عوني القلمجي
منذ عدة شهور والصراع بين متزعمي الطوائف والميليشيات المسلحة يزداد حدة يوما بعد اخر، والغرض نيل حصة اكبر من الاخر داخل ما يسمى بالعملية السياسية، ولم يترك احدا منهم وسيلة الا ولجأ اليها، واولها الاستعانة بالاجنبي. فهذا يستنجد بايران، وذاك بتركيا، واخر بالسعودية. اما امريكا، فكل طرف فيهم يستجديها ليكون المحظية الاولى كي تنصره على الطرف الاخر. وكان اكثر ما يحزن ويدمي القلب في هذا الخصوص، هو الاستهانة بالدم العراقي البريء واستغلاله في هذا الصراع. وقد نجد نموذجا عنه في التفجيرات الاخيرة التي بلغ عددها في يوم واحد 42 تفجيرا، شمل معظم المدن العراقية، وراح ضحيتها مئات القتلى والجرحى، حيث اتهم كل طرف الاخر بهذه الجريمة البشعة ووجد له الاسباب، فنوري المالكي يعزو السبب لزعزة الامن والاستقرار الذي حققه، واياد علاوي والبرزاني ومقتدى الصدر يعزون السبب الى خطة المالكي لتشويه سمعتهم. وبصرف النظر عن الجاني في هذه الجريمة، او الجرائم السابقة، فان جميع هؤلاء يتحمل مسؤولية اهدار الدم العراقي. ناهيك عن التهديدات المتبادلة حول كشف ملفات السرقة والفساد المالي والاداري التي يمتلكها كل طرف ضد الاخر. وهذا يعني، وباعترافهم، بان لا احد من عتاولة العملية السياسية بريء من جميع هذه التهم.
جراء هذه الحالة المزرية التي وصلت اليها العملية السياسية، والسقوط السياسي والاخلاقي لعملاء الاحتلال، والدمار والخراب الشامل الذي عم البلاد بسببها، والفواحش والجرائم التي ارتكبت بحق الناس، والعجز في تقديم الخدمات والامن، الى جانب حالة الاستياء التي عمت الشعب العراقي ضد هذه العملية وجلاوزتها، جراء ذلك كله، كان من المفترض شروع القوى والاحزاب الوطنية، وفي المقدمة منها فصائل المقاومة. بتعبئة عموم الناس وحشدها للقيام بانتفاضة شعبية عامة وشاملة تسقط هذه العملية وتلقي القبض على متزعميها وتقدمهم للمحاكم المختصة لنيل جزاءهم العادل. فلقد فعلتها العديد من الشعوب العربية لاسباب اقل من ذلك، ونقصد شعب تونس ومصر واليمن. لكن ما نلاحظه في هذا الخصوص حتى يومنا الحاضر، هو بعيد كل البعد عن هذا التفكير، حيث اكتفت جميع هذه القوى والاحزاب المعنية، ودون اسثناء، بالتفرج على ما يحدث على امل سقوط هذه العملية المشينة من داخلها، او من تلقاء نفسها، وفق مقولة "نارهم تاكل حطبهم" او في احسن الاحوال صدور تصريحات وبيانات ادانة واستنكار. وهذا يعد، من وجهة نظرنا، طامة كبرى، لان مثل هذا التفكير يدل على قصور خطير في فهم معنى العملية السياسية، ونظام تكوينها والية عملها والدستور الذي يحميها وحرص جلاوزتها على استمرارها وديمومتها واستعدادهم لتقديم التنازلات المتبادلة اذا ما شعروا بالخطر. فهؤلاء مثل الكلاب التي تحس بالزلزال قبل وقوعه. ولا يغير من هذه الحقيقة اذا حدث وسقطت حكومة المالكي وجاءت حكومة اخرى برئاسة اياد علاوي، او ابراهيم الجعفري او باقر صولاغ، او حتى برئاسة شخصية وطنية من خارج العملية السياسية، اذ ليس بمقدور احد التمرد على العملية السياسية والتفرد بقيادتها والاستئثار بغنائمها. لان ذلك سيصطدم بنظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي سنه المحتل في مؤسسات الدولة، من راسها حتى اصغر مؤسسة حكومية فيها.
هذا الراي لا يدخل في باب الكيدية، كون كاتب هذه السطور، ضد هذه العملية، ولا في باب المبالغة من اجل تحقيق هدف سياسي، ولا هو قصور فكري أو سياسي في تشخيص الحالة، وانما نذكر ذلك لتاكيد حقيقة واحدة مفادها، بان اي مراهنة على سقوط العملية السياسية من داخلها هو ضرب من الخيال، وفي هذا الخصوص هناك من الاحداث والوقائع ما يدعو للتفكير والتامل. وحسبنا في هذا المضمار ان نذكر بداية، ولو من باب الاشارة، بان العملية السياسية، تعني الدستور وتعني الانتخابات وتعني الحكومة وتعني البرلمان وتعني السلطة القضائية الخ. اي انها اطار جامع لكل هذه الادوات، واي تعديل او تغيير في واحدة منها لا يسقط، بل لا يضر بالعملية السياسية، فسقوط حكومة المالكي على سبيل المثال لا يعني سقوط العملية السياسية، وحل البرلمان او تعديل قانون الانتخابات ينطبق عليه نفس الشيء. والاهم من ذلك كله، فانه لا يمكن لكائن من كان ان ينسف واحدة من هذه الادوات، لا من داخلها ولا من خارجها، فكل واحدة منها محمية بهذه الطريقة او تلك من جهة، وتحمي بعضها الاخر من جهة اخرى.خاصة، وهذا هو الاهم، فان هذه العملية السياسية صممت اصلا من اجل تدمير العراق، وليس من اجل تشكيل عملية سياسية لبناء العراق الجديد كما يدعي المحتل.
لناخذ مثلا الدستور، فهو قدم صمم من اجل هذه الغاية، تدمير العراق دولة ومجتمع، ودعك من المواد التي تضمنها والشبيه بمواد الدساتير الراقية في البلدان الديمقراطية. فبدل ان يؤكد الدستور على وحدة العراق، فان المادة 118 تسمح بتقسيم العراق الى 18 دويلة على عدد محافظاته وليس الى ثلاث دول في الشمال والوسط والجنوب. ناهيك عن المادة الاولى في الدستور الذي جعلت من دولة العراق الموحدة دولة فدرالية. وبدل ان يكون ولاء العراقي للوطن سمح وفق نظام المحاصصة ان يكون الولاء للطائفة او العرق او الدين. وبدل التاكيد على عروبة العراق، نزع هوية العراق العربية، وهكذا، فاذا سقطت الحكومة هل بامكان الحكومة القادمة اسقاط الدستور او حتى تعديل مادة من مواده؟.
دعونا نرى، فاذا اردت استعادة عروبة العراق او وحدته، فانك ستصطدم بالمادة 122 التي تمنع اي اي تعديل لاي مادة وردت في "الباب الاول – المباديء الاساسية" والتي تنص على: "لا يجوز تعديل المباديء الاساسية الواردة في الباب الاول الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين وبناءا على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام". ومعلوم ان المادة الاولى والثالثة التي قسمت العراق ونزعت عروبته تدخل في هذا الباب. واذا تجاوز اي تعديل كل هذه الحواجز، فانك ستصدم بالمادة التي تمنح الحق لثلثي السكان في ثلاث محافظات ابطال مثل هذا التعديل، او اي تعديل اخر. وهذا يعني بان الكرد بامكانهم ابطال اي مادة تتعاكس مع مصالحهم، مثل التمسك بعروبة العراق او الحفاظ على وحدته، لوجود ثلاث محافظات تحت سيطرتهم بالكامل.
اما الانتخابات وما نتج عنها من مجلس نيابي وحكومة، فهذه هي الاخرى قد تقررت نتائجها وفق نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، بحيث يكون رئيس الدولة كردي، ورئيس الوزراء شيعي ورئيس البرلمان سني. وبالتالي لا يمكن المراهنة عليها لاختراق العملية السياسية بفوز جهات او شخصيات تخرق هذه المحاصصة، واستبعاد اياد علاوي من تشكيل الحكومة رغم فوزه بالانتخابات لصالح نوري المالكي الفائز الثاني، كون قائمة علاوي تمثل المكون السني على حد تعبيرهم، مثلما يكون منصب رئيس البرلمان سني رغم كونه لا يمثل الاكثرية. ناهيك عن ان الانتخابات اعتمدت على اسماء قوائم دون معرفة اسماء المرشحين، وعلى فتاوى دينية بانتخاب هذه الجهة وتحريم انتخاب الاخرى وعلى ممارسة عمليات التهديد ومحاربة الناس في لقمة عيشهم، او الفصل من الوظائف والاعمال وغيرها، بدل استقطاب الناس وكسب اصوات الناخبين على اساس البرامج السياسية والوطنية.
اذا كان ذلك صحيحا، ترى هل اصبحت هذه العملية الخطيرة قدرا محتما على رؤوس العراقيين وينبغي الاستلام له؟ ام ان هذا الصراع وما وصله اليه من سقوط سياسي واخلاقي قد مهد الطريق لاسقاط العملية السياسية على يد القوى الوطنية المناهضة للاحتلال وفي المقدمة منها فصائل المقاومة العراقية؟
في تاريخ الشعوب وتجاربها، لم يقدم لنا التاريخ مثلا بان شعبا، مهما كان صغيرا، استسلم لمثل هذه الاقدار، بل على العكس من ذلك، فان قوى الاحتلال، ومهما بلغت من قوة، هي التي لم تتمكن من فرض ارادتها على الشعوب المستعمرة الى ما لا نهاية. وشعب العراق قد اثبت هذه الحقيقة، فهو قد رفض الاستسلام للمحتل الامريكي العملاق، وشرع في مقاومته منذ اليوم الاول لاحتلال بغداد، والحق به هزائم نكراء كان انسحاب معظم قوات الاحتلال الامريكية واحدة منها رغم امكانات الشعب العراقي المتواضعة والاسلحة البسيطة التي يقاتل بها، وبالتالي فان هذا الشعب والمقاومة التي تقوده قادر على اسقاط العملية السياسية، بوسائل عديدة سواء كانت سلمية مثل الانتفاضة او عبر الكفاح المسلح. ولكن ذلك، وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، مرهون بتوفير المستلزمات المطلوبة وفي المقدمة منها استنهاض الفعل السياسي والارتقاء به الى مستوى الفعل المسلح، وبما يتلائم مع مرحلة الصراع القادمة ضد الاحتلال وحكومته، سواء في ظل المالكي او غيره. ومن دونه لا يمكن اولا حشد الناس في عموم العراق من اجل القيام بانتفاضة شعبية منظمة لانجاز هذه المهمة، ومن دونه لا يمكن استمرار المقاومة فترة طويلة ما لم يتحول الفعل المسلح الى فعل شعبي نظرا لتفوق المحتل في جميع المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والاعلامية.
لكي نكون اكثر وضوحا، فان الفعل السياسي الذي نعنيه هنا، او نامل بتحقيقه، ليس صورة محسنة، من الفعل السياسي المحدود الذي الفناها من قبل، والمحصورة في فضح وتعرية المحتل وحكومته، فهذه المهمة قد قام بها المحتل وعملائه على احسن وجه، وانما نعني به الفعل السياسي ضمن اطاره الواسع والشامل، والقادر على اشراك الناس في هذه المعركة والمعارك الاخرى التي تخوضها المقاومة المسلحة. وهذا الفعل ليس بمقدور حزب او جهة لوحدها ومهما علا شانها القيام به، وانما يتطلب تحالف جميع القوى والاحزاب الوطنية والقومية والاسلامية، والشخصيات الوطنية دون استثناء. في اطار جبهة وطنية شاملة، تسترشد برنامج سياسي مشترك يلبي طموحات الجميع.
نعم، لقد حققت فصائل المقاومة،وفي ظل غياب الوحدة والجبهة الوطنية، والفعل السياسي الذي نعنيه انتصارات عظيمة. لكن الهدف من معارك المقاومة، هو تحرير البلاد وليس تسجيل الانتصارات. والا تصبح هذه الانتصارات وكل ما حققته المقاومة العراقية الباسلة من انجازات رائعة شيئا من الماضي.
خلاصة القول، ان من يعتقد بسقوط العملية السياسية من داخلها، او من تلقاء نفسها، لهو في ظلال مبين في احسن الاحوال، ان لم يكن يسعى من خلال هذا الاعتقاد وترويجه بين الناس الى الهروب من مسؤولياته الوطنية والنضالية، او له اهداف وغايات اخرى تصب في خدمة مصالحه الذاتية، او الفئوية الضيقة. لقد قدم لنا اطراف العملية السياسية فرصة ثمينة للاجهاز عليها، فما ظهر من جرائم وفضائح وما بطن منها، اصبحت اكثر من كافية لدفع العراقيين للخروج عن صمتهم، والاشتراك في اي فعل للتخلص من هذه العملية وشرورها. ومن دون استغلال هذه الفرصة، فان التاريخ ليس كريما على الدوام في منح فرص اخرى مشابهة.
20/6/2012