كنت قد شاركت في الندوة القومية حول فكر القائد المؤسس التي كانت انعقدت في بغداد ما بين 23-26 حزيران عام 1990 فقدمت ورقة بعنوان (القومية والإنسانية في فكر الأستاذ ميشيل عفلق) فقلت في مطلعها أن الكتابة والبحث في فكر أستاذنا ورفيقنا وقائدنا المؤسس، ليس بالأمر السهل خاصة بالنسبة لنا نحن البعثيين الذي عرفناه في وجداننا وضمائرنا قبل أن عرفته عيوننا.
واليوم وبعد تسعة عشر عاماً اكرر ذلك القول في ذكراه العطرة دائماً لأتابع الموضوع عن العروبة والدين والعلمانية في فكر القائد المؤسس وإعادة البحث وقراءة ما كتب أو تطرق إليه في خطابه الفكري والسياسي في تلك الجوانب لان ذلك كان وسيبقى خالداً في ضمائرنا نحن البعثيون الذين سرنا ونسير نضالياً على وقع أقواله وتعاليمه، وتلك هي " كلمة السر " في فكره التي حفظت وستبقى ويجب أن تبقى حافظاً لنا صحة واستقامة طريقنا وسلامة نهجنا الذي قبلناه لأنفسنا بأمانة… تلك العبارة التي أوصانا – يرحمه الله – بأن ينقلها كل فرد منا للآخر [ إنها ليست نظرية يُبرهن عليها وليست دستوراً رياضياً ولكنها الميزة التي تميز الإنسان في كل عصر…
ولقد اخترت في ورقتي هذه أن اعرض استخلاصاً في العروبة والدين بصورة عامة والإسلام بصوره خاصة في فكر أستاذ البعث المرحوم الأستاذ ميشيل عفلق حيث كتب عنها الكثيرون من المثقفين ورجال الفكر الذين تتبعوا كتاباته في مختلف العهود بدءاً من التأسيس للحزب والى أن التحق أستاذنا بالرفيق الأعلى:-
أولاً: العروبة بين الإيمان والإلحاد:-
ابتداءً لا بد من القول أن الأستاذ ميشيل وبحكم نشأته ووضعه الأسري كان قد عايش العروبة المسيحية قبل أن يعايش العروبة والإسلام بل أن استخلاصاته المهمة في العروبة والإسلام قد برزت من خلال معايشته لكل تلك الأوضاع وما أتاحه له ذلك من الدراسة والتأمل فكان يجد في ذلك ميزه له يمتاز بها عن غيره؛ لذلك يتضح للباحث أن فكره قد تبلور هنا حول موقف العروبة من كل الإيمان والإلحاد وصولاً إلى التساؤل: هل في مقدور الأمة العربية أن تتحرر من الدين كما حاول غيرها من الأمم أم لا؟
– يقول الباحث الدكتور محمد احمد خلف الله حول ذلك أن ميشيل عفلق قد سلك سبيلين في تناوله لهذه القضية:-
الأولى: دور الدين بصفة عامة في الحياة الإنسانية.
الثانية: دور الدين في العروبة بصفة خاصة وهل يمكن استغناؤها عن هذا الدور وكيف..؟
– وقد أجاب الأستاذ عفلق على تلك التساؤلات بقوله:-
(الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ أقدم العصور إلى اليوم هو شيء أساسي في حياة البشر…) ويضيف القول:-
(الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان وانه يمكن أن يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم أو يتأخر، ولكنه لا يمكن أن يزول) في سبيل البعث، ج/1، صفحة 125 و126 إلى أن يقول:-
(حقيقة الأمة العربية لا تكتمل إلا بالإيمان، إلا أن تسري روح الرسالة في جماهير هذه الأمة… وأن الدين خالد – وإن كانت أشكال التدين ومستوياته خاضعة للتطور…)
لكن يجب أن لا ننسى ابتداءً ونحن نتعمق في دراسة فكر أستاذنا حقيقة هامة وهي أن فكره في هذه الموضوعات هو الفكر السياسي البعيد عن الموضوعات الدينية الخالصة من مثل الغيبيات والمسائل الأخرى الموكولة لرجال الدين أو المؤسسات الدينية؛ لذلك نراه يقف من الدين عند الجوهر وبما يتصل بالنضال وحياة الناس ذلك أن الدين يهدف من وجهة نظره إلى رفع الظلم وإشاعة العدل ويقول (لا دين مع الفساد والظلم) لذلك كان وهو يرفض العلمانية بالمفاهيم الغربية حيث أخذها البعض بمفهوم التحرر من الدين وإهمال كل ما له علاقة بالدين والتراث أو بتر لأي شيء في قوميتنا وتاريخنا فإنه يدعو إلى إعمال الفكر في تفسيراته للوقائع والمستجدات من الأحداث بعين الحاضر وينظر إلى الماضي ذاته ولكن بعين الحاضر ولكي يجره إليه ويبعث فيه الحيوية والنشاط فيما ينظر رجال الدين إلى تلك الوقائع ويجدُّ في تفسيره لها بعين الماضي ويسعى في إيجاد الحلول لها تأسيساً على التراث العتيق.
ووجه الاختلاف هنا عند الأستاذ: أن هناك ظروفاً موضوعية للأمة العربية تفرض الثورة والتحدي في المواجهة المصيرية مع الاستعمار الغربي والحضارة العربية وتحديات الفكر الشيوعي آنذاك.
– ويقول الدكتور محمد عابد الجابري:-
كان موقف الأستاذ ميشيل من الدين واضحاً ومتكاملاً عبر عنه بقوله:-
(إن الروح هي الأصل في كل شيء، وأن الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب وإنما يخلقها أيضا).
وقد أورد الدكتور الجابري أنه انطلاقاً من هذا المبدأ يعلن بوضوح أن حزب البعث يطرح جانباً ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض السطحيين مؤكداً (إن موضوع الدين هو موضوع جدي… ولكن يجب أن نفرق بين الدين في حقيقته ومرماه وبين الدين كما يتجسد أو يظهر في مفاهيم تقاليد وعادات ومصالح في ظرف ومكان معينين)
إلى أن يصل إلى القول:-
(لا دين مع الفساد والظلم والاستغلال لان الدين الحقيقي هو دوماً مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد… إن الدين وجد ليشجع الإخاء ويحمي الضعيف ولكنه أصبح بممثليه سياجاً لكل المساوئ ومنها الظلم والفساد والإلحاد …)
هذا الموقف العام من الدين لأستاذ البعث الذي يرفض في آن واحد الإلحاد واستغلال الرجعية للدين، وينظر بالمقابل إلى الدين على انه يقع في صميم القضية العربية هو موقف بعثي ثابت متعدد ومتكامل الأبعاد. ومن جهة أخرى نرى موقفه من الأيديولوجيات الدينية القائمة يتصف بالسلبية لأنها لا تؤدي (الغرض القومي) ولا توصل إلى نتيجة ايجابية حسب تصوره، كما يرى ضرورة معالجة التخلف ليس بالنظر إلى الماضي نظرة جمود فيقول إن الأمانة للماضي هي في الاختلاف عنه وبمقدار ما نختلف مع الماضي نكون أوفياء وأمناء له أي ان نأخذ منه الروح والجوهر من اجل تجديد الحياة وهو يرى أن الدين خالد ولكن قد يطرأ ما يشوهه لذا يجب التجديد فيه وليس التقليد.
ثانياً: العروبة والإسلام:-
عالج الكثيرون من المفكرين العرب والرواد منهم مسألة الترابط بين العروبة والإسلام التي كانت قد برزت في إطار غير دقيق خلال الفترة التي سعى فيها الغرب الاستعماري لتمزيق الدولة العثمانية التي كان الوطن العربي يخضع في معظمه لها، وكانوا ومنهم الأساتذة ساطع الحصري وزكي الارسوزي وعبر الرحمن الكواكبي في معالجتهم لتلك المسألة يتعرضون لضرورة الإجابة على السؤال (من نحن؟) وهكذا كان مفهوم (بعث الإسلام) و(بعث العروبة) متكاملين لدى أولئك الرواد ولم يكن في تاريخ العرب الحديث حتى أواخر العشرينات ثمة ما يشير إلى وجود تناقض بين مفهومي (بعث الإسلام) و (بعث العروبة) حتى أن مرشد الإخوان المسلمين في مصر حسن البنا نفسه كما ذكر ذلك الدكتور الياس فرح كان يعتبر الطريق للوحدة الإسلامية هو الطريق إلى الوحدة العربية ولم يكن يجد تعارضاً بين (الدائرة الإسلامية العربية) و(الدائرة الوطنية الإسلامية) لكن بعض ردود الفعل السلفية على المفاهيم والنظريات الغربية خلال ثلاثينات القرن الماضي أدت إلى التركيز على الايدولوجية الدينية و(الطابع العالمي للإسلام) وأن شريعة الإسلام وحدها صالحة لكل زمان ومكان وأن (الإسلام دين ودولة) واشتمل التركيز بكل أسف على القول بأن (القومية) تتعارض مع (الإسلام) بطابعه العالمي.
وفي فترة المد القومي العربي في الخمسينيات الماضية ظهرت مفاهيم مغلوطة أساسها [ الاستقلال الكامل في العلاقة بين العروبة والإسلام ] الأمر الذي اضعف جوهر العلاقة بينهما.
– وهنا نجد أستاذنا المرحوم ميشيل عفلق وبعبقريته الفكرية يتصدى لتلك المفاهيم ويشرع باقتدار ذو اثر كبير بإعادة صياغتها بمفهوم عصري يوضح مسألة الترابط بين العروبة والإسلام اثبت قدرته على وضع المسألة في سياقها المنطقي القومي الصحيح ويصر في كل مراحل حياته على القول (إن القوى الصهيونية أو الاستعمارية والرجعية والشعوبية تبدأ بتخريب العلاقة بين العروبة والإسلام) ومنذ بداية منتصف الأربعينات الماضية حيث الدعوة لتطبيق المنهج العلمي الجدلي التاريخي على العلاقة بين القومية العربية والدين تلازمها دعوة إلى نقل هذه العلاقة من صيغ البحث النظري المجرد إلى صيغة البحث الميداني المباشر فيقول في هذا الصدد:-
(أن القومية العربية عبرت عن نفسها في التاريخ من خلال العروبة والإسلام) ويضيف:-
(لنهجر اللفظ قليلاً ولنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة فنستبدل بالقومية – العروبة – وبالدين – الإسلام – تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد) إلى أن يكرر أستاذنا في محاضرة ألقاها في مدرسة الإعداد الحزبي في بغداد عام 1976 بعنوان (أصالة الأمة قوة نضالية متجددة) فيقول:-
(إن الإسلام هو تاريخنا، وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا إلى الكون وأشياء كثيرة يصعب حصرها وتعدادها، فما الذي يضطرنا لكي نكون قوميين سليمي الانتماء أن نطرح كل هذا من حياتنا ونضعه على الهامش؟ فإذا نحن ذهبنا بكل بساطة وصراحة إلى واقعنا الحي فإنه العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام… إن البعث وضع الأمور في نصابها عندما نظر إلى الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، على انه يدخل في صلب القومية العربية ….)
وهكذا كشف أستاذنا المرحوم ميشيل عفلق للبعثيين وللكافة في قراءة أخيرة أن الإسلام ليس مجرد (ديانة) فحسب وإنما هو (ثورة) على الواقع العربي فيقول في حديث نشرته مجلة "آفاق عربية" – عدد نيسان – 1976:-
(إنني شخصياً في بداية تكوين الحزب اكتشفت الإسلام، أقول اكتشفت ولا اعني أنني لم أكن اعرف الإسلام…. اكتشفت الإسلام كثورة، كتجربة ثورية هائلة وقرأته قراءة جديدة من هذا المنظار في انه عقيدة ونضال في سبيلها وقضية هي قضية أمة وقضية إنسانية…)
وفي الكتابات السياسية الكاملة له يقول بأسلوبه الفلسفي على الصفحات (148-149) من الجزء الأول:-
(قوميتنا كائن متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها أو فصل بين أعضائها يهددها بالقتل… فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذاً كعلاقة أي دين بأي قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصون على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم…)
ولقد ميز أستاذنا بين (إسلام الإسلاميين) و(إسلام القوميين الخاص) الذين دعاهم إلى ان يبعثوا في الإسلام معنى خاصاً هو أن يكون إسلاما قومياً باعثاً للحوافز النضالية والثورية كما لا يميز قائدنا المؤسس بين الوطنية والعروبة ففي كلمة له منشورة في الجزء الثالث من كتاباته السياسية الكاملة نراه يقول:-
(الوطنية هي العروبة بعينها والعروبة … هي الإسلام في جوهره)
ويرى أن جوهر الإسلام إنساني عالمي:-
(والإسلام دين هداية للعالمين كان العرب أول من حمل مسؤولية نشره… وإذا ما كان الإسلام عربياً فهذا لا يتعارض مع إنسانيته وعالميته ومصدره السماوي)
ويقول:-
(يكفي الإسلام فضلاً على الأمة العربية انه منعها من الجنوح نحو الإلحاد لأنه يدخل في نسيج شخصيتها وتاريخها). إلى أن يخلص إلى القول:-
(لا يفهمنا إلا المؤمنون بالله)
أيها الرفاق… أيها الحضور الكرام…
يطول الحديث عن قضايا القومية والدين والعروبة والإسلام وغيرها في فكر أستاذنا … أستاذ البعث وفيلسوفه ولن تتسع ندوة كهذه أو ندوات عديدة غيرها إلى إشفاء غليلنا في بحث الجوانب الفسيحة من فكره لكني وجدت ضرورة في نهاية ورقتي هذه إلى مسألة هي موضع تساؤل دائم وهي إشهار إسلامه – يرحمه الله – وهنا اكتفي ودون تعليق بأن أورد جواباً للدكتور والباحث القومي محمد المسعود الشابي على سؤال من أحد الصحفيين نشر في كتابه (عروبة وإسلام – المنشور عام 1990) حيث كان سؤال الصحفي (هل فاجأك الإعلان عن إسلام ميشيل عفلق؟)
فجاء جواب الدكتور الشابي بما يلي:-
(رغم أني لا أعرف الصيغة التي ذكرها قبل أن يموت، لم يفاجئني إسلام ميشيل عفلق… فقد وقعت محاورات بيني وبينه في سنة 1964 حول الإله والدين … وكان يستعمل في كتاباته دائماً كلمة – الحق – فقلت هل تقصد بها – الله – فأجاب: ما بالك؟ إلا تؤمن بالله؟ إذن فهو مؤمن…؟ وفي فترة أخرى صرح لي بأنه يعتبر نفسه مسلماً وليس مسيحياً).
من هنا أقول وبصرف النظر عن كل ما يتصل بذلك التساؤل أن الإسلام عند قائدنا المؤسس ثقافة العرب وحضارتهم فالعرب ثقافياً كلهم مسلمون ولا يوجد عربي غير مسلم في حين يوجد مسلم غير عربي فالعروبة هي الأصل، والإسلام هو الفرع، العروبة في النشأة والإسلام في التكوين، العروبة هي الابن والإسلام هو الذرية… لقد كانت الطائفية والشعوبية والقطرية مداخل للاستعمار الغربي الذي يهدف إلى النيل من العروبة قدر النيل من الإسلام سواء بسواء ما دام الكل عوامل تجزئة وتفريق.
لقد استعان مؤسس البعث بالبرهان على حقيقة ما كتبه (في ذكرى الرسول العربي) في العام 1943 وانه الأنموذج التاريخي الذي على العرب ان يتماثلوا ويقتدوا به..
أقول استعان بالبرهان بما كتبه احد رجال الدين الموارنة في لبنان يخاطبهم " بأنهم وجميع المسيحيين في هذا الشرق العربي إذا لم يقبلوا عن طوع وإرادة واقتناع ومحبة بان يكونوا بمعنى من المعاني مسلمين فإنهم لا يكونون أمناء لفكرهم ووطنهم وعروبتهم " فالإسلام يمثل عند الأستاذ عفلق إحدى الحقائق الكبرى في تاريخ الإنسانية وتاريخ العرب.
* ألقيت هذه الكلمة بتاريخ 23-6-2009 في احتفال حزب البعث العربي الاشتراكي الأردني بالذكرى العشرين لرحيل القائد المؤسس