لا يخالجني أدنى شك في أن السبب الرئيس في الخلاف الفلسطيني الفلسطيني يعود إلى التنافس على السلطة، وحبذا لو كانت سلطة ذات معنى حقيقي وجديرة بالتنافس والخصام الطويل. ولا اشك كذلك في أن الجميع يتذكرون جيداً أنه قبل أن تلوح فكرة السلطة الخادعة بعد اتفاقية “أوسلو”، كان الفلسطينيون في الداخل والخارج يعيشون حالة من الوئام والانسجام رغم الاختلاف في توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية. وكانوا، من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، يداً واحدة في تحدي العدو وفي الانتصار للقضية التي كانت شغلهم الشاغل، وكان الشهيد من أي فصيل مقاوم يعد شهيدهم جميعاً، فقد كانت أحزانهم واحدة وأحلامهم واحدة ومواقفهم لا تختلف. كما لم تتمكن قوة من القوى التي حاولت الاستئثار بالصوت الفلسطيني أن تنتزع موقفاً واحداً للانشقاق أو الانحراف عن الخط المستقيم.
لكن وبعد أن لاحت بوادر السلطة الخادعة بدأت الانقسامات واشتد الصراع أكثر فأكثر بعد رحيل الزعيم الجامع ياسر عرفات الذي تحمل الكثير، وكان لمكانته النضالية ورحابة صدره ما يمتص الخلافات ويضع الجميع أمام مسؤولياتهم الأكبر، ومن يقرأ الواقع الفلسطيني بعد رحيل عرفات ويتابع حلقات التدهور واشتداد الصراع على السلطة يرى أن الأمر وصل إلى حد الاقتتال، وبدأ أخوة الخندق الواحد والقضية الواحدة يتقاتلون بلا رحمة ولا هوادة، لا لسبب موضوعي سوى الرغبة في الاستئثار بالسلطة والحنين إلى الإمساك بسرابها الخادع الذي أكدت الأيام أنه لا يفتح باباً ولا حتى نافذة إلى الحل المنشود.
ولا أظن أن هذه الصورة غائبة عن عقول الفلسطينيين كلهم دون استثناء أو أنهم لا يدركون مخاطر فخ السلطة وشركها المنصوب لاصطيادهم، والأخطر استعجالهم الإمساك بها قبل أن يتم التحرير، وهم يعلمون جميعاً أن المناضلين في أنحاء العالم في الماضي والحاضر لا يتحدثون عن السلطة ولا يتزاحمون عند بريقها قبل أن يتحرر الوطن وينجلي الاحتلال وتستكمل الشعوب أسباب الخلاص. وما يحدث الآن في الوسط الفلسطيني المذبوح والرازح تحت الاحتلال الاستيطاني والاستيلاء المتواصل على الأرض لا يسيء إلى أشخاصهم كمناضلين ومقاومين فحسب، وإنما يسيء إلى قضيتهم الكبرى، ويعمل على تشويه صورة نضالهم المشروع وما قدموه من تضحيات فريدة ونادرة المثال.
إن ما يحدث اليوم على الجزء المتبقي من فلسطين على يد أبنائها لا يساعد سوى الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الذي يواصل تمدد مستعمراته، ومن واجب الفصائل الوطنية الفلسطينية ومن مصلحتها جميعاً أن تطوي ملفات الخلافات، وأن تدرك أبعاد المحنة التي تعاني منها الغالبية الساحقة من المواطنين الفلسطينيين، ليس في غزة والضفة وحدهما، وإنما داخل الأرض المحتلة منذ ،1948 وفي مناطق اللجوء حيث يعاني اللاجئون من ضغوط لا حدود لها في أكثر من بلد عربي وغير عربي نتيجة الخلاف المستحكم بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وما يترتب عليه من تمزق الصفوف وتبديد الطاقات.