عبدالنبي العكري
«لو كان الفقر رجلاً لقتلته»… الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب (ع). الفقر ليس قدراً في البحرين ولا غيرها. والفقر ليس قدراً على الأفراد والشعوب أو الأمم. قبل أيام احتفلت الأمم المتحدة باليوم العالمي لمكافحة الفقر (16/10/2013)، وصدرت عن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كلمة بهذه المناسبة، حذّر فيها من الهوة المتزايدة بين الفقراء والأغنياء على مستوى الأفراد والأمم. كما سلطت الأضواء على جهود الأمم المتحدة ووكالاتها مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، والأسكوا وغيرها في مجالات التنمية وبالتالي مكافحة الفقر.
وقد وضعت الأمم المتحدة لأول مرةٍ في تاريخها خطة طموحة على مدى عشر سنوات (2005 – 2015)، بأهداف الألفية الثمانية، أحدها تخفيض نسبة الفقراء حول العالم بمقدار 50%، وإخراج مئات الملايين من وضعية الفقر المدقع إلى الفقر النسبي، أو خارج دائرة الفقر. فما هي خصوصية الفقر في البحرين؟
البحرين ليست فقيرة في مواردها الطبيعية ولا البشرية، وكان يمكن أن تكون خاليةً من الفقر نهائياً، لكن الواقع غير ذلك، فمع مرحلة الانفتاح النسبي للعهد الجديد تجرأ مركز البحرين للدراسات والبحوث، والذي عملت فيه، بوضع دراسة عن الفقر في العام 2004، جذوره وأسبابه ومظاهره ومعالجته، وحدّد خط الفقر بدخل الأسرة بـ 370 ديناراً لأسرة من خمسة أشخاص تمتلك بيت سكناها. وكان ذلك أحد أسباب حلّ المركز، الذي حقّق مصداقية في البحرين وخارجها بحيث اعتُمد من قبل معهد «جالوب» للاستطلاعات ليقوم بمهام لصالحه في منطقة الخليج، واعتبرت الحكومة التقرير المذكور فضيحةً يتوجب عقابه عليها وليس شكره، وتبني التقرير جدياً.
وقضية الفقر في البحرين تاريخية، فقد تأسس النظام الاقتصادي على أساس تحويل المواطنين إلى أجراء. كانت الثروة أيام زمان هي بساتين النخيل التي صودر أغلبها، وتحوّل مالكوها إلى متضمّنين أو أجراء؛ ومصائد الأسماك (الحظور) التي استولي على أفضلها أيضاً. ثم ظهرت الثروة النفطية، والبحرين من أوائل دول المنطقة التي استخرج منها النفط وأنشئت بها أول مصفاة، وكانت تكرّر النفط السعودي وتصدّر منتجاته. ولأسباب انفتاح البحرينيين التاريخي، وسعيهم للعلم في أصقاع العالم، فقد توفّرت لها خبرات متنوعة، خصوصاً في ظلّ أقدم نظام تعليمي حديث في المنطقة أيضاً.
إذاً لقد تهيأت للبحرين ظروف مناسبة لنهضة اقتصادية وحضارية، حيث كانت تسمى درة الخليج، ولكن تضافرت أطراف عدة لإحباط هذا المشروع الوطني، وتعرضت عوائد النمط لما تعرضت له الموارد السابقة الأخرى، جراء احتكار السلطة والثروة، وحشو الإدارات الحكومية والشركات العامة أو المختلطة بالمتنفذين، حيث شاع الفساد وعدم الكفاءة، وهؤلاء استخدموا مواقعهم للوصول إلى مزيد من الأراضي والسيطرة على قطاع الأعمال.
كانت رؤية المرحوم يوسف الشيراوي، وزير التنمية في السبعينيات والثمانينيات، هو أن تكون البحرين مركزاً خليجياً للصناعات ذات القيمة المضافة، مستفيدةً من المواد الخام المحلية، وبالفعل تم في عهده إقامة مصانع عملاقة كإصلاح السفن والألومنيوم والبتروكيماويات. كما كانت رؤيته تحويل البحرين إلى مركز إقليمي ومصرفي وخدماتي، في ظل انحسار دور بيروت بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وتبعات المواجهات العربية الإسرائيلية منذ العام 1973. وقد نجح الشيراوي في ذلك، وبالفعل أمنت هذه الاستراتيجية ازدهاراً نسبياً للبحرين، بما في ذلك توفير وظائف للآلاف في القطاع الخاص والمختلط بعيداً نسبياً عن الجهاز الحكومي المحتكر.
كما أن الدولة بتأثير التكنوقراط، تنبّت سياسات اجتماعية مثل الإسكان المدعوم حكومياً، وتم بناء ثلاث مدن كبرى هي مدينة عيسى وحمد وعراد الجديدة، وغيرها من مشاريع الإسكان. كما تبنّت سياسة المساعدات الاجتماعية، ونشطت الجمعيات والصناديق الخيرية في دعم الفقراء والمحتاجين، لكن المرحوم الشيراوي والتكنوقراط المحيطون به، استنفدوا دورهم، مع تحوّل تدريجي في التسعينيات، ليصبح تحوّلاً جارفاً فيما بعد. وقوام ذلك تسريع المتنفذين خطاهم في امتلاك أكبر قدر من الموارد، وتراجع دور الدولة كحارس على المصالح العامة، والخدمات الأساسية للمواطنين والمقيمين والتدخل لصالح الفئات الضعيفة وتأمين العدالة الاجتماعية.
وفي ظلّ ذلك تم تبني سياسية الباب المفتوح على مصراعيه للعمالة الأجنبية، بل تم تبنى سياسة أخطر وهي التجنيس الواسع لتغيير التركيبة الديمغرافية لشعب البحرين في تهميش واضح للأغلبية. هذه السياسات وغيرها أدّت إلى إفقار متزايد لفئات واسعة من المواطنين بسبب البطالة، والأجور المنخفضة، وتكبد ارتفاع الإيجارات والتضخم، وتراجع التعليم المهني ومهارات الخريجين، وعدم ملائمة مخرجات التعليم لاحتياجات سوق العمل. والنتيجة هي أن اقتصاد البحرين يخلق فرصاً للعمل ولكن ليست من نصيب المواطنين الذين تحوّلوا إلى أقلية في وطنهم، مجرد قوة عمل أو مستهلكين مثلهم مثل الوافدين، ولكن دون المجنسين ذوي الامتيازات.
هكذا نرى تجليات الفقر بوضوح في آلاف المساكن الآيلة للسقوط، وتكدّس العائلات في مساكن ضيقة، وبناء طوابق إضافية لاستيعاب الأجيال الجديدة، في ظلّ تراجع الخدمات الإسكانية، حيث تجاوز طابور انتظار الإسكان الحكومي 55 ألف عائلة، في الوقت الذي تزدهر فيه المشاريع الإسكانية الترفية في مدن لا علاقه لها بالمواطنين.
وفي الوقت الذي تتدفق فيه العمالة الأجنبية، وتحصل على فرص العمل، تزداد البطالة بين المواطنين وخصوصاً الشباب، بحيث تقدّر بـ 15% لأسباب عدة، منها التمييز الطائفي والسياسي وتدني الأجور، وعدم موائمة الأعمال المعروضة على الخريجين. والدولة تصرّ على أن البحرين مزدهرة، وأن البطالة لا تتجاوز 4%، وأن معدل أجور البحرينيين ترتفع في القطاعين العام والخاص، مع أن المعدل الوسطي خادعٌ دائماً؛ وأن البحرين تحقّق إنجازات كبيرة تحسدها عليها بقية الدول في الإسكان والتعليم والصحة والبيئة، وبالطبع اعتماداً على مكاتب العلاقات العامة، والتصريحات الرسمية وترداد ببغاوات الإعلام.
الفقر في البحرين ليس قدراً، بل هو إفراز للتمييز والامتيازات، ومن دون تغيير جذري في الاستراتيجية سيتفاقم الفقر، وتزداد أعداد الفقراء من مختلف أبناء الشعب.