد أن جرى ترتيب المسرح الدولي، وتحقق انزياح الاستعمار التقليدي، وأصبح التحالف الصهيوني، قائماً بامتياز مع قوة إمبريالية صاعدة، أكثر قوة ونشاطاً وحركة، هي الولايات المتحدة . لقد انتهت مرحلة تاريخية، بما لها وما عليها وبدأت مرحلة أخرى، وكان من سوء طالع النضال الفلسطيني، أن مقاومته المعاصرة من أجل التحرير، قد أخذت مكانها في مرحلة صعود الخط البياني للنظام الدولي الجديد، وبعد أن أنجزت معظم حركات التحرر الوطني في العالم استقلال بلدانها .
النقطة الجوهرية الثانية، هي أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم تكونا محتلتين أثناء انطلاق حركة المقاومة، فالضفة الغربية غدت منذ مطالع الخمسينات جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة، وضع بموجب اتفاقيات الهدنة التي أنهت الحرب في فلسطين تحت الإدارة المصرية . وقد رتبت هذه الأوضاع على المقاومة صياغة استراتيجياتها، اعتماداً على المخيمات الفلسطينية التي شكلت العمود الفقري للمقاومة .
ذلك يعني، أن فكرة إقامة الدولة الفلسطينية بالضفة والقطاع لم تكن في الحسبان، ولم يكن من المنطقي أن يتضمنها برنامج الكفاح الفلسطيني . وفي هذا السياق، نذكر أن جميع فصائل المقاومة التي تأسست سواء قبل نكسة الخامس من يونيو/حزيران، أو بعدها لم تطرح برنامجاً مرحلياً للتحرير، بل طرحت شعار استعادة فلسطين من الصهاينة، من النهر إلى البحر .
هكذا جاء تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، ككيان سياسي يمثل الفلسطينيين في الداخل وحيثما وجدوا في الخارج . لقد ولدت المنظمة في المنافي، حالها في ذلك حال الشعب الفلسطيني المشرد، وكذلك الحال، ينسحب على حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح . وما دام العمود الفقري لمنظمة التحرير وللمقاومة على السواء هم اللاجئون الفلسطينيون، فإن ترتيب الأولويات يستوجب النضال، من أجل تأمين حق العودة، وليس تأسيس دولة مستقلة على بعض من فلسطين . إن وجود قيادة منظمة التحرير للنضال الفلسطيني، والدور الذي اضطلعت به حركة فتح في مقاومة الاحتلال، بعبور الحدود عبر مختلف الجبهات العربية، قد أسس لكيانية سياسية، تفتقر إلى الرقعة الجغرافية . لكن هذه الكيانية هي التي أشعلت جذوة الأمل بإمكانية عودة اللاجئين في المخيمات إلى مواطنهم الأصلية، بعد بقائهم مشردين في المنافي لعقود عدة .
هذا الواقع تغير تماماً، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام ،1973 حيث شهدت المناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، نهوضاً شعبياً في مواجهة حراب الاحتلال “الإسرائيلي” . وكان ذلك يعني انتقالاً رئيساً في النضال الفلسطيني، شمل الممارسة والفكر، وتحول منطقة الجاذبية النضالية، من المخيمات الفلسطينية في الأردن ولبنان وسوريا إلى مدن وقرى الضفة والقطاع .
إن تحول منطقة الجاذبية في النضال الفلسطيني من المخيمات، حيث الأولوية لحق العودة، إلى الضفة والقطاع، قد أحدث تغييراً رئيساً في ترتيب الأولويات . فالمواطن الفلسطيني بالضفة والقطاع، يواجه القمع “الإسرائيلي” بشكل مباشر، والأولوية بالنسبة إليه هي التخلص من الاحتلال، وإقامة السلطة المعبرة عن تطلعاته في الحرية وتقرير المصير .
ينبغي في كل الأحوال، التمييز بين السلطة الفلسطينية المفترض فيها إدارة شؤون الفلسطينيين في المناطق التي ينسحب منها المحتل “الإسرائيلي”، وبين منظمة التحرير كطليعة للثورة الوطنية، لم تستكمل مهماتها بعد، وعليها أن تتفرغ بالكامل لتلك المهمات، من دون ضغوط أو مساومات، ودون الإخلال بالمبررات الأساسية المعلنة التي أدت إلى منحها وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني في كل المواقع والمنابر .
خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والصيغة التي وردت فيها المطالبة بالاعتراف بالدولة المستقلة هو تكريس لعملية الخلط، وضبابية الرؤية في ترتيب الأولويات . هذا الخطاب والجدل الذي دار حول ما له وما عليه، سيكون محور مناقشتنا في الحديث المقبل بإذن الله تعالى .