د / يوسف مكي
حدثان رئيسيان، أخذا مكانهما في الأيام الأخيرة، أعادا الحضور مجدداً للقضية الفلسطينية، بعد أن باتت خارج الاهتمامات العربية والدولية، نتيجة للحوادث العاصفة التي مرت بها المنطقة العربية، خلال السنوات الست الماضية. الأول هو إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال «الإسرائيلي»، الذي لايزال مستمراً منذ 17 أبريل/ نيسان الماضي، حتى يومنا هذا، والذي وصف بإضراب الحرية والكرامة. والتطور الأخير في هذا السياق، هو التحاق سجناء حركة حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالمضربين، بعد أن كان مقتصراً في العشرين يوماً الأولى على سجناء حركة فتح.
الحدث الآخر، هو صدور وثيقة سياسية من قبل حركة حماس، تضمنت صوغ استراتيجية للحركة، أفصحت للمرة الأولى عن القبول بقيام دولة فلسطينية مستقلة، على الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني، منذ حرب يونيو/ حزيران1967. وعلى رغم أن الحركة اعتبرت قيام دولة فلسطينية مستقلة، بالضفة الغربية وقطاع غزة، وستكون القدس عاصمتها الأبدية، خطوة أولى على طريق تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، هذا الطرح لم يكن بعيداً عن طرح حركة فتح، في منتصف السبعينات، حيث اعتبر التحول الجديد تكتيكياً، ومرحلياً، لكنه في النهاية، أوصل قيادة حركة فتح، إلى توقيع اتفاقية أوسلو.
جاء التحول في الموقف السياسي لحركة حماس، مترافقاً مع انتخابات في المجلس السياسي للحركة، نتج عنه انتخاب رئيس حكومة غزة، رئيساً للمكتب السياسي للحركة، بعد أن شغل خالد مشعل المقيم في دولة قطر هذا المنصب، منذ اغتيال الشهيد أحمد ياسين.
الخطوتان، يفترض أن تمنحا دفعاً قوياً لموضوع المصالحة الفلسطينية، التي ظلت متعثرة أكثر من عقد من الزمن، على رغم كل الوساطات والمحاولات الفلسطينية والعربية المتكررة، لطي صفحة الخلافات بين التنظيمين الفلسطينيين الرئيسيين.
فانخراط سجناء حركة حماس، مع سجناء فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في إضراب عن الطعام، من شأنه أن يعزز اللحمة الكفاحية، بين الفلسطينيين، وأن يضيق فجوة الخلاف بينها، بما يسهم في تضيق شقة الخلاف بين السلطتين، في رام الله وغزة، بما يشكل خطوة اعتبارية مهمة، على طريق تحقيق المصالحة الفلسطينية.
كما أن صدور الوثيقة السياسية، من قبل حركة حماس، التي حملت تغيراً استراتيجياً في سياستها، يلغي بعض المبررات التي وقفت حائلاً دون تحقيق المصالحة بين السلطتين الفلسطينيتين.
لقد أكدت حماس، مراراً وتكراراً من قبل، أن السبب الرئيسي لخلافها مع حركة فتح، هو رفضها المطلق الحلول السياسية، والتنازل عن الأراضي الفلسطينية، التي تم احتلالها، من قبل الصهاينة، في حرب النكبة، عام 1948. واتهمت الحركة نظيرتها فتح، بالتفريط، والتنازل عن القضية الفلسطينية، وأن سياساتها تلك أدت إلى توقيع اتفاقية أوسلو، واستعار العدو الصهيوني في بناء المستوطنات الصهيونية، في أراضي الضفة الغربية، وتهويد مدينة القدس، مؤكدة في جل أدبياتها، على أن مبرر وجودها هو الالتزام بالتحرير الكامل للأرض الفلسطينية.
ومن وجهة نظرنا، فإن ما نصت عليه وثيقة حركة حماس، لا يختلف كثيراً عن مقررات الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني، التي أقرت النضال بكل الوسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح، والعمل السياسي، من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة في أراضي الضفة والقطاع.
آنذاك، أكدت أدبيات حركة التحرر الوطني الفلسطيني، فتح، أن برنامجها السياسي، لا يعني تنازلاً عن فلسطين التاريخية، وأن تحرير الضفة والقطاع، سيسهل عملية تحرير كل فلسطين، حيث ستكون الأراضي المحررة، قاعدة انطلاق لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. بمعنى آخر، فإن ما نصت عليه الوثائق الفلسطينية، التي تبنتها عدة فصائل مقاومة، هو تبني المرحلية، وليس التنازل عن الأرض.
لكن الدخول في مجرى الحراك السياسي، وصدور مبادرات وتفاهمات عدة، دولية وإقليمية وعربية، لتسوية الصراع العربي- الصهيوني، ومن ضمنه صراع الفلسطينيين مع الكيان الغاصب، خلق حقائق سياسية جديدة، وتحولات جذرية في موقف منظمة التحرير الفلسطينية، من صراعها مع الصهاينة.
نذكر في هذا السياق، إدانة الرئيس السابق ياسر عرفات للإرهاب، والتخلي عن الكفاح المسلح، في خطاب رئيسي خصص له اجتماع في مقر الأمم المتحدة في جنيف، بناء على ضغوط أميركية، وتبليغ من إدارة الرئيس جورج بوش الأب، بأن ذلك شرط رئيسي لفتح أبواب الحوار من قبل الإدارة الأميركية مع منظمة التحرير. وكان الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، في تلك الفترة، في دورة للمجلس الوطني الفلسطيني عقدت بالجزائر، قد حمل توجهاً صريحاً بالاعتراف بوجود دولتين على أرض فلسطين التاريخية. ولم يكن ذلك سوى استجابة لمسيرة طويلة، ولقرارات قمم عربية، أكدت على قيام دولة فلسطينية مستقلة بالضفة والقطاع.
بالتأكيد، لن يكون هناك من معنى لوثيقة حماس، ما لم تكن تهدف إلى المسار في الحراك السياسي. وحين تدخل الحركة في أروقة المفاوضات وردهاتها، فإنها حتماً ستصل إلى ما وصلت إليه حركة فتح. وبغض النظر عن الموقف من هذا التغير السياسي في حركة حماس، فإن منطق الأشياء يشير إلى اقتراب الحركتين المتنافستين، فتح وحماس، في مواقفهما السياسية، بما يجعل الخلاف في حال استمراره، ورفض حماس للمصالحة، يصب في خانة الصراع على السلطة، وليس في خانة الاختلاف في المبادئ والبرامج السياسية.
نتمنى من القلب أن يسهم الحدثان: حدث إضراب السجناء الفلسطينيين في سجون العدو، والتحولات السياسية في حركة حماس، في تضييق الفجوة بين السلطتين، وتفعيل المصالحة الفلسطينية، ووحدة الشطرين، وتصليب الموقف الفلسطيني على قاعدة رفض تقديم المزيد من التنازلات للاحتلال، ومناهضة بناء المستوطنات الصهيونية، ووضع حد لتهويد المدينة المقدسة، والتمسك بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، كاملة السيادة.