عوني صادق
في الدقائق الأخيرة من زيارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن، وأثناء انتظاره إقلاع الطائرة التي أقلته إلى العاصمة الأردنية، وفي مشهد هوليوودي، صدرت ثلاثة بيانات متزامنة، في كل من واشنطن وأنقرة و”تل أبيب”، تعلن عن المصالحة التي تمت هاتفياً، بين تركيا والكيان الصهيوني . تركيا اعتبرت الاتفاق الجديد “انتصاراً” لها و”دليلاً على نفوذها الإقليمي المتزايد”، والكيان الصهيوني اعتبره “إنجازاً” له أهداه لأوباما حتى لا يعود من رحلته خاوي الوفاض . أما الحقيقة فهي أنه إذا كان من حق أوباما أن يعيد “الإنجاز” إلى نفسه، فهو يعرف أنه تحقق فقط لأنه يخدم مصالح الطرفين الشريكين، ثم المصالح الأمريكية .
ومنذ أن تدهورت العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني، في أعقاب الاعتداء الذي نفذه جنود “إسرائيليون” على سفينة “مرمرة” التي كانت متجهة إلى قطاع غزة في مايو/ أيار ،2010 والولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق هذه المصالحة، لكن العلاقة الشخصية بين أوباما ونتنياهو، في الفترة الماضية، لم تكن تسمح بذلك . لهذا يصبح من حق المراقب أن يستغرب ما جاء من “رأي” لصحيفة عربية بتاريخ 24-3-2013 علقت فيه على المصالحة التي تمت، وكتبت تقول: “جاء الاتفاق مفاجئاً، بل صادماً للكثيرين ونحن منهم، الذين اعتقدنا بأن تركيا حزب العدالة والتنمية قد أدارت ظهرها ل “إسرائيل” وإلى الأبد، وعادت إلى جذورها الإسلامية الصلبة” .
جاءت “الصدمة” من سوء التقدير، أو على الأصح من اللاموضوعية وسوء الفهم، من “الرغائبية” التي تسيطر على العقليات العربية، دولاً وهيئات وإعلاماً وأصحاب رأي، وكأنما تغيير سياسات الدول يأتي هكذا وفقاً للمزاج والتمنيات! وهنا نتساءل: على أي أساس كان ذلك “الاعتقاد” الذي تحدث عنه محرر الصحيفة المشار إليها؟ فتركيا، كما يعلم الجميع، حليف استراتيجي وقديم للولايات المتحدة وللكيان الصهيوني، والمصالح المشتركة للأطراف الثلاثة أوسع وأعمق من أن يحيط بها حيز، فهل كان يمكن لها حتى لو أرادت، مع أنها لم ترد، أن تغير اتجاه سفينتها هكذا مرة واحدة ومن دون مبررات حقيقية؟ كيف لدولة عضو أساسي في حلف الأطلسي أن تنتقل إلى الخندق الآخر قبل أن تكون قد حمت ظهرها مما يمكن للولايات المتحدة أن تلحق بها من أضرار جمة على كل الجبهات، الاقتصادية والعسكرية والسياسية؟ وهل من المنطق أو الفهم السياسي في شيء أن يقال، حتى الآن ولمدى غير منظور، إن معاداة الكيان الصهيوني أمر لا علاقة له بمعاداة الولايات المتحدة، أو العكس؟
في كل الأحوال لم تكن الصحيفة العربية التي أشرنا إليها هي وحدها التي أساءت التقدير، سابقاً ولاحقاً، بل كان هناك من تحدث عن “شراكة جديدة” بين تركيا والكيان الصهيوني، عندما بدأت بوادر الاتفاق تلوح في الأفق، فجاء كلاماً يعود إلى جذر سوء التقدير نفسه، فرأى أن التطورات في المنطقة، وفشل العلاقات التركية العربية، فرضت “مراجعة جديدة في التوجهات الاستراتيجية التركية، أهم معالمها أولاً، العودة مجدداً إلى أولوية البعد العربي والأطلسي في هذه التوجهات، وثانيها انكفاء الاندفاعة التركية في العالمين العربي والإسلامي وإعادة ضبط علاقات تركيا بهذين العالمين في غير مصلحة ما كانت تهدف إليه من طرح تركيا كقوة موازنة مع العرب بين كل من إيران ودولة الكيان الصهيوني، مع انحسار الدور التركي الوسيط في الأزمات . وثالثها العودة التركية مجدداً إلى دعم الشراكة مع دولة الكيان الصهيوني، لأن تركيا تدرك أن تأمين وتفعيل الدعم الأطلسي للأمن القومي التركي لن يكون دون مروره من بوابة الدعم “الإسرائيلي”، أي من ضوء أخضر “إسرائيلي” . فمتى تراجعت “أولوية البعد الغربي والأطلسي”؟ وهل كانت “الاندفاعة” التركية دليلاً على ذلك حتى يمكن القول “العودة مجدداً”؟ ومن قال إن العالمين العربي والإسلامي قبلا تركيا أن تكون “قوة موازنة مع العرب بين إيران والكيان الصهيوني”؟ وما هو الدليل على ذلك؟ وهل كانت تركيا تهدف فعلاً لتكون تلك “القوة” فتعادي طهران و”تل أبيب”؟ وهل غاب حقاً عن القيادة التركية أن تأمين الدعم الأطلسي لا بد أن يمر من البوابة “الإسرائيلية”؟
لقد كانت “الاندفاعة” التركية نحو العالمين العربي والإسلامي تقوم على “التجارة”، ولم تقم على السياسة، وما يخص “السياسة” لم يزد عن كونه “كلاماً” سياسياً . بمعنى أن “السياسة” التركية تجاه العرب، وخصوصاً تجاه الفلسطينيين، لم تكن أكثر من “تجارة سياسية”، أو “سياسة تجارية” ستكون معتمدة طالما لا تشكل خطراً على المصالح القومية التركية . ولم تقل تركيا، مثلاً، إنها ستحارب إلى جانب المقاومة الفلسطينية لتحرير فلسطين، أو القدس (مع أن هناك من يقول بتحرير القدس من باب التجارة أيضاً) . إن موقف تركيا من فلسطين، من حيث الجوهر، (أو الجولان)، هو الموقف الأمريكي ذاته، يسعى (وقد سبق وتوسط) لتنفيذ “حل الدولتين”، عبر المفاوضات المباشرة .
نحن الذين قوّلنا تركيا ما لم تقل، و”رغبنا” في أن نرى انفتاحها “التجاري”، وسعيها إلى تأمين مصالحها وتوسيع نفوذها، “انحيازاً” لنا . وعندما نخلص لمصالحنا القومية كما هي تركيا مخلصة لمصالحها القومية، نصبح أقوياء، ونعرف كيف ندافع عن حقوقنا ومصالحنا، ولن نكون بحاجة إلى أن تنحاز تركيا إلينا، وقد تنحاز إلينا دفاعاً عن مصالحها . . العيب فينا وليس في تركيا .