عبد الاله بلقزيز
لا يفسر استقرار النظام الديمقراطي في المجتمعات الغربية أنها توفر بيئة نظيفة للتنافس والتمثيل السياسيين، تُحْتَرم فيهما اختيارات المواطنين وأصواتهم، فلا تتعرّض للتزييف أو التزوير، وتُحْتَرم فيها قاعدة التداول على السلطة والمسؤولية، فلا تُنْتَهك بالتعديلات المصروفة للتمديد والبقاء واحتكار السلطة .
هذه مجرد تجليات للأسباب الأعمق التي تصنع لذلك النظام استقرارهَ وقوته، والتي بفعل حاكميتها له لا يُخْشَى عليه من احتمالات التصدّع أو الانفراط، على الرغم مما يخترق المجتمعات الديمقراطية من صراعات اجتماعية وسياسية، ومن استقطابات حادة، لا تقل عن تلك التي تعرفها المجتمعات المفتقرة إلى الحياة السياسية الديمقراطية، مثل مجتمعاتنا العربية والإسلامية . أما تلك الأسباب التي نعني، فيلخّصها ما يؤسس الاجتماع المدني والسياسي، في بلدان الديمقراطية، من اتفاق على مشتركات مجتمعية .
ولسنا نقصد بالاتفاق، هنا، ما يقع من توافقات سياسية بين الجماعات الحزبية على برامج ورؤى مشتركة، في السياسة، والتنمية، وما شاكل، فهذه من تفاصيل الحياة السياسية وفروعها، لا من أصولها وأساساتها، إنما نعني به ما عناه، في تاريخ الدولة الحديثة منذ القرن الثامن عشر، من تَعَاقُدٍ على منظومة من القيم والقواعد التي تنظم الاجتماع السياسي . وهي ليست الدستور المكتوب المتوافق عليه، ولكن التي يُكْتَب الدستور في ضوء مبادئها بما هي (مبادئ) مُؤَسِّسة للدولة والمجتمع . والعقد الاجتماعي، وهو قام دائماً على الحرية والمواطنة واستقلال المجال السياسي، هو ما يجعل السياسة ممكنة، بما هي تعبير عن المصالح العمومية، وبما هي منافَسة سلمية وحضارية على إدارة الشؤون العامة . لا غرابة، إذاً، في أن يتمتع النظام الديمقراطي بالاستقرار في المجتمعات التي اهتدت إلى الاتفاق والتعاقد، فالتعاقد هذا يولّد لديها مشتركات اجتماعية وسياسية (لِنَقُلْ مجتمعية) غير قابلة للانتهاك من قبل من يظفر بأغلبية تمثيلية، ولذلك لا تخشى القلةُ (“الأقلية”) الأغلبية، ولا المعارضة النخبة الحاكمة، لأن الدولة – التي تُدار سلطتها – لا يتهدّد هويتها أحد .
لا يمكن تصوّر إمكان قيام نظام ديمقراطي، في مجتمع، من دون هذا الاتفاق على هذا المشروع المجتمعي المشترك . وحين يعجز المجتمع عن بلوغ مثل هذه المواطَأَة على المشروع الجامع، تتحول فيه صناديق الاقتراع إلى مجرد وسائل للتغلب والاستيلاء تعوّض وسائل القوة الحربية! لأن من يصل إلى السلطة، بأصوات أكثرية الناس، يملك مشروع دولة خاصاً به، وليس موضع مواطأة أو مواضعة من الجميع، وهو ما يهدد الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي، ويعيد السياسة إلى نقطة الصفر كمنافسة عمياء تتوسل الأدوات كافة، ولا جديدَ نضيفه حين نقول إن هذا الاتفاق، على المشروع المجتمعي الواحد، وعلى أساسيات الدولة والنظام السياسي، هو ما لم نصل إليه، حتى الآن، في مجتمعاتنا العربية، وهو ما سيظل يفرض أحكامه السلبية على التطور السياسي فيها، وعلى إمكان ولادة النظام الديمقراطي . وسيكذب الكاذبون على الناس، وعلى أنفسهم، حينما يزعمون أن فرص قيام هذا النظام تعاظمت، أو حتى توافرت، لمجرد أن تغييراً للنخبة الحاكمة حصل، ولمجرد أن انتخابات “حرة” جرت وأتت بنخبة جديدة إلى السلطة، لأن زيداً لن يختلف عن عمرو إن استمرّ غياب، أو انعدام، ذلك الجامع المشترك الذي به تكون السياسة شرعيّة .
إن حالة التداخل التلفيقي بين السياسة والدين والثقافة، في الحياة العامة، لا تساعد على إنتاج استقطاب سياسي بين رؤيتين وبرنامجين (أو حتى أكثر من اثنتين) للمشروع المجتمعي الجامع والمتعاقد عليه – لأنه غائب – وإنما هي تساعد فحسب، على إنتاج مشروعين للدولة والمجتمع على طرفي نقيض، كل واحد منهما لا يجد فيه الثاني نفسه، ولا يعترف بشرعيته! إنها أزمة الشرعية التأسيسية التي لا يمكن سدّها بالشرعية الانتخابية، أو الايحاء بأن هذه هي هي تلك الشرعية التي عليها تقوم الدولة والنظام السياسي .
وإذا كان هذا التقاطب الحاد، على مستوى الأساسيات، شكلاً من الحرب الأهلية الصامتة، أو الخامدة، فإن الاعتقاد بإمكانية التعايش معه، من طريق إدارته كأزمة مزمنة، لا يقود إلا إلى تأجيل الصدام أو إلى ترحيله، فضلاً عن أن بناء السياسة على غش متبادل، مسلك في العمل محفوف بالمخاطر . ولا يقلل من هذه المخاطر الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لشرعنة ما يفتقر إلى الشرعية .
إن الحلقة المفقودة في “الثورات” العربية، التي حصلت في العام ،2011 هي، بالذات، هذه المواطأة على المشروع المجتمعي وعلى أساسيات الدولة والنظام السياسي .
ولقد قُفِزَ عليها بالذهاب إلى صناديق الاقتراع وكتابة الدستور قبل أن يتبين شيء من المبادئ والقيم الجامعة، التي عليها، وحدها، يمكن للمنافسة السياسية أن تكتسب معنى وشرعية! كأن الثورة هي الإجماع على رفض نظام سابق، لا الإجماع على بناء نظام جديد، والاتفاق على قواعد ذلك البناء! وهكذا، بدلاً من أن تدخل قوى الثورة في حوار وطني عميق، في المسألة، لاجتراح مثل ذلك العقد الاجتماعي الجامع والمؤسس، تصرّفت وكأن هذه المهمة مقضيّة سلفاً، ولم يبق غير استفتاء رأي الشعب في مَنْ يمثله! وكم من أمور قضيناها بتركها!