د. حسن حنفي
كثرت الفتاوى الشرعية من مشايخ الفضاء وفقهاء الإعلام بعد ثورة يناير عن حرمة قتل المتظاهرين، وإسالة دماء الأبرياء، وقتل العزّل ودهسهم بالعربات، وضرورة تقديم المسؤولين عن ذلك للقضاء.
كما كثرت الفتاوى حول حرمة الاستبداد والقهر والاعتقال والتعذيب، فطالما وقف الأنبياء مثل موسى أمام فرعون أو من يماثله، وحكم الإسلام هو الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، (وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)، وهو منطق التحريم الذي خرج من تحريم السفور والاختلاط، من التحريم الجنسي إلى التحريم السياسي. وتقوم فتاوى أخرى على منطق التحليل والوجوب، ولكن أيضا بعد وقوع الواقعة مثل وجوب الثورة ضد الحاكم الظالم، فالعدل أساس الملك، وعليه قامت السماوات والأرض. وكذلك وجوب الحوار الوطني بين فرق الأمة كما فعل الرسول، وأصبح كل المشايخ والمفتين من أنصار الحوار بدل التكفير.
فقد آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، والأوس والخزرج، ومنع الاقتتال بين القبائل، بسبب من يضع الحجر الأسود بوضعه هو في عمامته بعد فرشها وترك كل قبيلة تحمل طرفا. فأين كان هؤلاء المفتون والنظام السابق في ذروة عنفوانه وظلمه وقهره وفساده وسلبه ثروات البلاد وتهريبها إلى الخارج؟ كان المُفتون يتناولون أحكام الشرع في تعليم النساء أو في جنس الملائكة أو في دور الجن والشياطين وإبليس في إثارة أهواء البشر.
أين كان الفكر الديني الثوري قبل وقوع ثورة يناير؟ والآن امتلأت به البرامج الدينية مثل «الشريعة والحياة»، وبرامج الفضاء، وصفحات الفكر الديني.. انقلب مائة وثمانين درجة، مثل الإعلام الرسمي من تبرير النظام السابق أو الحديث فيما لا ينفع الأمة بل يضرها إلى إعلام ثوري بنفس المشايخ ونفس رجال الدين، أفندية أو أصحاب لحى. كان إعلام الثورة نادرا قبل الثورة، وأصبح هو الغالب بعد الثورة، وكانت المعارضة السياسية في القوى السياسية العلمانية أكثر منها في رجال الفكر الديني، وكان الإخوان حاضرين في الساحة السياسية كقوة سياسية أكثر منهم كتيار ديني. صحيح أن الجماعات الإسلامية كانوا في السجون أو خريجي سجون منذ أكثر من نصف قرن، وأنهم مازالوا يرزحون تحت ثقل الماضي، ولا يريدون العودة إليه، وخسارة بعض الحريات التي اكتسبوها بعد ثورة يناير، خاصة أن الناس مازالت تذكرهم بخير وتتذكر أفعالهم ومواقفهم من الاستعمار والصهيونية، ومازالوا حاملين لواء المعارضة، خاصة بعد أخذهم صفة الشرعية ولم يعودوا يسمون «المحظورة».. تعمل في العلن، ويخطب الجميع ودها في الداخل والخارج، أما الإعلام الديني الرسمي فهو مثل الإعلام العلماني، تحول من النقيض إلى النقيض، من مدح النظام الاستبدادي السابق إلى تملق النظام الثوري الحالي.
والتحدي الآن أمام الفكر الديني هو أن يكون ثوريا قبل الواقعة وليس بعدها، يبادر بنقد الواقع ولا يبرر تغييره إذا أتى من خارجه، من شباب الثورة أو من التيارات العلمانية. وقد تحدث الواقعة طبقا لما ينادون به، التحدي الآن هو أن يسبق الفكر الديني حدوث الوقائع ويعمل على وقوعها في سبع قضايا رئيسية:
أولا: توجه المفتين إلى المطالبة بمزيد من الحرية للوطن، وإلغاء تقديم المدنيين للقضاء العسكري، وتنصيب رؤساء الصحف بالانتخاب وليس بالتعيين، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وهذا يتطلب البحث عن أوضاع الحريات العامة في البلاد من أجل سبقها والدفاع عنها. والمناداة بتحقيق ما نقص منها لا تبريرا لما تم فيها باسم الإسلام.
ثانيا: أين الفتاوى السابقة على حركات التحرر الوطني في فلسطين والعراق وأفغانستان قبل قيامها بالفعل؟ وما مسؤوليات الأمة من أجل تحرير الأرض بفكر شرعي علمي، وليس بمجرد خطابة تعود عليها الناس حتى أصبحت بضاعة للخطباء؟ وأيهما أولى: التبرع لإنشاء المساجد أم لحركات المقاومة؟ وما جزاء السلطات المتعاونة مع الاحتلال والعاقدة المعاهدات مع الأعداء والأراضي مازالت محتلة؟ لماذا ترك فقه الأولويات وعقد البرامج الدينية حول الحلال والحرام في كل صغيرة تركها الشرع عفوا، وترك الفتاوى ضد احتلال الأرض والاستسلام للعدو؟ أين الفتاوى في تحويل الحج هذا العام إلى القدس، ثلاثة ملايين حاج في المدينة المقدسة التي كانت قبلة المسلمين قبل المسجد الحرام. وقد تستطيع قوة الشعوب ما لا تستطيعه قوة السلاح؟
ثالثا: المناداة بتحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية والكشف عن حياة ملايين المصريين في النجوع والعشوائيات والمقابر ومنازل الصفيح، في مقابل قصور التجمع الخامس والمدن الجديدة. وكيف تكون الزكاة في هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وفي المال حق غير الزكاة؟ ما هو الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور المسموح به شرعا، ويُطرح الآن أن يكون واحداً إلى خمسة وثلاثين ضعفا، أي ألف جنيه الحد الأدنى المسموح به بحكم القضاء إلى خمس وثلاثين ألفا؟ ألم يكن خليفة المسلمين آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من يلبس وآخر من يسكن؟ ألم يحرم عمر على نفسه الزيت عام المجاعة، حتى تقيحت معدته؟ وأين مثال أبي ذر الغفاري الذي ثار على التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء أيام عثمان، حتى نفاه إلى الربضة بالشام. عاش وحيدا ومات وحيدا.
رابعا: أين الفتاوى في وحدة الأمة وضرورة الدفاع عنها ضد محاولات تجزئتها العرقية والطائفية والتي تهدد وحدة الأوطان، كما حدث في السودان والصومال والعراق وهو ما لا يزال يهدد الخليج والمغرب العربي بل ومصر بين طوائف وقبائل، وهي التي عرفت وحدتها من بداية تاريخها حتى ثورتها أول هذا العام؟ لماذا لا يتقدم المشايخ بفتاواهم حول حدود الدولة الوطنية وتأشيرات الدخول والجنسيات والجمارك والحروب الأهلية بين الجارتين مثل المغرب والجزائر؟ لماذا لا يبدأون بالمبادرة والمسيرات الوطنية حول الحدود من أجل عبورها باسم وحدة الأمة؟
خامسا: أين الفتاوى السابقة حول التنمية المستقلة في أمة تجمعت لديها الثروات والأراضي والمياه والسواعد والعقول كي تكون مكتفية بذاتها في الغذاء والسلاح بدلا من الاعتماد على المعونات الخارجية وشروط البنوك الدولية؟ فتصدر أكثر مما تستورد كما تفعل الصين وماليزيا. قد تبدو الصحراء قاحلة من أعلى ولكنها غنية بالنفط والمياه الجوفية والمعادن من أسفل. لماذا لا تصدر الفتاوى بعودة كل العلماء المهاجرين إلى الداخل والبناء بالداخل، بدلا من البناء في الخارج، وإثارة حمية الانتماء إلى الأوطان والعمل على نهضتها؟ فالحياة ليست مجرد كسب مادي، العمل لدى من يدفع أكثر.
سادسا: لماذا لا تصدر الفتاوى لحماية هوية الأمة بدلا من استقطابها غربا أم شرقا دون الانغلاق على الذات؟ والهوية ليست شعائرية مظهرية شكلية، بل هوية واعية تمنع من الاغتراب والتميع وتقليد الآخر في ثقافته وأسلوب حياته بدلا من التمسك بخصوصية الأنا المبدعة، التي استطاعت تكوين حضارة من المغرب إلى الصين، وأصبحت معلمة البشر في العلوم والصناعات وأحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة التي بدأت تستقطب الأمة باعتبارها النموذج الأوحد، ونسيان روافده في الحضارة الإسلامية وحضارة الشرق القديم.
لماذا لا تصدر الفتاوى ضد هذا التنافر في أساليب الحياة والإسكان والتعليم، حتى أصبحت مدننا مشوهة، لا هي غربية ولا شرقية إلا في أحيائها القديمة؟ ونافس التعليم الخاص التعليم العام. وعادت الأنجلوفونية والفرانكفونية من جديد من أجل الحداثة والدخول في نظام العالم الجديد.
سابعا: كيفية حشد الجماهير وتحويل الكم إلى كيف، فالأمة فوق المليار من المسلمين، سدس سكان العالم، ومازالت في الركاب عكس الصين والهند. إن الملايين في إندونيسيا وباكستان والهند وأواسط آسيا وإيران وتركيا ومصر والعرب والأفارقة لقادرون على جعل الأمة في مصاف الأمم المتقدمة. لماذا لا يتحول غثاء السيل إلى جماعات مبدعة تستطيع قيادة العالم بدلا من أن تكون مقودة؟
هذه هي ميادين الفتاوى قبل أن تقع، يُبادر بها بدلا من أن تنتظر الحلول من غيرها، كما يحدث في برامج «العلم والإيمان»، العلم من الغرب والإيمان لدينا، فنكسبهم مرتين بالعلم والإيمان. والغرب يخسر الإيمان ثم يخسر العلم لأنه دون إيمان. لماذا لا تدافع الفتاوى عن التعددية الفكرية، والرأي والرأي الآخر دون تكفير أو استبعاد أو فصل من الجماعات الدينية المنظمة؟
لماذا لا تدافع عن الفكر النقدي في مقابل الفكر التبريري وتتبناه وتحميه، دون أن تفصل أو تستبعد من يقومون به؟ فالنقد الذاتي سابق على نقد الغير، والفكر الإسلامي سباق للجميع. هو الذي يتصدى للمصالح العامة ولمسار الأمة في التاريخ، حينئذ يجد نفسه متحدا مع الفكر العلماني من أسفل وليس من أعلى، الأطر والتصورات والمفاهيم النظرية، فأفضل عمل مشترك هو ما يتم في ساحة القتال، والعمل يوحد بقدر ما يفرق النظر (وَقُلِ اعْمَلُوا).