القومية العربية بين الأصالة والتجارة
فؤاد الحاج
القومية العربية حقيقة تاريخية في الأمة والتعبير عنها لا يمكن أن يكون إلا بدعم المقاومة الوطنية والقومية بكل فصائلها في عراق التاريخ والحضارات.. فعلى الرغم من حالة التشويش التي أصيب بها بعض أبناء العروبة ورفض البعض الآخر للقومية العربية لأسباب طائفية ومذهبية لا علاقة لها بالدين الإسلامي الحنيف، لأن هذا الدين العظيم جاء للإنسانية كقيم ومفاهيم وأخلاق وليعيد للإنسان إنسانيته وللمحروم حقوقه، وليصيغ معنى الحياة للبشرية بشكل عام، وللعرب جاء خصيصاً كي يعودوا عن غيهم وشركهم بالله فآمن من آمن وابتعد من ابتعد منهم، على الرغم من أن الدين الإسلامي لم يلغ الديانات الأخرى بل حافظ عليها وعلى متبعيها كما حافظ على حقوقهم فتعايشوا معاً بأمن وسلام منذ بدء نزول الوحي على خاتم الأنبياء والمرسلين. إلا أنه لم يقدر على منع المشركين من التآمر مع أعداء العروبة وأعداء الدين الإسلامي الحنيف، خاصة أولئك الذين لبسوا لباس رجال دين فكانوا وبالاً على الدين أولاً ومن ثم على الأمة العربية بمفاهيمها ونظراتها المختلفة وقد ظهر ذلك جلياً بعد وفاة الرسول (صلعم) مباشرة، حيث انقسم المسلمون بين مصدّق ونافٍ لوفاة الرسول، فمن تلك اللحظة بدأ أعداء الإسلام والعروبة ينظر كل منهم بمقياسه بناء لحساباته الخاصة يصيغ ويحرّف النظريات والمفاهيم التي كرسها الرسول العربي الكريم في الأحاديث النبوية الشريفة كما أكدها القرآن الكريم. ومنذ عهد الخلفاء الراشدين (رض) تعاون أعداء الإسلام الداخليين مع أعداء الأمة العربية الخارجيين فكانت المؤامرات تحاك ضد العرب، منهم ما كشفته الأيام كتب التاريخ العربي على الرغم من الدسائس المنشورة في بعض الكتابات التي لا يمكن فصلها عن الخيانات والمؤامرات التي لا زالت إلى يومنا هذا تعج بالدخلاء باسم الدين أولاً، ومن هؤلاء من كرّس الطائفية التي أودت إلى فرقة المسلمين مستعملين كلمات مجتزأة أو محرّفة لعبارات وردت في بعض الأحاديث النبوية، ومفسرين لمعاني وردت في القرآن الكريم خدمة لمصالحهم ومصالح أسيادهم من غير العرب! ومن هؤلاء أيضاً من شوّه معنى ومفهوم القومية داساً سمومه في مقالات وتحاليل وكتب ومؤتمرات باسم العروبة، مستعملاً مصطلح القومية العربية من أجل مصالح فردية تجارية وما شابه، وراح يعقد المؤتمرات السنوية والطارئة وما إلى هنالك من مصطلحات، مع العلم أن الكثير من المشاركين في تلك المؤتمرات يعرفون ذلك ولكنهم يشاركون في تلك المؤتمرات لأنه عملياً لا يوجد بديل عنها في الوقت الراهن خاصة بعد أن انتهى مؤتمر القوى الشعبية العربية بعد مؤتمره السابع الذي عقد في بغداد العروبة للفترة من 9 إلى 11 آذار/مارس 2002 تحت شعار (بالصمود والمقاومة والنضال الشعبي الموحّد نحرر فلسطين وندحر مؤامرة الحصار والعدوان على العراق) الذي أقر عقد المؤتمر التالي (الثامن) في النصف الأول من شهر آذار/مارس 2004 في عاصمة قطر عربي وبموافقة أعضاء المؤتمر من ذلك القطر العربي، الذين يمثلون كافة التنظيمات الحزبية وشرائح المجتمع ويربوا عددهم على المئة شخص ولكنهم لم يعملوا مع الأسف على عقد المؤتمر المقرر رغم كل اتصالاتي ولمدة تزيد عن السنة بعد غزو العراق واحتلاله ولكن بعضهم شارك في مؤتمرات أخرى حملت صفات القومية العربية بعد غزو العراق واحتلاله، لذلك أعتقد أن هواية السياحة والتجوال في عواصم الأقطار العربية هي هواية الكثير من هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى القومية العربية ويحملون صفات رؤساء أو أمناء أو قيادات حزبية (وطنية) و(قومية).. ومن المشاركين في تلك المؤتمرات الذين يعرفون أن الجهة الداعية وإن كانوا لا يودونها شخصياً إلا أنهم يقولون أنهم يريدون إيصال صوتهم وإن كانت المشاركة ستكلفهم الكثير لأنها على نفقتهم وإن كان البعض معفى من النفقة أي على نفقة الجهة الداعية، وهم يشاركون هذه المؤتمرات علّهم يقدروا على تمرير رأي أو تغيير رأي مناهض للعروبة لا يخدم القومية العربية! المهم هنا أن الأيام قد تحمل لك من المفاجآت ما لم تتوقع من بعض الذين يدعون أنهم قوميون عرب وهم أبعد ما يكونوا عن مفهوم العروبة والقومية العربية.. ومن هؤلاء الذين كانوا يشاركون في المؤتمرات التي كانت تعقد في بغداد على نفقة الأمانة العامة لمؤتمر القوى الشعبية العربية، استقبل الرئيس صدام حسين عدداً كبيراً منهم، كما أنه رحمه الله كان يلتقيهم جماعياً ليبث فيهم روح الثبات على مواقفهم القومية وناصحاً في أحيان كثيرة بغرض تعديل فقرة وردت في نص بياناتهم التي كان يرى أنها مضرّة في العمل الجماعي المنطلق من بغداد، وهكذا..
(ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً / ويأتيك بالأخبار من لم تزود)
الشاعر العربي طرفة بن العبد
أتتنا الأيام بخبر متجدد عن شخص عراقي الأصل يستلم منصبين الأول اسمياً والآخر يعود الفضل فيه للمرحوم الدكتور سعدون حمادي غفر الله له، كما يعود الفضل لعودته إلى العراق إلى أستاذ الدبلوماسية العربية الكبير طارق عزيز (فك الله أسره من قيد الطغاة والغزاة) الذي كان يعمل على إعادة كل الذين لقبوا أنفسهم (معارضة) ولم ينغمسوا في العمالة لقوى الشر في العالم، ومنهم هذا الشخص الذي عاد إلى العراق عام 2001 بعد أكثر من عقد من الزمن لفراره منه، وقد استقبله الأستاذ طارق عزيز وكرّمه في إحدى الندوات، كما استقبل شخصاً آخراً طموحاً من بيروت لعب دوراً بارزاً في شق حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان في بدايات سبعينات القرن الماضي مع آخرين ودعمهم في ذلك مادياً وعسكرياً عناصر قيادية في حركة (فتح) في لبنان ومن ثم عناصر دولة شقيقة، المهم هنا أنه ما أن وقع غزو واحتلال العراق اتصلت بهذين الشخصين طالباً منهم تشكيل لجنة في لبنان لدعم العراق ضد الغزو والاحتلال، والعمل على دعم المقاومة الوطنية والقومية في العراق، على أن أرسل له أسماء شخصيات بارزة عربية ودولية لتساهم في نشاط اللجان بحكم خبرتها ودورها النضالي الطويل ضد الاستعمار، فوافق الشخص البيروتي على ذلك وطلب مني أن أرسل له أسماء الشخصيات الوطنية والقومية العربية والشخصيات غير العربية، فأرسلت له لائحة تضم عدداً كبيراً من كافة الأقطار العربية دون استثناء، إضافة إلى عدد من الشخصيات غير العربية من مختلف دول العالم، وحددت بعض النقاط التي يجب أن تكون برأيي نقطة الانطلاق للجنة، أذكر منها التركيز على أنه لا شرعية إلا لشرعية أعضاء القيادة الوطنية الأسيرة، وبعد أن ألقي القبض على الرئيس الشهيد صدام حسين وكذلك عشرات الآلاف من العراقيين في أسر الغزاة الطغاة، أضفت (العمل على الإفراج عن الأسرى العراقيين والتركيز على عدم شرعية الاحتلال، وأن القيادة الشرعية هم الرئيس صدام حسين وأعضاء مجلس قيادة الثورة الأسرى بيد الغزاة المحتلين، وذكرتهم باستقبال السيد الرئيس صدام حسين لعدد من تلك الشخصيات ومنهم هذين الشخصين ومن تكريمهم.. وبعد أن أرسلت للشخص البيروتي أسماء الشخصيات الوطنية والقومية العربية وغير العربية كي يعمل على تشكيل تلك اللجنة لم أعد أسمع منه أي خبر على الرغم من إرسالي له عشرات الرسائل لمدة سنة تقريباً، إلى أن فوجئت بأن أسماء كثيرة من تلك الشخصيات الوطنية والقومية العربية تم توجيه دعوات لها للمشاركة في مؤتمر يحمل صفة القومية العربية، فاتصلت بأحدهم بداية طالبا منه توضيحاً للموقف وكيفية دعوته، وأن يعمل على طرح تشكيل اللجنة التي اقترحتها ومن ثم أرسلت رسائل لباقي الأسماء التي قدمتها شارحاً لهم فيها بأنني أنا الذي قدّمت تلك الأسماء للشخص المعني في بيروت، وطلبت منهم العمل على تشكيل تلك اللجنة، وكانت المفاجأة أن تصلني رسالة رد قاسية من ذلك الشخص البيروتي بينما كان من المفترض أن يصلني الجواب من الشخص الأول الذي اتصلت به! المهم هنا أن ذلك الشخص البيروتي يقول في رسالته (أن الوقت لا يسمح بتشكيل مثل هذه اللجنة)، إضافة لكلمات أخرى تدل على الحقد والتشفي وغير ذلك من كلمات سيحين موعد نشر رسالته إذا سمحت الظروف بذلك، والمفاجأة الثانية كانت بعد سنتين من غزو العراق واحتلاله أن الشخص البيروتي المذكور شكّل لجنة للدفاع عن الأسرى وسلّم رئاستها لشخص آخر مقرّب منه في بيروت، دون أن يكون لها أي فعل أو أثر عملي على أرض الواقع سوى إصدار بيانات، بمعنى أنها كانت لجنة حبر على ورق..
وهكذا مضت الأيام دون أن نسمع أي تحرّك عملي أثّر ولو نسبياً بإطلاق أسير واحد من الأسرى العراقيين إن من القيادة الشرعية الأسيرة أو من باقي الأسرى الرافضين للاحتلال!! حتى ولو بمظاهرة رفض وعدم اعتراف تعيين أي (دبلوماسي) في سفارة العراق في بيروت أو في باقي العواصم العربية، والمطالبة بفتح سفارات العراق في العواصم العربية لممثلي المقاومة الوطنية والقومية العراقية الممثل الشرعي الوحيد لشعب العراق العظيم، إلى أن وجدت في بعض من ملفاتي وأشرطة الكاسيت التي كنت أحملها معي، بخط يدي حديثاً للرئيس الشهيد صدام حسين خلال استقباله في الثالث عشر من أيار 2001 لنخبة من المفكرين القوميين العرب منهم من ناضل ولم يزل في سبيل تحقيق الوحدة العربية منذ أربعينات القرن الماضي، ومنهم تساقط مع الساقطين بعد التاسع من نيسان 2003، وهؤلاء الساقطون كانوا يخدعون أنفسهم قبل أن يعتقدوا أنهم يخدعون الآخرين بادعاءات القومية العربية، وأسجل هنا خطاب أو كلمة الرئيس الشهيد نصاً كاملاً دون حذف أو اقتطاع، مع أنه كان بودي أن أنشر النص الصوتي أيضاً إلا أن الصوت لا يصلح للبث لذلك أكتفي بالنص الحرفي للكلمة التي ألقاها في ذلك اللقاء، تاركاً القراء الأعزاء مع هذا النص الذي يبين فيه مفهومه للقومية العربية، والذي لا أعتقد أن أحداً يمتلك تسجيلاً صوتياً له لأن التسجيل الصوتي والمرئي الأصلي ربما موجود مع السراق الذين نهبوا بغداد وكل الدوائر الرسمية ومنها تلفزيون بغداد، راجياً أن يتم العثور على النصين الصوتي والمرئي في أسواق العراق أو لدى أحد الإخوة الذين لا زلوا يحتفظون ببعض التسجيلات في مكان ما.
بسم الله الرحمن الرحيم
نحد الله أن الفكر القومي عاد الآن إلى مكانته واستحقاقه، فهو في حالة غير مخترعة، ولا مصطنعة، وإنما حالة أصلية في الأمة تعبيراً عن حالها ووصفها التاريخي مثلما هو، ومثلما هو حاضرها أيضاً.. لذلك نفرح عندما نسمع أنكم تجتمعون وتبحثون في القضايا القومية، ونفرح بكم، لأن المتحدث بالقومية أصبح كأنه يأتي بشيء بال في أساليبه وكلامه، ولشدة هجوم أعداء الأمة على الفكر القومي والقومية العربية حاولوا أن يربطوا بها كل الإخفاقات، رغم أنها غير مسؤولة عن أي إخفاق، فعندما ينجح أي حامل لعنوانها إنما ينجح بسببيها، وعندما يخفق فهي غير مسؤولة، ولكن الأعداء فعلوا الكثير ليقوضوا هذا النسيج الأصيل في الأمة، وهذه العاطفة المشبوبة تجاه القومية العربية كتعبير أصيل عن الأمة، فالحمد لله أن كل المنابر القومية الأصيلة بدأت الآن، والبركة فيكم.
إنني مسرور بكم وباللقاء بكم كأشخاص، ومسرور بدوركم وبما قمتم به، أود أن أولي عناية خاصة في هذا اللقاء لجانب من الماضي القريب لكي لا يشغلنا الحاضر عنه، باعتبار أن كل خطوة تؤسس في الحاضر لا بد أن تكون لها صلة بالماضي، إذا أريد لها أن تكون أصلية، وأن تتوجه إلى المستقبل، إذا أريد لها أن تكون عصرية بمفهومنا كأمة وطبقاً لقياساتنا والمعاني التي نؤمن بها ونراها أساساً تؤسس عليها خطوة الحاضر والمستقبل.
لأنه لأمر طبيعي أن يقوم العراق بما قام به، لأنه من البلدان العربية التي لها وزن في صنع التاريخ العربي.. ومع أن العرب كلهم يصنعون التاريخ العربي، ولكن ترتب على أقطار بعينها عبر الزمن نوع من المسؤولية قد لا تكون بنفس الثقل تماماً، أو بنفس ما ينبغي من أداء لأقطار أخرى، ومنها العراق الذي هو جزء من هذه الأمة العظيمة الكبيرة، وأن الذين يقودون في العراق يقودون باسم الأمة العربية، فإذا كانوا أصلاء ينبغي أن يمثلوه، وإذا كانوا من الذين يرفعون الشعارات ليعبروا بها مرحلة ثم يتناسونها، فأنكم ستكتشفون أن جهود إخوانكم في هذه الظروف الصعبة التي مر بها بلدكم، والتي تثنون عليها أحياناً، لم تكن جهوداً كافية لكل المستقبل، وإنما كافية لأخذ شهادة نجاح في الحاضر، ولكت لدينا ثقة ويقيناً عظيمين بأن إخوانكم سيواصلون أخذ شهادة النجاح، ليس لأنهم يسعون إلى المظهر، وإنما لأن الأساس في ما يسعون إليه هو أن يكونوا أبناء نجباء لهذه الأمة الكريمة في رسالتها ودورها، وفي مناهجها العظيمة عبر التاريخ.
إن القومية العربية حقيقة موجودة في الأمة بما في ذلك التعبير الفطري، أو شبه الفطري، عنها مما قيل وهو معروف، فخلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، في الوقت الذي كانت دماء تسيل في بورسعيد وأجزاء أخرى في مصر، كانت دماء تسيل في بغداد وفي مجن العراق الأخرى، وهنا وهناك في الوطن العربي من شباب، ما كانوا يتقنون وربما لا يعرفون فلسفة القومية العربية كما ينبغي، ولكنهم وجدوا من خلال إحساسهم شبع الفطري أنهم ينتمون إلى أمة، وقد عرفوا من آبائهم وأجدادهم جيلاً بعد جيل أنهم في قطر له اسم يعتزون بتاريخه وبوصفه وبدوره، ولكن هناك ما هو أوسع وأكبر وأعلى وأرقى معنى لو وضعت طاقة القطر في ميدان هذا المعنى وهذا الهدف، وهو القومية العربية، فكان الشعب هنا وهناك يعبّر بهذا المعنى عن انتمائه دون أن يأخذ أذنا من أحد في هذا الانتماء.
ولكي نكمل الموضوع ينبغي أن نقول ولو بإيجاز شديد أن القومية العربية أصيبت بنوع من التشويش عليها بعد ما سمي بالثورة العربية، لأن الثورة العربية في عام ذ916 أخذت في الشكل جانب العروبة ضد اللا عروبة، وضد التتريك والحالة التركية التي أخذت شكل الاستعمار وليس شكل من يمثّل روح الأمة وضميرها في كرسي الحكم، ويشوش عليها في جانب إرادة الاستعمار وكل القوى الأجنبية الطامعة في أمتنا، وفي جانب آخر كان التعبير عن إرادة الأمة العربية مشوشاً، وأحياناً مزوراً، فأوجد نوعاَ من الأنظمة، في الوقت الذي أزاحت الاستعمار جعلت الأمة تبتلي باستعمار جديد لا فرق فيه عن الاستعمار الأول سوى بالتسميات، وقد يجد من يريد المقارنة الشكلية لو أتيح له أن يقارن في المفاضلة النسبية أن الاستعمار التركي ربما كان أفضل لأنه كان يشترك معه في دين الله كأغلبية أمة، إذن، لا الحكم أعطى صورة عن القومية كما ينبغي، ولا الموقف اللاحق أعطى صورة حقيقية عن الأمة كما ينبغي، ولكن إلى من نسب هذا التشويش؟ وعلى كاهل من يقع؟ لم تسم الأمور بأسمائها، ولم يقل أن هناك من استخدم شعار القومية العربية ليصل إلى أغراض ذاتية، وإنما قيل هاكم لتروا أن القومية العربية فشلت، وقد أمعن محلياً في وضع هذا الثقل على عاتق القومية العربية اتجاهان أساسيان في الوطن العربي، هما: الاتجاه الشيوعي والاتجاه الديني المسيّس، حيث أمعنا إمعاناً شديداً في القول أن القومية العربية قد فشلت، ثم جاءت تجربة عبد الناصر، رحمه الله، وهي تجربة وطنية وقومية في روحها، ولكن طريقة التعبير عنها ومواجهتها في التطبيق والمصاعب قادت إلى نمط الإخفاقات التي نعرفها بما في ذلك الوحدة، وأمور أخرى، وظلمت تجربة عبد الناصر، وظلمت معها القومية العربية.. حيث قيل أن القومية العربية فشلت!
وظهرت أو برزت إلى السطح أحداث أو مناهج واتجاهات ينفس المسميات أيضاً، وهما الشيوعية والتيار التيار الديني المسيّس، وفي ظنهما أنهما ستسدان أو تمالآن الفراغ، أو ربما تصوروا أن هناك فراغاً عليهما أن تملآه.. ولكن الحقيقة عكس ذلك، إذ ليس هناك من فراغ لأن القومية العربية ليست شعاراً سياسياً، وإنما هو تعبير أصيل عن الأمة، وهنا أريد أن أقول أن هناك فرقاً بين التعبير عن القومية العربية وبين القومية العربية، ولا بد أن ندرك هذا الفرق، وهو فرق جوهري وليس موضوعاً شكلياً أو جزئياً، وإنما جوهري وشمولي وعميق، فالقومية العربية حقيقة تاريخية في الأمة، كوّن فكر الأمة فيها حالة أصيلة غير مخترعة، إذ نجد أن رعاة الأغنام في المغرب العربي ينتسبون إليها من غير إدراك لفلسفتها طبقاً لما يتحدث به المثقفون، ونجد أن العامل البسط في العراق أو في نجد أو في الحجاز أو في بلاد الشام كلها ينتمي إليها دون أن يطلب إذناً ودون فلسفة، فعندما تسأله: من أنت؟ يقول أنا فلان.. ومن أين؟ يقول أنا من نجد.. وما هو انتسابك؟ يقول: أنا عربي.. وهذه حالة لا أعتقد أن أحداً يغالط ويقول خلاف ذلك..
لقد فات المعنيون أن يوضحوا أنهم قد حاولوا بشكل أصيل، ولكن محاولة التعبير عن القومية العربية محاولة إنسانية حية، مثلها مثل تجربة الحكم.. فهل تجربة الحكم في الأقطار العربية الآن مثلها مثل قبل أربعين أو ثلاثين سنة؟ وهل أن أداء الحكام في الوطن العربي من الناحية الفنية مع ترك الهمة والنوايا أفضل الآن في قياسات المعاني الفنية للحكم، أم قبل ثلاثين أو أربعين سنة؟ أنا أقول أنها الآن أفضل في كل مكان من الخليج إلى العراق. ثم هل أن قدرة التعبير عن المعاني الاقتصادية الصحيحة في الأمة أفضل الآن أم قبل ثلاثين سنة؟ إنها أفضل الآن، وهكذا في الجوانب التقنية والعلمية وغيرها.
إذن، مثلما القومية العربية جانب من صلتها بالحياة تعبير حي عنها، فأن طريقة معانيها حيّة أيضاً وقابلة للتطور، لذا سهّل عبد الناصر، رحمه الله، مهمتنا في أن نعبّر عن القومية العربية في العراق بالمعاني التي تشيدون بها، ولو لم تكن تجربة عبد الناصر في مصر، ولو لم تكن تجربة البعث في سوريا، ولو لم تكن تضحيات المناضلين تحت عناوينهم في كل مكان، ربما لم نستطع أن نعبّر عن القومية العربية بنفس النجاح الذي تصفونه الآن، ومثلما نحن الآن.
إذن، بعض النظر عن النتيجة، فأن كل محاولة أصيلة في النيّة قام بها المناضلون العرب القوميون في الماضي هي جزء من القاعدة التي نستند إليها الآن في العراق لنعبّر عن القومية العربية تعبيراً ليس أصيلاً فقط، وإنما مقتدر وفعّال، يقول للعرب الباقين إذا كان العراق وهو مثلكم في نسبة الأمية فيه، وفي دور المرأة فيه، وفي الاقتصاد مع أن الاقتصاد فيه استطاع على الأقل في عناوين بعينها أم ينجح في كذا وكيت، فأنتم تستطيعون أن تنجحوا أيضاً، وإذا استطاع العراق كشعل من 25 مليوناً أن ينجح في الدفاع عن معاني الأمة، وليس المعاني الوطنية العراقية فقط، وإنما أقول أن معاني الوطنية العراقية اندمجت اندماجاً كاملاً في أم المعارك وحتى في القادسية مع معاني التعبير عن الأمة تعبيراً أصيلاً ومقتدراً، حيث أنها كانت مندمجة في خط البداية مثلما هي الآن، ولكن ربما لم تكن قدرة التعبير عن معانيها بنفس الكفاءة التي هي عليها الآن، وأمر طبيعي أن تكون كذلك، فليس من المعقول أن تركد كفاءة الإنسان على صور يهتدي إليها ليستخدمها قبل عشرين سنة وتبقى مثلما هي، وعندما يكون حاله بهذا الوصف، نقول عنه أنه متخلف.
إذن، علينا أن نشيد بكل دعاة القومية العربية، وأن نترحم على أرواحهم، لأنهم كانوا أعلاماً أشّروا لنا الطريق، ومن حاول أن يعبّر عن القومية في الحكم ولم يستطع كما ينبغي، حسبه أنه حاول بنيّة صادقة، وكلهم يشتركون في أي نجاح يحققه أي عربي أصيل في الوطن العربي تعبيراً عن الأمة العربية.
حياكم الله في بلدكم وبين إخوانكم، وأمر طبيعي أن أطمئنكم وأقول لكم أننا لن نحيد عن هذا الخط لأنه ليس سياسة بما في ذلك التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة التي هي ليست سياسة، وأساسها ليس سياسياً، ولو كان أساسها سياسياً فأنها لا تكون، وأي نظرة إذا كانت تفيد العراق ولو بشيء لمرحلة سنة، أو سنتين، ووضعت موضع السياسة، سيظهر عراقي بعد ثلاث سنوات ليقول ما الذي نستفيده من هذه الاتفاقية، فالمصري أو السوري يستفيد أكثر؟ لكن عندما نضعها وسط المبادئ يصبح واضحاً من خط البداية إلى نهاية النتيجة التي تقتطف إن شاء الله، لتكون وتصب في معاني التعبير الأصيل عن القومية العربية، يصير الخط والطريق واضحين، ويكون المطلوب من أي جهة أخرى هو أن تزيد لتفتح الأبواب بين العرب، والعرب أمة واحدة، يفترض أن يتنقل فيها العمال والعاملون العرب، وأمر طبيعي عندما نقول أننا أمة واحدة وأن على العاملين العرب أن ينتقلوا إلى مكانات العمل بصيغة المنافسة المشروعة فيما بينهم، فأن رؤوس الأموال العربية ينبغي أن تنتقل لتبني هنا وهناك وتنمو وفق القوانين لكل بلد إذا كانت القوانين تختلف عنها في البلد الآخر، أي عليهم أن يحترموا قوانين البلد الآخر، وتنتقل رؤوس الأموال بمجرد احترام القوانين، ولا بد أن تنتقل التجارة.. فنحن نحاول أن نركض خلف الأجنبي لنعمل معه تجارة حرة، وهنا العرب، وهنا الأمة العربية فاعملوا معهم تجارة حرة، فمن من الأجانب أقرب إلى العرب جغرافية من وجود عربي على سياج الحدود؟ إذن بدلاً من أن نركض خلف عناوين فارغة لا يمكن أن اسمن أو تغني من جوع، لا بد أن يكون الإصرار على البحث في محيط العرب عن صورة التعبير عن معنى الأمة، الأمة ليس فلسفياً، لأن ما لدينا من الفلسفة كاف ليجعلنا واضحين، وأن نفرّق بين الأمة وأعدائها.. ونعرف أين الأمة وأين الطريق المنحرف عن مجرى فعلها الأصيل بقدرة الحشد الجمعي لأبناء الأمة، وعلينا أن نبحث في بطن الأمة عن قدراتنا فيها، أو قدراتها في نفسها، والتي لم نهتد إليها، فالأمة عظيمة وكبيرة، أنجبت بلداً مثل العراق الذي وقف دفاعاً عن المعاني التي وقف دفاعاً عنها في مواجهة 28 جيشاً و42 دولة رسمياً في خط المجابهة، وصمد وانتصر.
إذن، الانتصار ليس الحصاد المنتظر، وإنما هو فعل اليوم على قاعدة ما يستقر في ضمير وعقل من يقوم بالفعل، لأن الحياة تسير، بل وتزدهر.. وأطمئنكم بأن الحياة في بلدكم تزدهر ولا تنازل عن المبادئ والمعاني التي أرادوا أن يسحقوا العراق لكي يتنازل عنها، بل على العكس تروننا نتطرف في طل القضايا التي نعرف أنها السبب الأساس في العدوان علينا، ومن بين ذلك القضية الفلسطينية والنضال من أجل تحرير فلسطين، وهذا تطرف في عرف الآخرين، ولكن في عرف إخوانكم في العراق كلما أظلم الطريق أمام من ينبغي أن يكون أمامهم واضحاً، كان عليهم أن يكثروا إشعال الشموع حتى لو جاء ذلك على حساب قدرة تقنية ما، لا نتعامل معها لأننا نفهم القدرة التقنية ونخلقها، وننميها، ولكننا لا نضع قراراتنا على أساسها كقاعدة.. وإنما قاعدة قراراتنا هي المبادئ، ونحن نفهم أننا عندما نقول أن على العرب أن يحرروا فلسطين وأن جيش العراق مستعد لأن يقوم بهذا كأول جيش، فأننا نعرف أن الدول الاستعمارية الكبرى ستشدد أكثر وأكثر ضد العراق، ولكن ما قيمة أن نسكت في الوقت الذي ينبغي أن نفصح؟ وما قيمة السيف إذا صدأ في غمده، ولم يسحب في اللحظة المناسبة دفاعاً عن شرف الأمة ومعانيها؟
أننا نفهم الأمر هكذا، وربما نلام أحياناً حتى من سياسيين بعضهم قريبون منا، ويقولون لنا أنكم محاصرون، وعليكم التصرف بهدوء، ولكننا نقول لا، في الوقت الذي تختفي فيه الأصوات، لا بد أن يظهر الصوت الأصيل على علم العرب حتى يهز الناس ويذكرهم بالثوابت الأساسية لئلا يتكاسلوا، لأن أمتكم كبيرة وأصيلة وعظيمة، وأنها تريد من يهتدي إلى قدراتها فقط، وقدراتها موجودة، فحياكم الله وأهلاً وسهلاً بكم.
بغداد 13/5/2001
موقع المحرر الالكتروني العدد 279 – السنة 18 – 2009