خالد المعيني
يبدو إن المتغيرات التي تعصف بمنطقتنا العربية لا تقتصر على الجوانب السياسية وتغيير الأنظمة بل تتعداها لتطال منظومة المفاهيم والقيم السائدة, والتي تواكب عمليات التفكيك والتركيب وإعادة الإنتاج التي تشهدها المنطقة وفق أسس جديدة تنسجم في نهاية المطاف مع تبدلات النظام الدولي وتوازنات القوة الإقليمية الجديدة ورسم خارطة جديدة لتقسيم خطوط الصراع والتحكم باتجاهاته .
لقد سبق التغيير الفعلي للبيادق على رقعة الشطرنج العربية حملة تمهيد على مستوى نظريات الصراع والتي دشنها صاموئيل هانتكتون عندما أسدل في كتابه ( صدام الحضارات) الصادر عام 1996 الستار على نمط الصراعات الأيديولوجية التقليدية التي سادت حقبة الحرب الباردة في ظل قطبية ثنائية تحكمت بمقدرات العالم ، ليؤسس فكريا لأنماط جديدة من الصراعات تقوم على خطوط تقسيم عرقية وطائفية تنسجم وقوانين نظام القطبية الأحادية الصلبة الذي يحكم العالم حاليا ، إضافة إلى أفكار فرانسيس فوكاياما حول نهاية التاريخ, ووثائق إسرائيلية حول مخططات لتقسيم المنطقة وتفتيتها.
المشروع الإيراني والدور التركي
هذه الحزمة من النظريات والرؤى والمخططات كانت بمثابة القصف التمهيدي للمباشرة بتفتيت المنطقة تدريجيا والانتقال من مرحلة التخطيط على منضدة الرمل إلى التنفيذ الفعلي في الميدان ، فإزاحة العراق كحجر زاوية وقطب رحى في توازن المنطقة الإقليمي وتماسكها على يد القوة العظمى الأولى في العالم أدى إلى تخلخل في الضغط وحصول دورة جديدة من الاندفاعات الإقليمية غير المسبوقة منذ قرون باتجاه العمق العربي على ضوء تدهور وغياب المشروع العربي الموحد ، تماما كما حصل قبل قرون عندما تناوبت الإمبراطوريتان الفارسية والعثمانية على احتلال الوطن العربي وتمزقت ما بينهما الهوية العربية وتوزعت الولاءات للسلطان العثماني والشاه الفارسي باسم المذهب والطائفة ، اليوم تكاد منطقتنا العربية تتجه إلى مزيد من إلاصطفافات والتشرذم على أساس عرقي وطائفي وتقسيم الدول العربية إلى دويلات وكيانات طائفية وعرقية سوف يدين بعضها بسبب هزالها وضعفها إلى إيران التي تطرح نفسها قائدا وحاميا لطائفة معينة لتكريس مشروعها الاستراتيجي في المنطقة والمتمثل بجعل الخليج العربي بحيرة فارسية تحيط بها شعوب تدين بولاية الفقيه، في حين سينجذب بقية العرب بدواعي مذهبية وتحت ذريعة مواجهة المد والخطر الإيراني باتجاه القطب الإقليمي الثاني في المنطقة وهو النموذج التركي الذي يتطلع إلى استعادة مجاله الحيوي ومجده القديم في المنطقة العربية .
إن كلا النموذجين الإيراني والتركي في ظل انحسار المشروع العربي وبعكس إدعاءاتهما سواء تلك المتعلقة بفلسطين أو التباكي على الإسلام وحقوق الإنسان لأي عدوان سوى مشاريع قومية توسعية تنوي التمدد على حساب الضعف العربي, هذا التفاهم لا يجري بعيدا عن إسرائيل بما يشبه" سايكس – بيكو " جديد لتقاسم تركة الرجل العربي المريض .
العرب من الديكتاتورية إلى الثيوقراطية
تستعد المنطقة العربية لعهد جديد من الأنظمة السياسية يسيطر عليها الإسلام السياسي تمتد من المغرب العربي إلى دول المشرق ، وهي ظاهرة ليست تلقائية أو ولادة طبيعية كما يعتقد البعض بل يكمن خلفها الكثير من العوامل المباشرة وغير المباشرة ، وفي اعتقادنا فإن صعود الإسلام السياسي عبر صناديق الاقتراع وبتوقيت واحد تقريبا على امتداد الرقعة العربية ليس محض مصادفة بالتأكيد ويثير الكثير من الأسئلة وعلامات التعجب التي ينبغي البحث فيها والإجابة عليها.
سهل صعود قوى الإسلام السياسي إلى سدة الحكم تضافر عدة عوامل داخلية وخارجية لعل أهمها على المستوى الداخلي فشل أنظمة الحكم الديكتاتورية في تحقيق أي قدر من الحريات والخدمات ومقومات العيش الكريم لشعوبها وحصول فجوة كبيرة بين هذه الأنظمة المستبدة وبين واقع الشعب الذي يئن تحت وطأة الحرمان والبؤس, وأمام فشل وعجز هذه الأنظمةوأحزابها التقليدية لم يجد الفرد العربي أمامه سوى التعلق بالخيار الديني الذي يمثل في ذاكرته كل مثل الفضيلة والأخلاق وحبل الإنقاذ الذي يحلم به, ولكن هذا لا يعني إن الأحزاب الإسلامية ستكون قادرة أو إن لديها الأهلية والتجربة والاستعداد الكافي لتحقيق هذه الأماني الشعبية ، فتجارب استلام الإسلام السياسي للحكم في المنطقة لا تبشر بتغيير جذري في واقع الناس, فرغم تغيير هذه الأحزاب لجلدها محاولة مسايرة مفاهيم العصر كالديمقراطية والليبرالية وحرية الفرد لإرضاء الغرب وإرسال رسائل طمأنة لهذا الطرف أو ذاك ، إلا إن هذه تبقى مجرد شعارات جذابة خارج الحكم وعندما يتم الدخول إلى حلبة العمل ومصيدة السلطة ستزداد تلك الفجوة تدريجيا بين الشعارات والاطروحات المثالية وبين إشكاليات الواقع .
أما على مستوى العوامل الخارجية التي سهلت صعود الإسلام السياسي فإن الغرب يحاول من خلال القبول بذلك إحلال أنظمة أكثر مقبولية لدى شعوب المنطقة بعد استهلاك الأنظمة الموالية السابقة, أنظمة سياسية جديدة ذات مرجعية فكرية لا تتعارض وفكرة الأقاليم والفيدرالية لانجاز تقسيم وتفتيت المنطقة على أسس عرقية وطائفية الأمر الذي ينسجم مع تطلعات الأقطاب الإقليمية الطامعة وينسجم كليا مع أهداف إسرائيل التي تعد بمثابة المستفيد النهائي من عمليات التقسيم وتدمير الهوية العربية وتحويل المنطقة برمتها إلى كيانات ضعيفة وهزيلة متناحرة .
وإذا كانت الولايات المتحدة قد صنعت ومولت ودربت الإسلام السياسي المتطرف في ثمانينيات القرن الماضي لمواجهة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان ثم حاربته وأسقطته بالضربة القاضية ، فإنها اليوم تعيد الكرة مع نموذج الإسلام السياسي المعتدل الذي ستسقطه بالنقاط من خلال تمكينه من استلام السلطة رغم عدم استعداد معظم هذه الأحزاب الإسلامية لمثل هذه المهمة الصعبة والمعقدة إلا شكليا ، ولم تبلور لغاية الآن رؤيا موضوعية وواقعية للتعامل مع إشكالية السلطة والحكم ، والهدف الغربي والأمريكي واضح جدا ويتمثل في إجهاض أي أمل في المدى القريب أو المتوسط لولادة مشروع عربي – إسلامي حقيقي يستعيد دور الأمة العربية ، ويأتي كل ذلك في سياق صراع الحضارات الذي يشكل الأساس الجديد لتقسيم الصراعات الدولية والتحكم بنتائجها مستقبلا.
العروبة بين التحدي والاستجابة
تكاد معظم أدبيات أحزاب الإسلام السياسي تخلو من أية إشارة للعروبة أو آليات تعشيق الإسلام مع المشروع العربي للوحدة وكيفية النهوض بالأمة العربية – الإسلامية أسوة ببقية الأمم, بل إن مفهوم الأمة الذي يرد في هذه الأدبيات يشير بوضوح إما إلى (الأمة الإسلامية) أو إلى الأمة ( المصرية) الأمر الذي ينذر بتفكيك الأواصر التي تمثلها العروبة كخيمة تجتمع في ظلها جميع الأديان والمذاهب والطوائف في الوطن العربي مما يحفز كثير من الأقليات في ظل اختفاء العروبة كصمام أمان وفي ظل الشحن والدعم الخارجي إلى المطالبة بالانفصال في ظل احتمالات التهميش تحت حكم إسلام سياسي غير مستعد وغير ناضج وقد يكون عندئذ مطلب إسرائيل بإقامة دولة " يهودية " أمرا مقبولا .
إن التجارب القليلة لاستلام قوى الإسلام السياسي للسلطة أو المشاركة بها تعطي إشارات غاية في الخطورة عن مستقبل العروبة والوحدة العربية في ظل هذه القوى ، وتناغم الأخيرة إلى حد كبير سواء بقصد أو بدون قصد مع المشاريع الإقليمية والدولية الساعية لتفتيت الأمة العربية واستهداف هويتها ، فقد جرى بنعومة تقسيم السودان على أساس ديني في ظل استلام الإسلام السياسي للحكم في ظل محاولته فرض تطبيق الشريعة الإسلامية ، كما إن أحزاب الإسلام السياسي في العراق تعاونت مع الاحتلال الأمريكي وصادقت ومررت دستور ألغى هوية العراق العربية في ديباجته وشكل وصفة جاهزة لتقسيم العراق وتفتيته وفق مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية .
صفوة ما سبق، فإنه يمكن القول بأن الثورات العربية قد جاءت لتبعث الأمل من جديد في عروق الشعب العربي وتضرب مثلا حقيقيا على حيوية هذا الشعب وقدرته على الثورة والتغيير، ولكن طبيعة هذه الثورات السريعة والقائمين عليها من شريحة الشباب التي أطاحت بالأنظمة الاستبدادية وأحزابها التقليدية ليست مستعدة بعد لمراحل ما بعد الثورات ، كما لم يصاحب الحراك الشعبي حراكا فكريا وسياسيا منظما يضع حلولا لمشاكل المجتمعات العربية من جهة ويؤسس جسرا لآمال الشباب العربي يتجاوز مجرد تغيير الأنظمة السياسية إلى استثمار الزخم الثوري لتحقيق مشروع نهضوي عربي – إسلامي لبناء الدولة والمجتمع ، لذلك ما إن أنجلى غبار هذه الثورات كانت قوى الإسلام السياسي المستعدة سلفا منذ عقود فهي الجهة الوحيدة المنظمة على الساحة التي تمكنت من جنى ثمار هذه الثورات على الرغم من إنها لم تكن لديها عند انطلاقها أية مساهمة جدية في قدح زنادها .
يبقى السؤال المركزي الذي يطرح نفسه بشدة وهو إلى متى سيبقى الشعب العربي حقلا للتجارب من نوع ( TRIAL & ERROR , ومتى سينتفض وينهض مفكروا هذه الأمة ومثقفيها لاشتقاق معادلة حقيقية قوامها وجسدها العروبة ويكون الإسلام روحها ، تنهض بهذه الأمة لتبعث في الأجيال العربية الأمل وتعزز الثقة بالمستقبل لتقف في مصاف بقية الأمم .
موقع: الجماعة العربية للديمقراطية