د. حسن حنفي
العروبة والدين ركيزتان للوجود العربي. والعروبة هي اللسان. فكل من تكلم العربية فهو عربي. والعرب إما عاربة أو مستعربة. والعروبة جوهر متحرك يتجلى في اللغة والثقافة، في الفن وفي الدين. الخليل بن أحمد واضع علم العروض وسيبويه واضع علم النحو عربيان. والفارابي وابن سينا عربيان. والرازي الطبيب والرازي الفيلسوف عربيان. وكل الذين عُربوا من أقوام أخرى، أكراد وتركمان وأتراك وبربر عرب. بل إن الأوروبي أو المستشرق الذي تم تعريبه عربي. فاللغة تطبع شخصيته، وتعطيه فكره، وتمده برؤيته للعالم.
والدين ليس فقط عقائد أو شعائر أو مؤسسات أو تمائم وتماثيل ومقدسات بل هو ثقافة وفن، رؤية وشعر. كان العربي يعبد الأوثان ولم تكن دينه. وكان يقرض الشعر، وكان حياته. كانت لديه اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ولكنه كان حنيفاً يريد الدين الطبيعي بلا عقائد ولا شعائر ولا طقوس ولا مجسمات ولا تماثيل. كان يتعبد في الجبال ويعيش قيمه في الشجاعة والشهامة والمروءة والوفاء والكرم والعدل. وهي القيم التي أكدها الإسلام «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».
العروبة والدين إذن متداخلان في حياة العربي منذ حياته البدوية الأولى وحتى الآن. يجمعهما الصدق. ومن السهل تعريف الجواهر أو الأشياء مثل العروبة والدين عن طريق منطق التعريفات والقضايا. ولكن من الصعب تعريف «واو» العطف في منطق العلاقات. فالربط بين الأشياء أصعب من الأشياء ذاتها. ولذلك كانت الرياضيات أو المنطق الحديث أصعب وأكثر تجريداً من الرياضيات أو المنطق القديم. الرجل بمفرده والمرأة بمفردها معروفان، ولكن العلاقة بينهما أكثر تشابكاً وتعقيداً. هذا بالإضافة إلى أن العروبة والدين ليسا جوهرين متمايزين، يمكن تعريف كل منهما على حدة، بل هما متداخلان، كل منهما حامل للآخر. تنبثق العروبة من الدين كما ينبثق الدين من العروبة. قد تكون علاقتهما مثل علاقة النفس بالبدن. العروبة هي البدن، والدين هو النفس عند القوميين. هما جوهران متكاملان.
العروبة والدين مغروسان في التاريخ. والعربي هو الإنسان صاحب الرسالة المتجذرة في التاريخ. ليست العروبة قومية حديثة النشأة كما هي الحال في القوميات الغربية في القرن التاسع عشر بعد انهيار الإمبراطوريات النمساوية والمجرية، تكونات عرقية وجدانية تستمد هويتها من الجغرافيا الطبيعية، الجبال والأنهار والسهول والمحيطات، وألوان البشرة البيضاء والشعور الشقراء واللهجات المميزة. العربي هو العربي في عاداته وتقاليده حتى وإن تباينت اللهجات. «أنزل القرآن على سبعة أحرف». فالعربي وجود تاريخي له رئتان، العروبة والدين. له جذور في التاريخ في تاريخ القبائل السامية أو في تاريخ الأنبياء. ولذلك اتسعت ذاكرته وأصبح إحساسه بالماضي هو الذي يمده بإحساسه بالحاضر والمستقبل. ولذلك وصف العلمانيون العربي بأنه ماضوي سلفي لانفتاحه على الماضي أكثر من نزوعه نحو المستقبل. يُقدر عمره بآلاف السنين.
والسؤال هو: مَن الحامل ومن المحمول؟ هل العروبة حاملة للدين وأداة له أم أن الدين حامل للعروبة وأداة لها؟ هل العروبة وسيلة والدين غاية أم أن الدين وسيلة والعروبة غاية؟ هل العروبة أولاً والدين ثانياً أم أن الدين أولاً والعروبة ثانياً؟ النبوة حملت العروبة وقدمتها. وهذا هو موقف الإسلاميين، أم أن العروبة حملت النبوة وقدمتها وهذا هو موقف القوميين؟ لم يُعرّب الدين كل الشعوب. هناك شعوب قبلت الدين دون العروبة مثل فارس وتركيا وماليزيا وإندونيسيا وأواسط آسيا وفي أفريقيا، السنغال وغينيا وتنزانيا وغيرها من البلاد الأفريقية الإسلامية. وهناك شعوب قبلت الدين وما يحمله من عروبة مثل مصر والمغرب العربي وكثير من الشعوب الأفريقية التي توجد فيها شرائح واسعة ناطقة بالعربية مثل تشاد ومالي والصومال والنيجر ونيجيريا. وهناك أقوام قبلت العروبة أو ظلت عربية على دينها اليهودية أو النصرانية دون أن تتقبل الدين الجديد مثل اليهود والنصارى العرب.
والاختيار في منطق العلاقات بين منطق الهوية ومنطق الاختلاف، التوحيد بين الطرفين أو التفرقة بينهما تمييزاً أو تناقضاً. في منطق الهوية يتحد الطرفان، العروبة والإسلام. وهو الإحساس الشعبي العام في المغرب العربي. فلا يتصور المغربي أن هناك عربياً غير مسلم. فالعربية لغة القرآن الكريم والقرآن بلسان عربي مبين.
وفي منطق الاختلاف، العروبة غير الإسلام، هناك عرب مسيحيون وهناك مسلمون غير عرب. بل إن المسلمين غير العرب، ثلاثة أضعاف المسلمين العرب. وقد قامت بالفتوحات الإسلامية شعوب إسلامية غير عربية في آسيا وأفريقيا. ولم يفتح العرب إلا مصر والشام وفارس. وهو الموقف العلماني. العروبة مستقلة عن الدين وإن كان أحد مكوناتها. والدين مستقل عن العروبة وإن كان داخلًا فيها في إحدى مراحلها. يكشف منطق الهوية عن حوار سياسي، جعل العروبة والإسلام دائرتين متداخلتين مشتركتين في مركز واحد. في حين يكشف منطق الاختلاف عن صراع سياسي بين العروبة الحاملة للدين. فاليهودية والنصرانية والإسلام مراحل ثقافية لعروبة واحدة وهو موقف القوميين. والدين حامل للعروبة وهو موقف الإسلاميين. فالأسلمة تعريب، والعربية لغة الدين.
وهناك منطق ثالث وهو منطق الدوائر الثلاث المتداخلة التي لها مركز واحد. دائرة صغرى وهو الوطن. فلا يوجد إنسان إلا ويولد في مكان. وينشأ فيه ولديه منه ذكريات الطفولة وحب الأهل والإحساس بالانتماء. وهو ما يسمى بالجنسية أو مكان الميلاد. ولا يوجد إنسان يولد في كل مكان، بل في مكان واحد. وطالما يغني الشعراء والكتاب بذكريات الطفولة وأحلام الصبا. لا يمكنه الهجرة منه أو فراقه مدة طويلة. وهناك دائرة وسطى تحيط بها وهي دائرة اللغة. فلا يوجد إنسان إلا ويتكلم لغة المكان وأهله. وله لسان ينطق به. ولو انعزل عنه وعاش في مستعمرة كما فعل الفرنسيون في الجزائر لكان فرنسياً بالرغم من مولده في الجزائر لأنه لم يتعامل مع أهله ولم يتحدث لغة الوطن في أسرته. والدائرة الثالثة الأكبر هي الثقافة التي يتربى عليها الإنسان والحاملة لنسق القيم الاجتماعية ومنها الدين والفن والأدب والشعب والعادات والأعراف والأمثال العامية. فلكل إنسان مكان ولسان وثقافة. ولا تتعارض هذه الدوائر الثلاث بل تتداخل فيما بينها. وتشترك في مركز واحد هو الإنسان. هي هوية واحدة متعددة المستويات بين الوطن واللغة والثقافة، الدائرة الصغرى، والدائرة الوسطى، والدائرة الكبرى. ولا يمكن التمسك بواحدة دون الاثنتين الأخريين، الوطن وحده باسم الوطنية دون القومية والثقافة، أو القومية وحدها بدون الوطنية والدين أو الدين وحده دون الوطن والقومية. التطرف مغالاة، والإثبات لا يتضمن بالضرورة نفياً. والوقوع في الأحادية ينفي التعددية.
تبدأ العروبة إذن بالوطن فكل عربي له وطن. لذلك هناك الوطن العربي، والأمة العربية، والشعب العربي، والتاريخ العربي، والوجدان العربي، والوجود العربي. يدافع المصري عن مصر، والسوري عن سوريا، والعراقي عن العراق، واللبناني عن لبنان. وتقوم الثورات الوطنية، ثورة 1919 في مصر، وثورة الجزائر، والثورة اليمنية. وتضرب دمشق بالقنابل من المستعمر الفرنسي. ويتوحد العربي مع جميع الثورات الوطنية في الوطن العربي «وكل بلاد العرب أوطاني». لذلك الهجرة خارج الأوطان شيء غريب. صحيح أن المواطن العربي له مشاكل حياتية في الرزق والعمل والسكن والعلاج والتعليم والحرية السياسية يصعب حلها. ولكن ذلك لا يعني هجرة الوطن إلى مكان آخر تسهل فيه الحياة. يرتاح البدن ويظل القلب معذباً لهجرة الأهل والوطن والأحباب. ويتمنى لو عادت الطيور المهاجرة إلى أوطانها. في مقابل إسرائيل التي انتزعت المواطنين من أوطانهم باسم اليهودية، من «الدياسبورا» إلى «العاليا» لتزرعهم في وطن بديل لا ذكريات لهم فيه. لهم لغات متعددة، وعادات وتقاليد متباينة. ويطردون شعباً من وطنه وهو يتشبث بالأرض. الغريب عن فلسطين أصبح مواطناً فيها. والمواطن الفلسطيني أصبح لاجئاً.