القوى القومية في مواجهة الاحتلال وقوى التخلف
بقلم الأستاذ محمود القصاب
في كتابه الموسوم "الأعمال الفكرية والسياسية" يقول المفكر القومي الراحل منيف الرزاز: "إن الحركة القومية لا تكتسب صفاتها أو خصائصها من ذاتها، أي مجرد انها حركة قومية، إنما تكتسبها مما تعبر عنه من قضايا وما تسعى إلى تحقيقه من أهداف".
ونحن نعرف أن الحركة القومية في العالم الغربي قد ولدت في أحضان التنافس الاستعماري والنمو البرجوازي الاستغلالي، وقد اتخذت صفاتها منها وعلى العكس من ذلك ولدت القوميات في الدول التي خضعت للاستعمار ومنها (حركة القومية العربية) ولدت في حضن حركة المقاومة للاستعمار بكل ما فيه من احتلال واستغلال وتمييز عنصري واغتراب مطلق للإنسان وللإنسانية.
من هنا نحن نؤمن بأن الحركة القومية في الدول التي تتعرض للاحتلال هي حركة تحررية وتكون في الواقع نقيضا للاستعمار ونفيا له فكل شعب عندما يتحرك للرد ومواجهة الاستعمار يبدأ من الذات برفض حالة الذل والتبعية المفروضة عليه، وقبل أن يتمكن أي شعب من تحرير وطنه لابد أن يحرر نفسه أولا من قيود الاستعمار على إنسانيته، وعلى عقله وإرادته، فيبدأ بتأكيد ذاته أمام هذا (المستعمر) الذي يحاول الحط منها ومنه وهو يفعل ذلك بتأكيد إنسانيته وانتمائه وتاريخه ومجتمعه ولغته ودينه وحضارته من خلال تأكيد قوميته.
في فترة من الفترات قد يضطر بعض الشعوب الخاضعة للاحتلال إلى قبول حقيقة أن بعض قيمها قد تكون عاجزة عن الوقوف أمام معطيات القوة الغازية، وكثيراً ما نلاحظ أن هذه الشعوب تضطر إلى التخلي أو الاستغناء عن كثير من فضلات حضارتها السابقة التي تقف حجر عثرة أمام تنمية قدراتها النضالية وأداء رسالتها التحررية في مواجهة الغزاة والمستعمرين، والمقصود هنا هو كل قيم التخلف والاستغلال والعبودية، وهنا يبرز دور القوى السياسية التي يمكن أن تكون قادرة على قيادة هذه الشعوب المتطلعة إلى الحرية لتكون هي الحركة التاريخية التي هي اقدر من غيرها على الاستجابة للحظة التاريخية القائمة وتكون القوة المواجهة للاحتلال وانجاز هدف التحرير، فهذه الحركة أو القوى عندما ترفع شعار المقاومة والتحرير وتتمسك بخيار مصلحة الوطن لا مصلحة الحزب أو الطائفة التي تنتمي إليها تكون هي قوى المستقبل، وعلى النقيض منها تكون القوى الحزبية الطائفية المتخلفة باعتبارها قوى أمر الواقع القائم الذي أوجده المحتل، وتكون مشاريعها الانفصالية والتقسيمية هي أدوات بيد المستعمر لإضعاف البلد وتدمير كل معالم ومكامن قوته، فالاستعمار بمساعدة هذه القوى العميلة والتابعة يعمل على طمس كل الموروث الحضاري والمعرفي والثقافي وتشويه المكنون التاريخي للبلد الذي يحتله، ويعمل على سحق الهوية الوطنية والقومية واجتثاث القوى التي تمثل هذه القيم، وفي المقابل يستدعي ويفجر كل مواريث التخلف الديني والعرقي والطائفي للوصول إلى أهدافه.
فقد أكدت الأحداث أن المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية يقوم على إيجاد تناقضين أساسيين: الأول: يسعى إلى تعميق الخلافات بين القوى القومية والقوى الإسلامية والوصول بها إلى مستوى الصراع المسلح، والثاني: تمزيق المجتمعات العربية وفق اصطفافات طائفية ومذهبية وعرقية، والدفع بتأسيس نظم دينية طائفية في قلب ومحيط الوطن العربي، لتتحول إلى أداة في تنفيذ المشروع الأمريكي والتآمر على الأمة ووحدتها من خلال ضرب حركة النهوض القومي للأمة.
ولنا في وضع العراق اليوم وهو خاضع للاحتلال عبرة وصورة كاملة تعكسان هذه الحقيقة، فالاحتلال الأمريكي قام بغزو العراق وأسقط نظامه الوطني والقومي لأنه كان يحمل مشروعاً تحريريا نهضويا وحدويا، وأقام مكانه نظاما طائفيا متخلفا ومدافعا شرسا عن الاحتلال واستمراره، وعدوا حاقدا على كل القوى الوطنية والقومية التي تقاوم المحتل لتحرير العراق من رجسه.
على الرغم من أن هذا النظام والقوى التي تمثله تطلق على نفسها أوصافا إسلامية وتتبنى مسميات دينية لتحقيق أهدافها السياسية المرتبطة بالمحتل الأمريكي وخدمة أهدافه وشرعنة احتلاله ودعم برامجه التفتيتية والمشاركة في العملية السياسية التي أرادها المحتل ستاراً لمشروعه الاستعماري، في الوقت الذي تقوم فيه هذه القوى بضرب كل القيم والمعاني السامية للإسلام مثل الجهاد والحرية والعدل والمساواة، وتتمسك بالقشور وبعض التقاليد البالية التي هي في الواقع تخدم المستعمر وتشكل ركائز مهمة لاستمراره، وهكذا يتمم هذا النظام العميل عبر القهر والظلم ما بدأه الاحتلال وتبرز هنا بوضوح صورة تحالف العدوان الخارجي مع العدوان الداخلي لسحق إرادة الشعب المحتل. بل ان ما أشاعه المحتل وأعوانه من فرقة واحتراب طائفيين وما أثاره من مظاهر الغلو الديني والتطرف الطائفي أسهم في تشويه قيم الدين نفسها، وصور من خلال واقع القوى السياسية الطائفية أن الدين يمكن أن يكون حليفاً للمحتل في تدمير الوطن وتمزيقه، بخلاف ما يفرضه الدين الحق من واجبات الجهاد لتحرير الوطن والاحتلال ودوره الايجابي في توحيد المجتمع وتثوير طاقاته لمقاومة المحتل.
ماذا يعني هذا ؟ يعني أن الإنسان الحر الذي يقاوم المحتل ويريد تحرير بلده يقبل على المقاومة إقبال الإنسان الواعي لشخصيته. فتلك هي صفة الإنسان المناضل، المقاوم لا إقبال التابع، الذي يقبل على إلغاء ذاته وكيانه، هذا التأكيد على الذات وعلى الشخصية والهوية، ورفض الخضوع والتبعية، هو الذي يعطي رد الفعل صفة القومية.
ولان رد الفعل على التحدي يجب أن يكون من نوع التحدي نفسه، نابعاً منه، ومناقضاً له، ونافياً لخصائصه في الوقت نفسه، لكل ذلك كانت حركة القومية العربية التحررية هي رد فعل طبيعي على التحدي الاستعماري بكل ما يمثله هذا التحدي من ضروب الاستعمار والاستغلال وسحق للهوية وللتاريخ وسرقة الموارد والثروات.
وهناك فرق بين "القومية" من حيث هي رابطة، وبين "الحركة القومية" من حيث هي وعي هذه القومية بذاتها، ومن حيث هي نضال لجعل هذه الرابطة منطلقاً في الميدان التاريخي.
فالرابطة القومية قد تبرز أحياناً في التاريخ لتكون أقوى رابطة تربط المجتمع وتجعل منه الوحدة الاجتماعية الحضارية المتكاملة المميزة عن غيرها من الوحدات، وقد تنحسر أمام غيرها من الروابط، إذا حلت رابطة أخرى محلها في مرحلة من التاريخ فيضعف أثرها وتتحول إلى رابطة ثانوية، ولكن من المستحيل القضاء على رابطة القومية رابطة الانتماء والهوية.
وفي إطار فهمنا وإيماننا بهذا الرأي يمكن القول هنا – من دون أي تحفظ – ان التطورات السياسية والاجتماعية على ساحتنا البحرينية وما رافقها من تداعيات تفصح بشكل جلي – يوماً بعد آخر – عن حقيقة أن القوى القومية وتوجهاتها الفكرية السياسية، هي الأقدر على التعاطي مع القضايا والإشكاليات المجتمعية الكبيرة في بعدها الوطني الشامل، بمعنى انها الأقدر على التعامل مع الواقع الاجتماعي المعاش، فالقوى تعمل وتتصرف باعتبارها جزءاً من الوطن، وليست جزءاً من طائفة معينة أو عشيرة أو عرق معين، وانها في نضالها السياسي وفي تكوينها الفكري وكذلك في بنيتها التنظيمية، تخاطب وتستوعب كل المواطنين وفق أجندة وطنية واحدة وموحدة، أفقها وامتدادها الطبيعي ساحة الوطن العربي، لذلك فإن هذه القوى هي اليوم تعبر بصدق عن تطلعات شعبنا إلى تجاوز الاصطفاف الطائفي والاحتقان المذهبي اللذين يحكمان طريقة معالجة المشكلات المطروحة والملفات الوطنية المفتوحة، وان هذه القوى ترفض أن تتحول الطائفية إلى شكل سياسي في البلاد من دون أن يعني ذلك إلغاء أو عدم الاعتراف بالتعددية المذهبية القائمة، إنما هي تقوم – على المستويين النظري والعملي – بـ "استبدال التعددية الطائفية بتعددية التوجهات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية"، في جو من الحرية السلمية والديمقراطية الشاملة كخيار مبدئي يحفظ حق الجميع ويساوي بينهم.
ويمكن تعرّف هذه الحقيقة عندما نشخص اليوم الواقع العربي، حيث نلحظ تغلب روابط التجزئة والطائفية وشيوع قيم ومفاهيم مثل الفيدرالية وغيرها، من هنا فإن بعض هذه المفاهيم مثل القطرية والطائفية، والعشائرية الشعوبية، جميعها تلتقي في مواجهة التوحد القومي، بل هي تقف في مواجهة التوحد على مستوى الوطن أو القطر الواحد أيضا، لأنها قيم معادية بطبعها لكل قيم التوحد والتحرر وخيارها دائما الوقوف مع الاحتلال والاستغلال والظلم، وإشاعة قيم التخلف.
وها هي ارض العراق (مرة أخرى) تقدم الشهادة الواقعية والحية لهذا الرأي، فكل هذه القوى المتخلفة تقف اليوم في مواجهة المقاومة العراقية التي تعمل على وحدة وتحرير العراق من الغزاة، فهذه المقاومة بكل فصائلها الوطنية والقومية والإسلامية هي المؤهلة تاريخيا ومرحليا لتحقيق أهداف الشعب العراقي في التوحد والعمل الجهادي ومحاربة كل أشكال الفرزين الطائفي والعنصري بوصفهما وسيلة من وسائل المحتل لتمزيق المجتمع وإضعاف قواه المقاومة. وليس من باب المصادفة أن تكون القوى القومية التحررية هي اليوم في طليعة هذه المقاومة.