يعقوب سيادي
الدولة، تتحمل المسئولية الأكبر لتجنيب المجتمع نيران العنف، عبر الابتعاد عن التمييز في تطبيق القوانين، وإيكال المهام المتعلقة بالاحتكاك المباشر بالناس، وخصوصاً تلك في حالات الاضطرابات المجتمعية، إلى العارفين والمدرَّبين على ممارسة التزامات تلك العهود، والمتوافقة مع القوانين المحلية لحقوق الإنسان، بحيث يستحق ذاك المعني من المحسوبين على السلطات احترام الناس وتقديرهم.
في البدء نعلم أن العبثيين والحمقى، ولواحقهم من نفر، ممن مازال منساقاً لغواياتهم، وأولئك حاملي مشاعل الفتنة والفرقة، سيبدأون بتوزيع تهم الإرهاب والخيانة دون الدليل، داعيهم في ذلك أن القول يجيء على ما لا يسرهم، فسينبرون بالتحريض على تطبيق القانون الذي يفهمونه بما يهوون، وهم من أثره محصنون، وإن لم يتوافر فبِسَنـِّه كتشريعٍ جديد، لازم للتمكن من فرض العقوبات التي تغذي عندهم لظى ما يحرقون به الوطن، عبر تبنيهم لتوجهٍ، أبعد ما يكون عن المعايير المواطنية والإنسانية، كونهم لا ينتمون لأيٍّ منهما، فهم بين مأربين، إما أن يسود ما يظلمون، وعلى الآخر الخنوع والسمع والطاعة، وإما سعير احتراق الوطن.
العنف بكل أشكاله، من عبثي ووليده، مذموم ومرفوض، لذا فإن العقل الإنساني قد توصل للعهود والاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان، والتي ألزمت الدول الموقعة عليها ومنها البحرين، بأن تُعدِّل وتعيد صياغة نصوص قوانينها بما لا يتعارض وهذه العهود، ومن حيث أن الدولة مسئولة عن إنفاذ هذه القوانين، من خلال أجهزتها وأفرادها العاملين فيها، وجميع العاملين في الوزارات، من وزراء ومسئولين وموظفين، من أولئك المتعاملين مع أفراد الشعب، بالطريقة المباشرة أو بمسئولية القرار. فهي أي الدولة، تتحمل المسئولية الأكبر لتجنيب المجتمع نيران العنف، عبر الابتعاد عن التمييز في تطبيق القوانين، وإيكال المهام المتعلقة بالاحتكاك المباشر بالناس، وخصوصاً تلك في حالات الاضطرابات المجتمعية، إلى العارفين والمدرَّبين على ممارسة التزامات تلك العهود، والمتوافقة مع القوانين المحلية لحقوق الإنسان، بحيث يستحق ذاك المعني من المحسوبين على السلطات احترام الناس وتقديرهم.
وللعنف العبثي أشكال، تبدأ من تلك التي لا يعيها ممارسها، بل هو انسياق منه للظن، عبر تناقل الروايات، بما يُحرِّض الموتورين من المراهقين، للأقوال والممارسات التي يظنون أنها تثبت رجولتهم. والعنف العبثي أيضاً، هو أقوال وممارسات المغرضين والمعتاشين على إثارة الفتن والفرقة بين الناس. وهو أقوال وممارسات مريضي النفوس بعقدة النقص، فيشحتون تصفيقاً بين جمع جاهل وكاره، وحاقد للآخر، عبر رمي المفردات السابّة والشاتمة، واصطناع البطولة والشجاعة عبر التهديد عن بعد، وهو يأتي أيضاً من المتملقين لأصحاب النفوذ من أفراد السلطات، احتماءً بهم، واستدراراً لعطاياهم، ومن أكثر ممارسات العنف العبثي شراً، هو حين إهمال سلطات الدولة لدورها وواجبها تجاه شعب الوطن، وتجاوز تطبيق الإجراءات القانونية، المترجمة للمبادئ الدستورية، وخصوصاً في الباب الثاني «المقومات الأساسية للمجتمع»، والباب الثالث «الحقوق والواجبات العامة»، وعلى الخصوص تلك المواد، المادة (19 د): «لا يُعرَّض أي إنسان (نكرّر أي إنسان) للتعذيب المادي أو المعنوي أو للإغراء أو للمعاملة الحاطّة بالكرامة، ويحدّد القانون عقاب من يفعل ذلك، كما يبطل أي قول أو اعتراف يثبت صدوره تحت وطأة التعذيب أو الإغراء أو لتلك المعاملة أو التهديد بأي منها»، والمادة (20 ب) «العقوبة شخصية»، والمادة (20 ج): «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، والمادة (20 د): «يحظر إيذاء المتهم جسمانياً أو معنوياً»، والمادة (20 هـ): «يجب أن يكون لكلّ متهم في جناية محامٍ يدافع عنه بموافقته»، والمادة (25): «للمساكن حرمةٌ فلا يجوز دخولها أو تفتيشها بغير إذن أهلها، إلا استثناءً في حالات الضرورة القصوى، التي يعينها القانون، وبالكيفية المنصوص عليها فيه».
فلم يترك الدستور، خصوصاً في الجانب الحقوقي، التصرف بهوى منفذي القانون، بل بإجراءات وكيفية محددة مكتوبة وصريحة في القانون المعني، وإن لم يحتويها القانون، فذاك القانون ساقطٌ دستورياً، بما يفيد أنه حتى قانون حماية المجتمع من الإرهاب، ما لم ينص على الإجراءات الاستثنائية لحرمة السكن، فهو ساقط دستورياً، فالمادة (123) تنص: «لا يجوز تعطيل أي حكم من أحكام هذا الدستور إلا أثناء إعلان الأحكام العرفية وذلك في الحدود التي يبينها القانون… (والقانون هنا ليس بالمطلق لانطباقه على أي قانون سابق أو لاحق على إعلان الأحكام العرفية، كما سمعت على لسان أحد النواب، بل المعني هنا هو قانون إعلان الأحكام العرفية)، ففي حال تجاوزت أي جهة من السلطات المختلفة في إجراءاتها الأمنية أو الخدماتية أو المالية أو الاجتماعية، أو في تشريع القوانين أو في الأحكام القضائية، أو في تطبيق القانون للحقوق والواجبات، والقوانين العقابية، بما يجرح المساواة بين المواطنين ويفرق بينهم لأي ادعاءٍ كان، فإنما الجهة المعنية تكون قد دخلت في مساحة المساءلة القانونية، وإهمال محاسبتها من قبل سلطات إنفاذ القانون، أو إفراطها من العقاب، إنما هو شكلٌ من أشكال العنف العبثي، يستتبعه عنف مضاد مصدره القهر الواقع على الأفراد، لا يكتشفون عبثيته إلا بعد حين، ليعيش الوطن في عبثية تلو عبثية، من فعل ورد فعل. وما السنوات الثلاث الماضية إلا مسرحاً لتلك العبثية التي كلفت أبناء الوطن الكثير من الدماء والآلام، والخشية من استمرار ذلك لمثل السنوات الطوال الماضية التي خلقت أسباب الأزمة. وللمقال بقية.