العروبة والمستقبل، عنوان تصدر المؤتمر الذي عقد في دمشق، بدعوة كريمة من الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية العربية السورية في الفترة من 15 – 19 من هذا الشهر، وقد شارك في المؤتمر، أكثر من ستين مفكرا وباحثا، عدا الضيوف والمراقبين، أثروا المؤتمر ببحوثهم ومداخلاتهم. وكان لي شرف المشاركة في هذا المهرجان العلمي.
تناول الباحثون في أوراقهم أكثر من ستة عشر محورا، على تماس مباشر بالعروبة ومستقبلها، شملت فكرة العروبة ومكوناتها، وعلاقتها باللغة، وآفاقها الثقافية والحضارية. كما تعرضت البحوث لعلاقة العروبة بالدولة، والدين والعولمة والهوية، وأيضا بفلسطين القضية المركزية للعرب جميعا. وجرى التركيز على موضوع العروبة والتنوع الإثني، وعلى صلة العروبة بالتاريخ والحداثة. وعلى الوضع القومي حاليا في الأقطار العربية. وجرت مقاربة المفهوم في علاقته بالدولة الأمة والدولة القطر، وأيضا علاقتها بالبعدين العلماني والسياسي. وكانت الجلستان الأخيرتان، قد تناولتا العروبة والأصولية الطائفية والمذهبية، والعروبة ومخاطر الهيمنة.
أهمية هذا المؤتمر، تكمن في أنه ينعقد في فترة تراجع فيها العمل الوحدوي العربي، وأصبح مفهوم العروبة فيها، مرادفا لمركمة التخلف ومناصرة الاستبداد. كما يأتي في وقت تتزاحم فيه المخططات العدوانية للهيمنة على المنطقة، والعبث بتراثها ومكوناتها الثقافية والحضارية، والسطو على ذاكرتها التاريخية. والشواهد على ذلك كثرة، ليس آخرها احتلال العراق، ومصادرته كيانا وهوية، وتفتيت أوصال الأراضي الفلسطينية، والتلويح بتدخلات آخرى، مماثلة لما جرى في العراق، الشقيق، في أقطار عربية أخرى.
يأتي ذلك أيضا، في ظل تشرذم وتفكك، وضعف واضح في الصف العربي، تجاوز النظام العربي الرسمي، محققا اختراقات واسعة ضمن النخب الثقافية والفكرية، التي يؤمل منها أن تكون المعبر عن الوعي ويقظة الضمير. وقد بلغت حالة التردي مستويات خطيرة، قاربت حد التشكيك في العناصر التي صنعت نهضة الأمة، وهويتها، لينتج عن هذا الوضع الكارثي، محاولات لبعث هويات ما قبل تاريخية، شكلت في مرحلة من مراحل النهوض العربي، عامل خصب وثراء لمكونات ثقافتنا العربية.
وهنا يأتي الاهتمام بإعادة القراءة، وتصحيح المفاهيم، بما يتسق مع التحولات الكونية التي تجري من حولنا، خطوات أساسية ملحة، من أجل إعادة بوصلة العمل القومي العربي، فكرا وممارسة، إلى اتجاهها الصحيح.
وبالقدر الذي نسلم فيه بأهمية تحقيق ذلك، بالقدر الذي ينبغي إدراك أن ذلك ليس بالعملية الميسرة والسهلة. فلن يعيد للعمل القومي اعتباره إعادة استنساخ أو استعارة المفاهيم التي سادت أثناء مرحلة النهوض القومي، بحقبه الممتدة منذ منتصف القرن التاسع عشر، حتى نكسة الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967م. فقد انتهت تلك المرحلة بما لها وما عليها. وانتهت أيضا حقبة من التاريخ الإنساني، تشكل فيها نظام عالمي ساد لما يقرب من خمسة عقود. ومع التغيرات الهائلة، التي حدثت على كوكبنا، في مختلف الصعد، أصبحنا بحاجة ماسة، إلى قراءات أكثر تطورا، وتماهيا مع التحديات والمخاطر، التي تفرضها علينا تلك التحولات.
فمع أن من الصعوبة، على أي كان، أن ينفي وجود واقعة تاريخية ومجتمعية اسمها العرب، تربط المنتمين إليها لغة واحدة، وثقافة واحدة، وتاريخ مشترك. ووعي بانتماء لهذه المشتركات، بما يجعل من العروبة، واقع موضوعي، لكن ذلك لا ينفي التمييز بين مستويات وعي الانتماء لهذا الواقع الموضوعي. وذلك هو ما يميز بشكل واضح، بين من ينتمي إلى الأمة بحكم الانتماء الجغرافي والثقافي واللغوي، وبين من يجعل انتماءه للعروبة، انتماء لمشروع ولحاضن نهضة. وذلك ما يجعل من فرد، عربي بالفطرة، ومن آخر ملتزم بالقومية العربية، وبرسالتها في تحقيق النهضة والتطور والنماء، في منطقة تمتد من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الهادي غربا.
إن هذا التمييز، قد وجد التعبير عنه، بنوعين من الانتماء. انتماء إلى العرب وهو انتماء وجود ليست هناك من حاجة إلى تأكيده، لأن ذلك يجعله تأكيدا لمؤكد تفرضه الجغرافيا واللغة والثقافة، وانتماء وعي بهوية. التصنيف الأول، لا يحتمل أكثر من الاقرار بواقعة بشرية، تدعى العرب، أما التصنيف الثاني: العروبة، فيجعل من الهوية رسالة تاريخية، على العرب، أن يواصلوا دورهم الحضاري، إذا ما أرادوا أن يكون لهم مكان لائق تحت الشمس.
وإذن فنحن نعود من جديد إلى موضوع الهوية، الحاضنة لأمة العرب. وهو موضوع تناولناه في السابق بالقراءة والتحليل، ولن نعود له مرة أخرى. لكن المؤكد أن الحديث عن العروبة، شأنه شأن حديثنا عن الهوية، كمفهوم، ليس لتعريفه صفة الثبات، فهو حالة إنسانية متجددة، تتجدد كما تتجدد الأفكار والمواريث.
وحين نتحدث عن العروبة كهوية، فإننا نعني بذلك خصائص تاريخية ولغوية ونفسية، نتج عنها فصل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى. ولا مفر من التأكيد على أن هذه الخصائص هي من جهة، ناتج تفاعل بين تقاليد وموروثات تراكمت عبر حقب طويلة، ومن جهة أخرى، تعكس تفاعلا فوارا مع وضع عالمي متغير باستمرار، ومع موجات ثقافية ممتدة، ونماذج حضارية، تنتج عنها ردود فعل ذاتية، تفرض التعامل بخصوصية مع تلك التقاليد، وتمنحها هوية جديدة.
هذا يعني أن الهوية نتاج تاريخي وجغرافي، لا يتكون نتيجة الرغبة في العيش والبناء المشترك، ولكن نتيجة للعيش في ظل وضع أنشأه التاريخ. ولذلك فهي ليست شيئا ساكنا، كونها نتاج حركة وتعاقب. هذا القول ينسحب إلى حد كبير على العناصر التي جعلت من العروبة هوية للقوميين العرب، فهي ذاتها متحركة، وقابلة للتطور وللتغيير، وخاضعة لقوانين التطور والتحول والتراكم. وإذا فالعروبة تتجدد، كما تتجدد اللغة والمواريث.
في الوطن العربي، نشأت حضارات عريقة منذ فجر التاريخ، في وادي النيل وما بين النهرين، وبلاد الشام، فرعونية وفينيقية وبابلية وآشورية… بقيت أثارها حاضرة أمامنا اليوم، مجسدة إسهاماتها في تشكيل فلكلور وثقافات وتقاليد، تفاعلت مع الحضارة التي تفجرت بانبثاق رسالة الإسلام، مثرية، مع تراكمات أخرى هوية العرب، منذ مرحلة تأسيسها.
شأن الهوية، هو شأن كثير من الظواهر الاجتماعية الأخرى، تبدأ من الأسفل، وتتدرج صعودا إلى الأعلى. فالفرد يولد في منزل، يصبح بالنسبة له مركز العالم. ثم يتدرج رويدا رويدا، إلى الانتماء إلى عشيرة وقبيلة، فمجتمع. وكلما تقدم إلى الأمام توسعت دائرة الانتماء، وغدا الانتماء إلى الجماعة والوطن، يأخذ حيزا كبيرا من الانتماءات الأخرى. وبالقدر الذي يتعزز فيه مفهوم الانتماء للوطن، بالقدر الذي تتراجع فيه الانتماءات الأخرى، لصالح الهوية الأكبر، الهوية الجامعة، هوية الوطن.
ومع اتساع فضاءات الانتماء للوطن، تنكمش تقاليد وثقافات، وتتراجع قيم ومفاهيم. يتغير مفهوم البطولة من الدفاع عن القبيلة وعن الحبيبة واستحضار لذاكرة الأطلال، إلى دفاع عن الوطن وأمنه واستقراره، وسيادته وكرامته. بمعنى آخر، إن الهموم والمشاكل تتغير، وتأخذ أشكالا أخرى مغايرة، كما أن التحديات التي تواجهها الأمم لا تبقى هي ذات التحديات التي سادت في الماضي، وبالتالي فإن القراءات والمعالجات سوف تكون مختلفة. والأسئلة المطروحة التي تلح على الأجوبة تتغير هي الأخرى، من مرحلة إلى أخرى، وكذلك المعضلات التي تواجهها الأمة..
هذه النقاط الجوهرية، هي ما حاولت ندوة العروبة والمستقبل أن تقتحم بواباتها وتفك رموزها، وتقدم أجوبة شافية وعلمية ورصينة عليها.
editor@arabrenewal.com
.