الكواكبي والاستبداد
سفيرة السلام والنوايا الحسنة
المنظمة الأوربية للسلام والتنمية
أحاول أن أقدم للقارئ ملخصا موجزا لكتاب الكواكبي (طبائع الاستبداد)، لعل وعسى تنفع الذكرى، ولعلنا نجد كعرب ومسلمين الطريق القويم للخلاص من كبواتنا المتوالية. وحتما استفاد من (الكواكبي) وأفكاره الكثير من المفكرين أمثال (جمال حمدان) في كتابه (شخصية مصر)، وغيره من المفكرين، لكن كم نتمنى أن تجد هذه الأفكار طريقها إلى النور، وأن تتحول إلى فعل تطبيقي في الواقع العربي.
ولد المفكر والمصلح (عبد الرحمن الكواكبي) في حلب عام 1854، واغتيل في مصر 1902، وقد أمضى حياته داعيا للنهوض بالأمة العربية، ومقاوما الاحتلال العثماني، درس علوم الفقه والشريعة والطبيعة والأدب، وأصدر كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) قبيل اغتياله بفترة وجيزة، وكنت قد قرأته منذ زمن طويل، لكنه وقع بين يدي وأنا أرتب مكتبتي؛ فأعدت قراءته من جديد، وأيقنت لماذا تم قتل هذا المفكر العظيم بالسم وهو في قمة عطائه؛ فكل حرف وكل كلمة وكل سطر في هذا الكتاب الكنز له قيمة ثمينة جدا.
وليسمح لي القارئ أن أقتطف بعض المقولات لهذا العبقري المبدع الذي يقول:
"الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، والمستبدون يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم أحرار، وهذا صريح معنى الآية القرآنية: (كما تكونوا يولى عليكم)، ما أليق بالأسير في أرض أن يتحول إلى حيث يملك حريته؛ فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط ".
"كنت أسأل نفسي دوما: لماذا يناصر أغلب رجال الدين المستبد؟ مع أن الدين جاء رسالة إلهية وثورة بشرية ضد الظلم والطغيان، ويأتي الجواب من (الكواكبي) قائلا: "ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، تعطيه مقامًا ذا علاقة مع الله، ويتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، لتفريق الأمة إلى مذاهب وشيع متعددة تقاوم بعضها بعضا؛ فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها؛ فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ ".
"والآيات الكريمات التي تدين الظلم كثيرة جدا، منها قول (بلقيس) ملكة (سبأ) من عرب تُبع تخاطب أشراف قومها: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)، وكما ورد في قصة (موسى) مع فرعون: (قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى) ، أي أفضت مذكراتهم العلنية إلى النزاع؛ فأجروا مذاكرة سرية كما يجري حاليا في مجالس الشورى، وفي قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، و (وشاورهم في الأمر) ".
وعن الاستبداد والدين يقول (الكواكبي): "عبيد المستبد من رجال الدين وخدامه يحولون ويحورون ويفسرون الآيات الكريمة على هواهم بما يخدم المستبد؛ ففي الآية الكريمة: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) فسر تجار الدين (أولى الأمر) بأنه المستبد وأعوانه، في حين يُقصد بها أصحاب الرأي والعلم وأشراف القوم، ويأتي تضليل رجال دين المستبد ليُسقطوا عمدا كلمة (منكم) التي تعني من المؤمنين وليس المستبد ".
"أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة يُلقي عليها الاستبداد رداء، خوفا من الناس من تبعة الشهادة فهم يذكرون الآية: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) ويغفلون بقية الآية: (إلا من ظلم )".
"العدل أساس الحكم، والآيات تؤكد: (إن الله يأمر بالعدل)، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، وعّاظ السلاطين أفتوا أن لفظ (العدل)، تعني الحكم بما قاله الفقهاء، وليس التساوي بين الناس".
"(وإذا أردنا أن نهلك قرية أِمرِنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) أِمرِنا وليس أمرنا بالفتحة، أي جعلنا أُمراءها مُترفيها ففسقوا فيها، أي ظلموا أهلها؛ فحق عليهم العذاب".
"(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، هذه الآية لا تعني سيطرة المسلمين على بعضهم البعض، بل إقامة فئة تسيطر على الحكام كمجالس النواب في الدول المتقدمة ".
"(المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). حرّفوا معنى الآية على ولاية الشهادة دون الولاية العامة، وغيروا مفهوم اللغة، وبدلوا الدين، وطمسوا على العقول ".
"والحديث (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، يعني أنَّ كلا منكم سلطان ومسئول عن الأمة. كذلك الحديث (الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)، والتقوى ليست بكثرة العبادة، بل الابتعاد عن رذائل الأعمال اتقاء لعقوبة الله ".
"وعّاظ السلاطين يتفننون في تعظيم المستبد في قولهم: (هو ظل الله على الأرض)، ويتناسون الآيات الكريمة: (ألا لعنة الله على الظالمين)، (فلا عدوان إلا على الظالمين)".
رحمك الله يا (عبد الرحمن الكواكبي)، لو كنت حيا الآن لكتبت مجلدات في فنون المستبد وخدامه من رجال الدين وغيرهم في التلفيق والكذب، لكنك تركت كتابا يغني عن ألف كتاب.
ثلاثون عاما من الجهد والعناء والبحث ليل نهار للعلامة (عبد الرحمن الكواكبي)، بعدها يصدر كتاب (طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد) الذي يُعد من أهم الكتب منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، بل أرى أنه كنز لا يقدر بثمن.
يتحدث (الكواكبي) عن علاقة الاستبداد بالأخلاق قائلا: "إفراط الثروة مهلكة للأخلاق، وهذا معنى الآية (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)، الطمع القبيح يخف عند أهل الحكومة العادلة، وفساد الأخلاق يزيد من حب الإسراف ".
"تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جدا، إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطة أو التجارة التي فيها احتكار أو استعمار ".
"وفي عهد الحكومات المستبدة يصير تحصيل الثروة بالسرقة عن طريق التعدي على الحقوق العامة، وينحط الفرد في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم وأعوانه بأشياء من التملق وخدمة الشهوات والتجسس ونحو ذلك، وأعظم أبواب الثروة إذا حصل المنتسب على الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها، ويليه الاتجار بالدين، ثم الملاهي، ثم الربا الفاحش ".
وبعبقرية فذة يقول (الكواكبي): "من طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا، إلا فجأة قريب قضاء الاستبداد نحبه، ذلك أنَّ الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغربهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب؛ فتكثر النقود بين الأيدي لكنها تشبه نشوة المذبوح ".
"ومن طبائع الاستبداد أنَّ الأغنياء أعداؤه فكرا، وأوتاده عملا؛ فهم ربائط المستبد، ويرسخ الذلّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها، أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، فيتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، وكذلك الفقراء يخافون المستبد خوف البغاث من العقاب، وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان ".
"الاستبداد يستولي على العقول الضعيفة، فضلا عن الأجسام، فيفسدها كما يريد ويتغلب على الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق كما يهوى ".
كل يوم أسمع من يتحسر على الماضي ويسأل: لماذا فسدت الأخلاق؟ ويجيب الكواكبي: "المستبد يرى النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة، الاستبداد يُفسد الأخلاق؛ لأنه يغيب العدالة الاجتماعية، ويجعل المواطن العادي خانعًا ذلولا له، إما بسبب الحاجة أو بسبب الخوف، أو بسبب الطمع ".
"الاستبداد يجعل طالب الحق فاجرًا، وتارك حقه مطيعًا، والمشتكي المتظلم مفسدًا ومحرِّضًا، والنبيه المدقق ملحدًا، والخامل المسكين صالحًا ".
"الاستبداد يُفقد الشهامة لا الشراسة، ويربي الصغير والجاهل على الطاعة والانقياد، عن خوف وجبانة ".
وبوصف دقيق يقول الكوكبي: "الأخلاق بذرها الوراثة وتربتها وسقياها العلم، والقائمون عليها رجال الحكومة، وعليه تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر؛ فإذا بُليت ببستاني لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب أفسدها وخربها، وإن صادفت بستانيًّا يهمه بقاؤها وزهورها، قويت وأينعت ثمارها ".
"أسير الاستبداد يعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة، والإرادة أم الأخلاق، والأسير أدنى من الحيوان؛ لأنه يتحرك بإرادة غيره، وأقل ما يفعله الاستبداد في أخلاق الناس، حتى الأخيار منهم، الأُلفة على الرياء والنفاق، ويعين الأشرار آمنين من كل تبعة ومسئولية ".
"فالشرقي الخائن يأمن الأفرنجي في معاملته، ويثق بوزنه وحسابه، ولا يأمن لابن جلدته وكذلك الأفرنجي الخائن ".
"الباحثون يقولون: الشرق مريض بسبب الجهل، أو بسبب فقد التمسك بالدين، أو بسبب فساد الأخلاق، أو بسبب فقد التربية، والحقيقة أنَّ المرجع الأول في الكل هو الاستبداد الذي يمنع الباحثين عن التصريح باسمه المهيب، فساد الأخلاق يعم المستبد وأعوانه، ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت ".
لماذا قال الشيخ (محمد عبده) مقولته: وجدتُ الإسلام في ديار غير المسلمين؟ ولماذا نرى في العالم العربي والإسلامي أخلاقيات بعيدة عن الدين؟ يشخّص (الكواكبي) علاقة الدين بالأخلاق: "الدين بذر جيد إذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو صادف أرضا مغراقا هاف الاستبداد بصرها وبصيرتها، وأفسد أخلاقها ودينها حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادات. الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقا فطرية لم تفسد؛ فينهض كما نهضت الإسلامية بالعروبة ".
رحمك الله أيها (الكواكبي)، لقد عرف المستبد من يختار لكي يغتاله غيلة، لكنك ستبقى حيا تؤرق دائما كل الظالمين والمستبدين حتى وأنت في قبرك الذي نقش عليه الشاعر حافظ إبراهيم بيتين يقول فيهما:
"هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم خير كاتبِ
قفوا واقرءوا أم الكتاب وسلموا عليه؛ فهذا القبر قبر الكواكبي ".
يقول (الكواكبي) ببلاغة رائعة: "الاستبداد أعظم بلاء يتعجل الله به للانتقام من عباده الخاملين، الاستبداد وباء دائم بالفتن، وحريق متواصل بالسلب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار ".
وعن الاستبداد والخوف، يتحدث (الكواكبي) قائلا: "إن خوف المستبد من رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأن خوفه ينشأ من علمه بما يستحق منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل ".
"كلما زاد المستبد ظلما، زاد خوفه من رعيته، وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته، وأضّر شيء على الإنسان هو الجهل، وأضّر آثار الجهل هو الخوف، والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين الخوف، والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، ولا وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه، فإذا زاد علم الرعية بأنَّ المستبد امرؤ عاجز، زال خوفهم منه وتقاضوا منه حقوقهم ".
"يسترهب الملوك الرعية بعلائم الأبهة وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسم التشريفات، عوضا عن العقل والمفاداة، كما يلجأ قليل العز للتكبر، وقليل الصدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس ".
"أخوّف ما يخافه المستبد أن يعرف الناس حقيقة أنَّ الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تُحفظ، والظلم وكيف يُرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها ".
"كلمة (لا إله إلا الله) تعني أنَّه لا يعبد سوى الصانع الأعظم، ولا يستحق الخضوع شيء إلا الله ".
وعن البطانة يقول (الكواكبي): "التمجد هواية الإدارة المستبدة، وهم القربى من المستبد كالأعوان والعمال والملقبين بالألقاب والنياشين ".
"الحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفرّاش، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا؛ لأن الأسافل لا يهمهم الكرامة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم أنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات؛ وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه؛ فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل، حسب شدة الاستبداد؛ فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة المتمجدين له، واحتاج إلى الدقة في اختيارهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة ".
"المستبد يحتاج لعصابة تعينه وتحميه، زمرة لصوص، ولا يثق المستبد إلا فيمن هو أظلم منه للناس، وزير مستبد لا وزير الأمة، وقائد يحمل سيفه ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة. والعوام هم قوة المستبد وقُوُته أي طعامه، يأسرهم فيتهللون، يغصب أموالهم فيحمدون على إبقائه حياتهم، يهينهم فيثنون على رفعته ".
"المستبد مخادع يظهر عكس ما يبطن، يستصنع الأسافل الأرذال من الناس، ويميل إلى المتملقين المنافقين من أهل الدين، وليس فيهم العفيف، وكفى بما يتمتعون من الثروات الطائلة التي لا منبت لها غير المستبيح الفاخر بمشاركة المستبد في امتصاصه دم الأمة، بأخذهم الرواتب الباهظة والعطايا الكبيرة دون وجه حق ".
وعن الاستبداد والمال يقول (الكواكبي): "لو كان الاستبداد رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرّ، وخالي الذلّ، وابني الفقر، وابنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال ".
وعن الاستبداد والعلم يقول (الكواكبي): "ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة والفلسفة والاجتماع والسياسة، وهو يخاف من العاملين الراشدين المرشدين لا من العلماء المنافقين، والمستبد يكره العلماء؛ لأنه يستحقر نفسه إذا وقعت عيناه على من هو أرقى منه، فإن اضطر لطبيب أو لمهندس مثلا، فهو يختار المتصاغر المتملق. المستبد يكره العلم والعلماء؛ لأن العلم يسعى إلى تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها ".
رحمك الله يا (كواكبي) ، استطاعت يد الغدر أن تطالك وأنت في قمة نبوغك، وفي عزّ عطائك الروحي والفكري، لكن على الرغم من ذلك ستبقى أفكارك تطير وتحلّ على القلوب الشريفة فتشعل الأفئدة، وتغذي العقول النيّرة فتضيئ الدروب المظلمة، وعلى الرغم من أنف كل مستبد سيبقى ذكرك خالدا إلى الأبد.
(الكواكبي) هذا الفقيه والعالم والفيلسوف والعبقري الذي اغتيل وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره، وباغتياله خسرت الأمتين العربية والإسلامية رجلا لا يعوض أبدا.
يُشخّص (الكواكبي) العلاقة بين التربية والاستبداد قائلا: "الخصال ثلاثة: الطبيعية الحسنة كالصدق والأمانة والرحمة، والخصال الطبيعية القبيحة كالرياء والقسوة والجبانة، والخصال الكمالية التي جاءت بها الشرائع الإلهامية، كالعفو وتقبيح الطمع والزنى وغيرها، والخصال الاعتيادية، أي ما يكتسبه الإنسان بالوراثة أو التربية ".
أسير الاستبداد يرث شر الخصال ويتربى على أشرها، ومن طبائع الاستبداد ألفة الناس على الأخلاق الرديئة ".
كنت دوما أسأل نفسي لماذا يهرول الفرد في مجتمعنا العربي كله لأداء العبادات من صلاة وصيام وغيرها، في حين يمارس كل لحظة عكس القيم التي جاء بها الدين، كالكذب والغش والسرقة والنفاق، ويبتعد عن القيم التي يحث عليها الدين كالنظافة والانضباط والنظام والإتقان وغيرها؟ فيجيب (الكواكبي) قائلا:
"الاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يُجّهل الإنسان كل ساعة، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، أما العبادات فلا يمسها المستبد لأنها تلائمه أكثر؛ لهذا تبقي الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات لا تفيد في تطهير النفوس، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر، كفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس التي ألفت أن تتلوى بين سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والنفاق والتملق؛ ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف الرياء أن يستعمله مع ربه ومع أبيه وأمه وقومه وحتى مع نفسه ".
"الاستبداد يربي الناس على استباحة الكذب والخداع والتذلل، وإلى إماتة النفس، ونبذ الجد وترك العمل. والاستبداد يتولى تربية الناس على هذه الخصال الملعونة؛ فيرى الآباء أن تعبهم في تربية أبنائهم يذهب عبثا تحت أرجل الاستبداد ".
"إن الأمم التي يسعدها جِدها لتبديد استبدادها تنال من الشرف الحسي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أسرى الاستبداد، فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمتها، وهذه سويسرا يصادف كثيرا ألا يوجد في سجونها محبوس واحد، وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوربا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها ".
قدم (الكواكبي) خمسة وعشرين مبحثا على هيئة أسئلة للبحث والتدقيق، تشمل: مبحث الأمة ومفهومها، الحكومة ونوعيتها ووظائفها، الحقوق العامة والتساوي فيها، الحقوق الشخصية، حقوق الحاكمية، طاعة الأمة للحكومة، توزيع التكليفات، إعداد المنعة والقوة، المراقبة على الحكومة، حفظ الأمن العام، حفظ السلطة في القانون، تأمين عدالة القضاء، حفظ الدين والآداب، تعيين الأعمال بالقوانين، كيفية وضع القوانين، القانون وقوته، توزيع الأعمال والوظائف، التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليمية، الترقي في العلوم والمعارف، التوسع في الزراعة والصناعة والتجارة، السعي في العمران، والسعي في رفع الاستبداد.
وكم هو أحرى بالباحثين التوغل في هذه الأسئلة للإجابة التحليلية عليها.
وفي ألف باء السياسة، يقول (الكواكبي) عن كيفية التخلص من الاستبداد: "الإنسان مر بمراحل عدة منها دور الافتراس ودور الاقتناء، وتعريف الاستبداد: هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم ".
"فالمستبد لا يوثق معه بوعد ولا بعهد ولا بيمين، والأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية ".
"فالأمة التي ُضربت عليها الذلة والمسكنة تصير سافلة الطباع كالبهائم أو دونها، لا تسأل عن الحرية ولا تلتمس العدالة ولا ترى في الحياة وظيفة غير التابعية ".
وأول شرط لغلبة الاستبداد: "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يستبدل به، بهدوء وروية ودون جلبة ".
وكأن (الكواكبي) يُشخّص الوضع الحالي بعد الربيع العربي قائلا: "الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، أما التي تحصل عليها إثر ثورة حمقاء قلما تفيد شيئا؛ لأن الثورة غالبا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها؛ فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت ".
"الاستبداد لا يقاوم بالشدة، بل باللين والتدرج؛ لأن الاستبداد محفوف بأنواع كثيرة من القوات منها: قوة الإرهاب بالعظمة، وقوة الجند وخاصة غريبو الجنس، وقوة المال، وقوة الألفة على القسوة، وقوة رجال الدين، وقوة أهل الثروة والأغنياء، وقوة الأنصار من الأجانب "، ونضيف عليها (قوة الإعلام)؛ لذا لا ينبغي أن يقاوم الاستبداد بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا.