لعل اصدق وصف ينطبق اكثر من غيره على فكر الاستاذ الراحل ميشيل عفلق هو انه فكر شمولي ,فما من قضية الا ونجده ينظر اليها في ارتباطها مع غيرها من القضايا التي تتداخل معها نوعا من التداخل ,و هذه الشمولية في فكره ترجع في نظرنا الى ثلاثة عوامل او لنقل انها كانت ذات ثلاثة ابعاد:
فالرجل كان ,اولا,مؤسس حزب و قائده ,فكان عليه ان يتابع الواقع في تموجه و تنوعه ,في جزئياته و كلياته ,حتى تاتي مواقفه السياسية و الايديولوجية ,متكاملة منسجمة مع بعضها خالية من التناقض ,كما كان عليه ان يرد على الاحزاب الاخرى المنافسة ,مهما اختلفت مشاربها و تباينت مواقفها , من منطلق واحد مبدئي ,و من رؤية واحدة شمولية. و لم يقع الواقع الذي كان يتعامل معه الرجل واقع قطر بمفرده ,بل الواقع العربي بكل عناصر التنوع التي يزخر بها ,واقع اقطار من بينها ما يضم اقليات دينية او اثنية ,ومن بينها ما يهيمن فيها عنصر واحد او دين واحد و مذهب واحد ,هذا علاوة على اختلاف سكان هذه الاقطار على مستوى الوعي و التطور و الحداثة. لقد كان الرجل مؤسس حزب يعمل على ان يكون له وجود فعلي و فعال في الاقطار العربية كافة فكان لابد اذا من نظرة شمولية تستوعب تلوينات الواقع العربي و تموجاته ,من الخليج الى المحيط ,و تستدعي من الاجوبة الاسئلة المطروحة فيها ما لا يتناقض مع الخط العام و التصور المبدئي الذي يتمسك به. و اذا فالنظرة الشمولية هنا تفرضها طبيعة الموضوع ذاته.
و كان الرجل ,ثانيا ,رجل فكر في الاساس ,ذا نظرة فلسفية الى الامور ,و بالتالي فمواقفه كانت مبدئية و ستراتيجية و لم تكن مجرد مواقف تكتيكية. فعلا ,كان تخصصه ايام الدراسة هو التاريخ ,ولكن نظرته الى التاريخ , و التاريخ العربي بخاصة ,كما عبر عنها او كما يمكن ان يستخلص من كتاباته ,لم تكن نظرة المسجل للحوادث في تسلسلها ,الغارق في فرادتها وزمنيتها ,بل كانت نظرته نظرة فيلسوف ,فكان اقرب الى فيلسوف التاريخ منه الى المؤرخ بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. و من هنا الجانب العمودي ,ا و العمق التاريخي ,في فكره الشمولي ,العمق الذي يتكامل مع الامتداد الافقي الذي ابرزناه من قبل. لقد نظر الى الواقع العربي من خلال مكوناته الراهنة ,منفعلا معها و مجيبا على اسئلتها ,و في الوقت نفسه كان يرى هذا الواقع الراهن من خلال ما تحقق في ماضيه من بطولات و امجاد و ما يجب ان يتحقق في مستقبله من نهوض و تقدم ,فالمكان و الزمان في نظرته الشمولية لا ينفصلان بل هما بعدان لرؤية واحدة تحرص على امساك الاجزاء داخل الكل الذي يضمها.
و كان الرجل ,ثالثا, صاحب مذهب , بل صاحب رسالة. كان يؤمن بالوحدة العربية و يعمل لنشر الفكرة القومية ,الفكرة التي ترى في العرب ,من المحيط الى الخليج قوما واحد ,امة واحدة تكونت انطلاقا من البعث المحمدي ,من رسالة الاسلام التي كان يرى فيها رسالة العرب الى العالم اجمع , الرسالة التي ادوها في الماضي و التي عليهم الان ان ينهضوا ليؤدوها من جديد. فـ"البعث" وهو الاسم الذي اختاره للحزب الذي اسسه ,لا يعني مجرد انبعاث في الحاضر منه ,مجرد النهوض ,بل يعني اكثر من ذلك ,بعث النموذج المحمودي الحامل لرسالة العرب ,و ذلك باستلهام بطولات الرسول العربي و تضحياته و الاقتداء بروحه النضالية و سلوكه المثالي. فـ"البعث" في نظره لم يكن مجرد بعث لحاضر من فراغ ولا مجرد اعادة لبعض ما مضى ,على صعيد الذاكرة ,بل انه احياء ما مضى في الحاضر على صعيد الاستلهام و المعاناة من اجل صنع المستقبل الذي يتلائم مع ذلك الماضي و يكون جديرا بان يصبح امتداد له. ذلك هو الخيط الموجه لتفكير الاستاذ ميشيل في معالجته لقضية النهضة و التقدم ,الخيط يقود تفكيره في جميع القضايا التي عالجها مقدمتها قضية" العروبة و الاسلام" موضوع حديثنا.
سيكون علينا اذا ان نعمل على عرض راية في هذه القضية التي تشكل بحق احدى القضايا المركزية في تفكيره ان لم تكن القضية المركزية الاولى ,سيكون علينا ان نعمل على عرض مجمل راية في هذه القضية داخل الشمولية التي يتميز بها تفكيره و التي تحددها الابعاد الثلاثة التي ذكرنا :بعد الواقع ,و بعد الماضي ,و بعد الرسالة التي تربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل . و قضيتنا هنا, قضية العلاقة بين العروبة و الاسلام كما عالجها الاستاذ الراحل تتطلب منا الارتفاع الى شمولية فكره ,اعني النظر اليها من خلال جميع القضايا الفرعية المتصلة بها و التي حرص الاستاذ الراحل على استحضارها و تقديم الجواب المناسب لها في اطار نظريته العامة.
ذلك ان مسالة "العروبة و الاسلام" في فكر الاستاذ ميشيل لم تكن مجرد ثنائية تتالف من زوجين قد يبدو لبعض الناس انهما متنافران او متعارضان ,بل انها ,بالعكس من ذلك تماما ,مسالة العلاقة الصميمة الموحدة بين هذين الزوجين ,العلاقة الموحدة التي تجد فيه الازواج الاخرى ,المفصحة عن بعض مظاهرها ,ما يزيل عنها كل تعارض او تنافر. و بعبارة اخرى ان فهم تصور الاستاذ ميشيل للعلاقة بين العروبة و الاسلام يستلزم استحضار مواقفه من القضايا التي لها علاقة بالعروبة من جهة و بالاسلام من جهة ثانية ,لان هذه المواقف في جملتها هي التي يؤسس موقفه العام من العلاقة المذكورة.
و هكذا سيكون علينا ان نعرج على موقفه من الدين و الالحاد ,من الرجعية الدينية و من الشيوعية ,بصورة عامة ,ثم موقفه من الاسلام و التراث العربي الاسلامي خاصة ,مع التركيز على فهمه للبعث المحمدي و لرسالته , الاسلام ,بصورة اخص. ثم سيكون علينا بعد ذلك ان نعرض لفهمه لفكرة القومية و لتصور للعلاقة بين نفس الوقت لموقفه من مسالة الاقليات ,سواء بالنسبة للقومية العربية او بالنسبة لدين الاغلبية الذي هو الاسلام ,و اخيرا ,وليس اخرا ,سيكون علينا ان نعرج على رايه في العلاقة بين الدين و الدولة مركزين على تصوره المتميز و الاصيل لفكرة العلمانية ومدلولها الخاص في الدولة القومية العربية. ان الالمام بمواقفه المتميزة من هذه القضايا امر ضروري لان العلاقة بين العروبة و الاسلام تقع بالضبط في قلب هذه القضايا جميعا.
لقد قلنا اننا سنعرض ,و لم نقل"سنحلل" ,لان مواقف الاستاذ من هذه القضايا مواقف صريحة و واضحة لا تحتاج الى تاويل ولا الى تعليق. و اذا كان الاستاذ لم يؤلف كتابا ممنهجا في الموضوع و انما شرح اراءه و تصوراته في مقالات و خطب واحاديث و بيانات تمتد على مدى ازيد من خمسين سنة ,فان الباحث لا يجد في جميع هذه السنوات الخمسين ,وفي كل ما كتب خلالها ,ما يشوش على الموقف المبدئي ولا ما يمكن ان يعد تناقضا او تراجعا. ان مهمتنا هنا ستقتصر اذا على بناء تصوره الشمولي للعلاقة بين العروبة و الاسلام من خلال نصوصه نفسها. ان حسن عرض و شرح و تحليل للفكر الواضح الصريح هو تركه يعبر بنفسه ليخاطب القارئ بلغته. لنبدأ اذا بعرض موقفه من القضايا التي تشكل مضمون موقفه العام من القضية المركزية التي تهمنا هنا ,و لينطلق من موقفه من الدين عموما و من الاسلام خصوصا.
كان موقف الاستاذ ميشيل من الدين واضحا و متكاملا ,فهو ينطلق من مبدأ اساسي عبر عنه بقوله :" ان الروح هي الاصل في كل شيء ,و ان الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة و الوسائل فحسب و انما يخلقها ايضا" كما يؤكد ان "الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ اقدم العصور الى اليوم هو شيء اساسي في حياة البشر". و انطلاقا من هذا المبدأ يعلن بوضوح ان حزب البعث "يطرح جانبا ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشبان السطحيين" مؤكد ان "موضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر ,و لكن يجب ان يفرق بين الدين في حقيقته و مرماه و بين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم و تقاليد و عادات و مصالح ,في ظرف و مكان معينين".
و لكن كيف نحدد"الدين في حقيقته و مرماه" كيف نميز بينه و بين المفاهيم و العادات التي تجسد مظهره السطحي ؟ يجيب الاستاذ ميشيل قائلا ؛" لادين مع الفساد و الظلم و الاستثمار( = الاستغلال) , و ان الدين الحقيقي هو دوما مع المظلومين و مع الثائرين على الفساد". ان الدين في تصوره انما وجد" ليشجع المحبة و الاخاء ,ليحمي الضعيف ,و لكن اصبح بممثليه سياجا لكل هذه المساوئ مساوئ الظلم و الفساد و الالحاد. و يحذر الاستاذ من "الفهم السطحي" للدين الذي يقوم على "ان نستنتج بسرعة ,انه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت و ما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد و ليس في صف الثورة على الفساد ,فاذا :الدين من اساسه فاسد لا وجوب له ولا خير فيه ,لذلك يجب التخلص من الدين لانه سلاح بيد الظالمين و المفسدين" ,يرفض الاستاذ هذا النوع من الفهم للدين قائلا :"هذه هي النظرة السطحية و الاستنتاج الخاطئ جدا ,و هذه هي النظرة التي توقفت عندها الشيوعية" التي ترى :انه "ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ الحديث ,حيث تفاقمت الفروق الطبقية و الاستغلال الطبقي ,مادام قد استخدم لابقاء الاستغلال و استمراره و دعمه… لذلك رأت الماركسية ان تنفسه نفسا ". يرفض الاستاذ هذا الموقف رفضا قاطعا ثم يقول "نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية اذ ينبني على ضعف ثقة بالانسان بانه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة" ,و لذلك "فرغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعما للظلم و التاخر و العبودية نثق رغم ذلك بان الانسان يستطيع ان يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين و على هذا النوع من التدين الكاذب و المشوه و ان يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه".
و من هنا كان رفض موقف الشيوعية من الدين يستلزم ايضا رفض موقف الرجعية الدينية ,ذلك ان "الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الاجتماعية معسكرا واحد يدافع عن مصالح واحدة ,و انها اكبر خطر على الدين" و لذلك" فبمقاومتنا للرجعية الدينية بدون اعتدال و بدون مسايرة و بمواقفنا الجريئة المؤمنة منها ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الالحاد" و يقول نحن " لم نتوقف عند هذه النظرة السطحية السلبية…و لكننا تجاوزناها و قلنا : ليس قدرا على الدين ان يبقى متحجرا دوما.
الدين قادرا على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افرادا مؤمنين يعيدون الى الدين صفاءه الاول. الدين شيء اساسي و سيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة". هذا من جهة و من جهة اخرى :"نحن لا نرضى عن الالحاد ولا نشجع الالحاد , و نعتبره موقفا زائفا في الحياة..اذ الحياة معناها الايمان…و لكننا ننظر الى الالحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف اسبابها لتداوى" و اسبابها هي الظلم و الفساد الاجتماعي ,و لذلك يستشهد الاستاذ ميشيل عفلق بقول الرسول العربي" كاد الفقر ان يكون كفرا" و يرى ان معناه هو" ان الاوضاع الفاسدة تخرج الانسان من دينه".
و هكذا فعلى اساس هذا الفهم لمسالة الدين يؤكد فيلسوف البعث العربي" ان الدين تعبير صادق عن انسانية الانسان ,و انه يمكن ان يتطور و يتبدل في اشكاله ,و ان يتقدم او يتاخر ,و لكنه لا يمكن ان يزول" ,و لذلك نجده يؤكد ان "الدين في صميم القضية العربية و المواطن العربي الذي نعمل لتكوينه ". لانه ,اعني الدين يؤسس الماضي و يخص الحاضر و المستقبل معا ,كما سنرى.
هذا الموقف العام و الايجابي من الدين ,الذي يرفض في آن واحد الالحاد و استغلال الرجعية للدين ,و ينظر بالمقابل الى الدين بوصفه يقع في صميم القضية العربية ,هذا الموقف المتعدد الابعاد و المتكامل يكتسي معنى مشخصا عندما يتحدث الاستاذ ميشيل عن الاسلام ليس فقط كعقيدة ,بل ايضا كرسالة ,كانقلاب و ثورة. و هنا نلتقي مع نوع من فلسفة التاريخ العربي عند الاستاذ ميشيل تميز في هذا االتاريخ بين حال الجاهلية و حال البعثة و صدر الاسلام ثم ما تلا ذلك من تراجع و انحطاط ,ليربط ذلك كله بالايمان الراسخ بامكانية ,بل بوجوب البعث من جديد. يقول :" لقد افصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية". لقد كانت الجاهلية تتميز بـ" طغيلن المجموع (=القبيلة) على الفرد ,فالقيم تستمد من هذا المجموع و الفرد متقيد بها. و الجاهلية تمثل ايضا تجاهلا للقدر(= رسالة المستقبل) كانه لم يكن بينها و بينه اية صلة او أي تعارف واضح على الاقل. و الجاهلي في شعره و تفكيره و سلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان ,لا يتصل بالماضي ولا يتعرف على المستفبل او يتوقع منه شيئا. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر ,انها مسرح نشاطه و بطولته ولا يمكن ان نتصور بطلا جاهليا بدون جمع يشاهدون بطولته و يصفقون له…ثم يظهر الاسلام فيحدث انقلابا في حياة العرب و في انفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع كما ان الفرد ليس هو الذي يفرضها ,انها تصدر من مكان هو فوق المجموع و الفرد معا ,و في هذا ضمان لحرية الفرد و انسجامه مع المجموع في آن واحد. اما صدر الاسلام فانه من ناحية اخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد ان كانت متجاهلة له فيصبح ارادة القدر هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان ,و يصبح العالم كله ,لا بل الكون كله و كل ما هو منظور و غير منظور مسرحا لنشاطه و لتطبيق هده القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة العربية". و هكذا" فالحاضر الذي كان النقطة الوحيدة التي يتمسك بها الجاهلي و ينقذ بها نفسه من النسيان و العدم اصبحت في نظر العربي الجديد المسلم هي القيمة المظلمة وحدها ,و كل ما عداها مضيء لانها هي مكان التجربة و الامتحان و الهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد و التقوى".
غير ان "هذه الفترة التي انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الاسلام ,من حياة سجينة في قيم المجموع و تقاليده الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية و المساواة بين الافراد كانت قصيرة جدا لم يلبث العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغربية المختلفة. و منذ ان فقدوا ,بعد سنوات معدودة ,شعورهم بوحدتهم القومية و غرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب عادوا الى عصبيتهم الجاهلية و الى صراع القبائل و تنافسها…و لقد تلت هذا عصور الضعف و تبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي".
و يستخلص الاستاذ ميشيل من هذا العرض الفلسفي لتاريخ العرب النتيجة التالية يقول:" و في حياتنا القومية حادث خطير هو حادث ظهور الاسلام ,حادث قومي و انساني و عالمي..فيه عظة بالغة ,فيه تجربة هائلة ", لا بل نموذج يجب ان يستلهم و يحتذى :" ان الاسلام عند ظهوره هو حركة ثورية ثائرة على اشياء كانت موجودة: معتقدات و تقاليد..و مصالح". لقد كان حركة "نادى بها فرد واحد في البدء وآمن بدعوته افراد قلائل ,واحد بعد الاخر ,وافراد اكثرهم ضعفاء بالنسبة الى مجتمعهم و انهم جاهروا بهذه الدعوة وتحلملوا الاذى و الضعف ". و ينتقل الاستاذ بهذا النموذج من الماضي الى الحاضر فيتساءل:" فلو تخيلنا ان المسلمين الاولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ و ذقوا كل مرارته و اجتازوا امتحانه و دفعوا ضريبته ..هذه الفئة او بعض افرادها لو جاءوا اليوم و هبطوا على حياتنا العربية الحاضرة…اي وسط يستطيبونه و يهدأون اليه و يشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي ,وسط الاغنياء و الوجهاء و المستثمرين للشعب؟". و يجيب "انا اعتقد بان المسلمين الاولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين و المستعبدين ,الا في السجون مع المناضلين ,فاصحاب دعوة الحق هم دائما الى جانب الحق".
و اذا فظهور الاسلام و تجربة المسلمين الاوائل لم يكونا ,في نظر فيلسوف البعث العربي ,مجرد حادث تاريخي مضى ,بل انه يرى فيهما مرجعية للثوري العربي المعاصر ,لا بل مرجعية للثوري العربي في أي زمان و مكان. ذلك ما عبر عنه بجلاء في محاضرته الشهيرة بمناسبة "ذكرى الرسول" حيث قال :" ان حركة الاسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة للعرب حادثا تاريخيا فحسب ,تفسر بالزمان و المكان و بالاسباب و النتائج ,بل انها لعمقها و عنفها و اتساعها ترتبط ارتباطا مباشرا بحياة العرب المطلقة ,أي انها صورة صادقة و رمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية و ممكناتها الغنية و اتجاهها الاصيل ,فيصبح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوما في روحها ,لا في شكلها و حروفها فالاسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الامة العربية فتجيش بالحياة الحارة ,جارفة سدود التقليد و قيود الاصطلاح ,مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة ,و ياخذها العجب و الحماسة فتنشىء تعبر عن اعجابها و حماستها بالفاظ جديدة و اعمال مجيدة..فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الاخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم و ينتقمون على انفسهم في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا…و كل ما اثمر الاسلام فيها فيما بعد من فتوح و حضارات , انما كان في حالة البذور في السنوات العشرين الاولى من البعثة. فقبل ان يفتح العرب الارض فتحوا انفسهم… هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يذكر للعبرة و الفخر ,بل هي استعداد دائم في الامة العربية- اذا فهم الاسلام على حقيقته- لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح و المظهر على الجوهر" و يواصل الاستاذ ميشيل تحليله قائلا :"حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج ,كصورة رائعة وجدت لنعجب بها و نقدسها ,فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل لنحياها..كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي و لو بنسبة الحصاة الى الجبل و القطرة الى البحر.. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد امته كلها , و اليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلا لحياة رجلها العظيم..كان محمد كل العرب ,فليكن كل العرب اليوم محمدا".
واضح اذا ,ان فكرا يقدر الدين حقه ,سواء على صعيد الحياة الروحية للافراد ام على صعيد الحياة الاجتماعية ,فكرا يرى في الاسلام بعثا عربية الى العرب انفسهم اولا ثم الى العالم اجمع ,لا يمكن ان يتصور العروبة و القومية تصورا يغيب فيه الاسلام. كلا ,ان العروبة في نظر الاستاذ ميشيل هي بدون الاسلام مفهوم سلبي و بدونه تبقى القومية العربية قالبا اجوب فارغا. انه لا يفهم العروبة ولا القومية على انهما مجرد قضيتين من قضايا الحاضر و حسب ,بل ينظر اليهما في امتدادهما التاريخي :فالعروبة وعاء يملؤه التراث القومي الذي يشكل فيه البعث المحمدي المرجعية و المنطلق. و هذا ما يميز القومية لدى العرب عن القومية لدى الاوربيين , و هذا ما يجعل اوروبا تخاف من الاسلام ,لان الفهم الصحيح للاسلام ,الفهم القومي له يجعله القوة المحركة للعرب من اجل التحرر و الانعتاق. يقول فيلسوف البعث العربي :" ان اوروبا اليوم ,كما كانت في الماضي ,تخاف على نفسها من الاسلام ,و لكنها تعلم الآن ان قوة الاسلام( التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت و ظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية".
و انطلاقا من هذا الفهم الاصيل للقومية العربية بوصفها التعبير المعاصر عن ثورة الاسلام يميز الاستاذ ميشيل بين الفكرة القومية في الغرب و الفكرة القومية العربية فيرى ان القومية في الغرب عندما قررت الانفصال عن الدين كانت محقة و منطقية لان الدين "دخل على اوروبا من الخارج فهو اجنبي عن طبيعتها و تاريخها ,و هو خلاصة العقيدة الاخروية و الاخلاق ,لم ينزل بلغاتهم القومية ولا افصح عن حاجات بيئتهم ولا امتزج بتاريخهم". اما بالنسبة للفكرة القومية العربية فالامر يختلف :ذلك" ان الاسلام بالنسبة للعرب ليس عقيدة اخروية فحسب ,ولا هو اخلاق مجردة ,بل هو اجاى مفصح عن شعورهم الكوني و نظرتهم الى الحياة و اقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور و الفكر ,و التامل بالعمل ,و النفس بالقدر ,و هو فوق ذلك كله اروع صورة للغتهم و آدابهم واضخم قطعة من تاريخهم القومي ,فلا نستطيع ان نتغنى ببطل من ابطالنا الخالدين بصفته عربيا و نهمله او ننفر منه بصفته مسلما".
هذا التحديد الواضح و المتميز لعلاقة العروبة و الاسلام ,و الذي يجعل الاسلام هو المضمون الحي للعروبة ,يطرح مسالة العلاقة التي يمكن بل يجب ان تكون للمسيحيين العرب بالاسلام. و فيلسوف البعث العربي واضح في هذه النقطة كل الوضوح. يقول :" قوميتنا كائن حي متشابك الاعضاء ,و كل تشريح لجسمها و فصل بين اعضائها يهددها بالقتل. فعلاقة الاسلام العروبة ليست اذا كعلاقة أي دين باية قومية. و سوف يعرف المسيحيون العرب ,عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة و يسترجعون طبعهم الاصيل ,ان الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها و يحبوها فيحرصون على الاسلام حرصهم على اثمن شيء في عروبتهم". ان عليهم ان يعرفوا هم و غيرهم من العرب المسلمين انه :" ما الاسلام الا وليد الالام ,آلام العروبة , و ان هذه الالام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة و العمق لم يعرفها عرب الجاهلية ,فما احراها بان تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الاسلام لواءها. و ليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع ان يضطلع بها و يقدر ضرورتها ,لان آلام الحاضر قد هيأته لحمل لواء هذه الثورة ,وحبه لارضه و تاريخه قد هداه لمعرفة روحها و اتجاهها".
الاسلام هو المضمون الحي و الثوري للقومية العربية ,هو التراث القومي للعرب جميعا ,مسلمين و غير مسلمين ,و اذا كان الامر كذلك فما القول في كون الاسلام دعوة الى الناس كافة ,الى جميع الشعوب؟ ان هذا الفهم القومي العروبي للاسلام لا يتنافى ,في فكر فيلسوف البعث ,مع عالميته و انسانيته ,ذلك ان " كل امة عظيمة عميقة الاتصال بمعاني الكون الازلية تنزع في اصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. و الاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود و الشمول ,فهو اذا في واقعه عربي و في مراميه المثالية انساني ,فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية". و هذا الطابع الانساني العالمي للاسلام ,روح القومية العربية ,هو ما يشكل خصوصية هذه القومية :" ان العرب ينفردون دون سائر الامم بهذه الخاصة :ان يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية ,او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية ,فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا حكموا البلاد استنادا الى حاجة اقتصادية مجردة ,او ذريعة عنصرية ,او شهوة للسيطرة و الاستعباد…بل ليؤدوا واجبا دينيا كله حق و هداية و رحمة و عدل و بذل". و هكذا فـ"ما دام الارتباط وثيقا بين العروبة و الاسلام وما دمنا نرى في العروبة جسما روحه الاسلام فلا مجال اذا للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم ,انها لن تبلغ عصيبة البغي و الاستعمار".
الاسلام روح القومية العربية ,و الاسلام دين عالمي وانساني تؤمن به قوميات اخرى ,فكيف يفهم فيلسوف البعث العربي العلاقة بين القومية العربية و الشعوب الاخرى التي يجمعها معها الاسلام؟ يجيب الاستاذ عفلق بطرح المسالة داخل الاسلام لا خارجه. فالقومية العربية ليست معادية للقوميات الاخرى التي يجمعها الاسلام مع العرب ,بل بالعكس ان قوة العرب قوة للمسلمين جميعا ,لا بل لا يمكن تصور اسلام قوي بدون عرب اقوياء ,فالعرب هم الذين عليهم حمل امانة الرسالة " و طبيعي ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا امة قوية ناهضة ,لان الاسلام لا يمكن ان يتمثل الا في الامة العربية ,و في فضائلها و اخلاقها و مواهبها ,فاول واجب تفرضه انسانية الاسلام- أي عالميته- اذا هو ان يكون العرب اقوياء سادة في بلادهم".
العلاقة بين العروبة و الاسلام ,بين القومية العربية و الشعوب الاسلامية غير العربية علاقة تكامل و ليست علاقة تصادم. و كيف يمكن ان يكون ثمة تصادم او تنافر و الحال ان حب العروبة يستوجب حب الاسلام ,و الارتباط العاطفي بالامة العربية يستوجب ارتباطا مماثلا بامة الاسلام. و يعبر الاستاذ ميشيل عن هذه القناعات باسلوبه القوي الواضح الصريح فيقول: "بدافع الحب للامة العربية احببنا الاسلام منذ السن اليافعة ,و بعد ان اقتربنا اكثر من فهم الاسلام اضحى حبنا لامتنا يتخلص في حبنا للاسلام ,و في كون الامة العربية هي امة الاسلام". ثم يضيف قائلا :"و كان شيئا طبيعيا ان ياخذ هذا الوعي ,و هذه العاطفة كل ابعادهما فندرك ما تمثله الشعوب الاسلامية من عمق و سند للامة العربية و نشعر نحوها بعاطفة القربى" ثم يؤكد ذلك قائلا" ان ثمة حقيقة كبرى لا يتجاهلها الا المكابرون وذوو الاغراض و هي ان علاقة الامة العربية بالاسلام علاقة خاصة حيوية و مصيرية لها و للاسلام ,فلا يمكن ان يفهم الاسلام شعب مثلما يفهمه الشعب العربي ,ولا يمكن ان يشعر احد نحو الاسلام بمثل الرابطة و المسؤولية اللتين يشعر بهما العرب نحوه". و يوضح الاستاذ ميشيل مضمون هذه الرابطة بالقول ان علاقة غير العرب بالاسلام هي كعلاقة العرب بالقضية الفلسطينية ,اما علاقة العرب بالاسلام فهي كعلاقة الفلسطينيين بوطنهم فلسطين. تقول :"ان فلسطين قضية العرب جميعا , و لكنها بالنسبة الى الفلسطينيين اكثر من ذلك :انها وطن. و الاسلام بهذا المعنى هو وطن الامة العربية الروحي و المادي بكل ما تحمله كلمة وطن من معاني حب الارض و الاهل و حب اللغة و التاريخ ". و يلخص فيلسوف البعث العربي رأيه في الموضوع قائلا "و لئن كان عجبي شديدا للمسلم الذي لا يجب العرب فعجبي اشد للعربي الذي لا يجب الاسلام".
و مع ذلك فان هناك حقيقة لا يمكن انكارها و هي ان " العصر عصر القوميات و الدول القومية" و بالتالي فـ" لئن كان مفهومنا – يقول الاستاذ- للقومية ينكر التعصب العنصري و يلح على الجانب الانساني الذي اكسبه الاسلام للعروبة و يحرص على خصوصية العلاقة بين العرب و الشعوب الاسلامية الاخرى ,فان هذا المفهوم يحول دون ذوبان الامة العربية في شخصية غيرها و تنازاها عن سيادتها و استقلالها لاحد تحت اية ذريعة كانت و باسم أي شعار او مبدأ". و في هذا الاطار يؤكد فيلسوف البعث العربي انه في الوقت الذي يقدر فيه كامل التقدير" ما تمثله الشعوب الاسلامية من عمق و سند للامة العربية" وما يربطها معها من عواطف القربى فانه لا بد من الحرص في الوقت نفسه على " الاحتفاظ بالوضوح التام في الفكر و ببعض الحقائق الاساسية و هي ان للامة العربية شخصيتها القومية الحضارية المتميزة و حدود ارضها الواضحة و ان اشتراكها في العقيدة الدينية مع غيرها من الشعوب لا يجوز ان يجر الى طمس هذه الشخصية و العدوان على هذه الارض". ان في ذلك ضررت ,ليس للعرب و حسب ,بل و للاسلام ايضا ,فـ"تجارب التاريخ دلت على ان غياب معالم الشخصية العربية القومية و فقدان العرب لسيادتهم لم يكونا لصالح الامة العربية ولا في صالح الاسلام".
ليس هذا و حسب بل ان التاريخ يدلنا على انه لا يمكن ان ينوب احد عن العربفي حمل رسالة الاسلام ,فالاسلام عربي و القرآن عربي ,و بما ان القومية العربية روحها الاسلام فهي حاملة رسالة الاسلام الانسانية الكونية و بالتالي فهي لايمكن ان تكون قومية ضيقة متعصبة ,لا يمكن ان ترضخ لغيرها ولا ان تكون تابعة لهم. يقول الاستاذ ميشيل :" ان الامة التي ظهرت فيها رسالة بحجم رسالة الاسلام ترفض الخنوع و ترفض التبعية الفكرية و الحضارية. ان لها طريقها الخاص.. الامة التي حملت الى العالم رسالة الاسلام لا يمكن ان تكون قوميتها سلبية تعصبية عدوانية ,فقوميتها هي في اساسها اخلاقية انسانية تحمل مبادىء العدل و المساواة". ثم يضيف قائلا :" مستوى الامة العربية هو مستوى الامم التي لها رسالات انسانية ,و انبعاث القومية العربية في هذا العصر يحمل معه بذور رسالة انسانية الى العالم. و لقد حدد التراث لهذا الانبعاث مستواه منذ البداية ,فهو على مستوى الدور الرسالي في عمقه و صدقه و شموله. و هذا المستوى يكون حافزا و ملهما ,كما يكون مراقبا صارما. فالامة العربية مطالبة بان تنهض… التاريخ يدعوها ,و العالم الحاضر يطالبها بان ينهض لتؤدي دورها الاساسي الضروري :تصحيح سير البشرية و تقدمه".
تلك كانت نظرة الاستاذ ميشيل الى موقع الاسلام داخل القومية العربية ,و القومية العربية حاملة رسالته الثورية الانسانية. و لكن العلاقة بين العروبة و الاسلام لا تتحدد فقط بموقع آخر ,مستوى الدولة القومية ,حيث تتخذ تلك العلاقة بين الدين و الدولة و تطرح بالتالي مسالة العلمانية. و فيما يلي وجهة نظر فيلسوف البعث في هذه المسالة.
يحدد الاستاذ ميشيل هوية الدولة القومية العربية بالقول :"ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيج لجميع المواطنين ان يعملوا متعاونين على تحقيق امكانيات الامة العربية في مجال الروح و المادة ,و ذلك بتحقيق امكانيات كل فرد من افرادها دونما عائق مصطنع. فالدولة اذا تقوم على اساس اجتماعي هو القومية و اساس اخلاقي هو الحرية" فهي اذا دولة عربية تضمن لجميع افراد الامة العربية حرية المعتقد ,و هي ليست هدفا في ذاتها ,بل يجب ان "نرى فيها مجالا لبعث الامة و بعث قوى افرادها و تصحيح القيم و ازالة الكذب و الزيف و الضغط من حياة المجتمع ,و دفع هذا المجتمع في طريق ايجابية مبدعة لاداء رسالة الامة الى الانسانية", و بالتالي فالدولة التي يعمل البعث لها هي" نقيض الالحاد و الفساد و كل ما هو سلبي و هدام" بما في شعار" العلمانية" كما روج له في الغرب ,و كما روج له بعض الفئات العربية المستوردة له. و هكذا فاذا كان البعث ينادي بنوع من العلمانية فان ذلك ليس ضدا على الدين ابدا. ان علمانية الدولة كما يفهمها فيلسوف البعث العربي "ليست الا امعانا في الحرص على اتجاهها الروحي و الاخلاقي ,لانها ليست الا انقاذ للروح من شوائب الضغط و القسر ووضع العراقيل المصطنعة امام يقظة الروح و استقلال الخلق و انطلاق النشاط في نفس كل عربي". و يضيف الاستاذ ميشيل قائلا :"وما دام الدين من ظروف السياسية و ملابساتها ,تسمح له بان ينطلق في مجاله الحر في حياة الافراد و المجتمع و بان تبعث فيه روحه العميقة الاصيلة التي هي شرط من شروط بعث الامة".
و يعود الاستاذ ميشيل الى شرح موقف البعث العربي من العلمانية بتفصيل فيميز بين" اتجاهات قومية تقول بالعلمانية و تعتبر ان القومي العربي هو الذي يتجرد من معتقداته الدينية و يلتقي مع اخيه العربي على صعيد القومية العربية الحقوقية و الرابطة الوطنية" و هو اتجاه يقول عنه فيلسوف البعث العربي انه من تاثير المستعمر الاجنبي ان لم يكن هو الدافع له :" ان المستعمر الاجنبي الغربي الذي كان يحتل اقطارنا لم يكن يخفي ارتياحه لهذه العلمانية ,بل كان يشخصها لان ذلك كان يؤدي الى افقار قوميتها من دمها و من نسغ الحياة فيها ,من اصالتها ,من روحها" ان العلمانية بهذا المعنى تعزل القومية العربية عن تاريخها و حاضرها و مستقبلها , و تفرقها من الاسلام الذي" هو تاريخنا و هو بطولاتنا و هو لغتنا و فلسفتنا و نظرتنا الى الكون و الى اشياء كثيرة يصعب حصرها و تعدادها" ,و بالتالي تضع القومية العربية في خصام مع هويتها ,و مع حاضرنا و" واقعنا الحي" الذي هو "العلاقة العضوية بين العروبة و الاسلام".
و اذا كان الامر كذلك فما هو مضمون العلمانية التي يقول بها " البعث" ؟ يجيب الاستاذ ميشيل قائلا :" العلمانية بمعنى ان الدستور و القوانين لا تميز مذهبا على آخر في القبول للوضائف او في كذا وكذا ,هذه امور بسيطة ونسلم بها ,و نحن نمشي في هذا العصر ولا نجادل في ذلك ,اذا كانت المسالة مسالة نصوص دستورية و قانونية. و لكن البعث وضع الامور في نصابها عندما وضع الاسلام كثورة اخلاقية و فكرية و اجتماعية حاسمة في تاريخ البشر ,وضعها في صلب القومية العربية" ثم يضيف قائلا :"بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم ,هذا اذا كان العربي صادق العروبة و اذا كان متجردا من الاهواء و متجردا من المصالح الذاتية". و يؤكد المعنى نفسه حينما يقول :" العروبة تعني الاسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تصعب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي".
هذا الربط بين العلمانية و القومية من جهة و بين القومية و الاسلام من جهة اخرى يسد الباب امام التصور العلماني للوطنية و امام أي تصور وطني ضيق للعلمانية التصور الذي يؤدي في كلتا الحالتين الى "تشويه و خنق لانطلاقة الامة على المستوى الحضاري و الانساني" من ناحيتين :فمن ناحية اولى :ان هذا التصور "بحجة التقاء جميع فئات و طوائف الشعب على صعيد الوطنية يطلب من الاكثرية الساحقة من الجماهير العربية- وهي مسلمة- ان تنسى او تغفل التراث القومي او على الاقل ان لا يكون لقاؤها به لقاء صريحا مطلوبا و حارا وانما لقاء له طابع الشيء الخاص ,الفئوي ,المتهم بالتعصب بدلا من ان يكون الغذاء الروحي و الفكري و النضالي للامة كلها". و من ناحية اخرى يؤدي هذا التصور العلماني للوطنية الى" حرمان الطوائف الاخرى من غير المسلمين من التراث العربي الذي هو تراثها و بالتالي ابعادها عن تحقيق شخصيتها الكاملة و تركها فريسة للايدي و التوجهات الاجنبية و لشتى التيارات التي تسلب جزءا من شخصيتها و تترك الفجوة بينها و بين القسم الآخر و الاكبر من بني قومها و شعبها لتتسع مع الزمن ,لتصل احيانا الى التناقض" و هذا المفهوم الشوه للعلمانية الذي يعزل الامة من تراثها و تاريخها كان يروج له الاستعماريون وادواتهم "و يريدون من ورائه ليس لقاء الجميع على الصعيد الوطنية ,كما كان الادعاء ,بل نسيان الامة لتراثها ,يقابل هذا النسيان ترويج و تعميم للثقافة الغربية و الحضارة الغربية ,أي انه كان هناك عملية احتيال".
هذا الفهم القومي للعلمانية و الاسلامي للقومية ينجم عنه بطبيعة الحال رفض كل من التعصب الطائفي و الرجعية الدينية. و الاستاذ ميشيل صريح في هذه المسالة صراحته في المسائل السابقة. انه يرفض موقف "العناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي- التي- تكافح الفكرة القومية بحجة ان العروبة معناها سيادة و سيطرة الاسلام كدين و تشريع و تقاليد و حضارة". هذه الحجة واهية كاذبة بل هي مغرضة ,و يجب "اكتشاف بطلان ما يختبىء وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة من رجال الدين او زعماء بعض الاقليات العنصرية او من اقطاعيين و الاستعمار وراء الجميع". و الجواب الذي يقدمه فيلسوف البعث العربي لهذه المسالة ,مسالة الاقليات ,هو" ان البعث حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف اديانهم و مذاهبهن ,و تقدس حرية الاعتقاد و تنظر الى الاديان نظرة مساواة في التقديس و الاحترام ,و لكنها ترى الى جانب ذلك في الاسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي و القومية العربية و تعتبر هذه الناحية وثيقة الصلة بتراث العرب الروحي و بمميزات عبقريتهم…فالاسلام من حيث هو دين صرف مساو لغيره من الاديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها و تحترم حرية معتقدتهم. و الاسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب و اصطبغت بعبقريتهم واتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية و ثقافتها و حركة انبعاثها. الا ان هذه المكانة لا ترفض فرضا ,بل تولد من الحرية و تستمد من قوة الروح و من مدى اتصال العرب بروحهم و تجاوبهم الحر العميق معها و بهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الاسلام تجدده و ثورته على القيم الاصطلاحية ,تستقي من نبعه فضائل الايمان و المثالية و التجرد من المنافع الشخصية و المغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادىء التي تنقد العرب في هذا العصر من ضعفهم و تفككهم و انخفاض مستواهم الروحي و الاجتماعي".
و كما يرفض فيلسوف البعث العربي النزعة الطائفية و يرى في الاسلام حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب…يرفض بالمقابل الرجعية الدينية التي جعلت التدين يفقد" كل صلة بالروح و الحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي و التي جعلت منه حركة احياء و تجديد و بناء فآل الى حالة من الجمود و المحافظة و الجهل". كما يرفض و للسبب نفسه" الدولة الدينية" :" فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى و تجربة انتهت بالفشل و كلفت البشرية كثيرا من الجهد و من الدماء و من المشاكل ,و حدثت تقريبا في اوقات متقاربة في البلاد الاسلامية و في اوروبا المسيحية. غير ان الدولة التي يسعى البعث لاقامتها لا تعادي الدين ,بل بالعكس هي تعادي ,الالحاد ,كما رأينا :" الالحاد و الفساد و كل ما هو سلبي هدام" كما ترى في الاسلام بالذات روح العروبة "العميقة الاصلية التي هي شرط من شروط بعث الامة".
و اذا "فالبعث العربي الذي هو حركة روحية ايجابية لا يمكن ان تفترق عن الدين او تصطدم معه ,و لكنه يفترق عن الجمود و النفعية و النفاق " انه يفهم علاقة الدين بالدولة على انها "علاقة الامة بماضيها و موقفها من مستقبلها كما انها تعني الاسس الروحية و الحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل.
و هكذا :"فالماضي الذي تحن اليه الامة و تجد فيه ثورة لها و قوة هو الزمن الذي تحققت فيه روحها ,و المستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس الا ذلك المستقبل الذي يستطيع فيه الروح العربية ان تتحقق من جديد ,و لكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب ان يكون رجوعا و هبوطا ,أي ايغالا في الجمود و الشكليات ,يرى التقدميون انه يجب ان يكون سيرا حرا صاعدا… فالروح لا ترجع ولا تهبط و لكننا نحن الذين نتقدم نحوها و نرتقي اليها لنلتقي بها".
تلك كانت ايها السادة جولة سريعة في فكر الاستاذ الراحل ركزن