الدكتور حسين علي يحيى
تسعى هذه الأطروحة إلى تلمّس بعض وسائل إعادة الاعتبار لما استلب من أصالة مفهوم العروبة الحضاري، بفعل ما تراكم من شطط تجارب أنظمة وأحزاب قامت ممارساتها على مقاربات سياسية لأطروحة العروبة؛ اعتورها الكثير من الأخطاء التاريخية الكارثية التي عصفت بالكثير مما تراكم من منجزات الامة في مراحل سعيها القومي – الوطني عبر عقود من الزمن لإنجاز مشروع نهضتها القومي، وتحررها السياسيً والاجتماعي.
لقد عملت القوى الاستعمارية على امتداد اقطار الوطن العربي على ترسيخ هذه الاعتوارات التي من شانها إبقاء منطقتنا العربية رهن التبعية لمصالح المشروعات الإمبريالية- الصهيونية، ولا تزال.. فيما كرست الكثير من القوى والأحزاب العربية الحاكمة تلك التبعية على حساب شعوبها وفقا لمصالحها، دون أن نغفل انقياد ممارسات العديد من التنظيمات والشخصيات من كتاب ومثقفي المرحلة، وبينهم من يوصفون دعاة للتنوير (…) والنخبوية البائسة، ممن يتلفعون بشعارات القومية والتقدمية والليبرالية، والإسلاموية السياسية، ممن انحدروا إلى درك الانتهازية الفاقعة، التي تفضح زيف ما ادعوه من شعارات؛ فأصبح يصدق عليهم قول الشاعر العربي:
قتلتنا الردة ..
قتلتنا ان الواحد منا يحمل في الداخل ضده!!
تستحضر هذه الأطروحة بالموازاة، تداعيات تأثير مشروع العولمة الغربي، بأبعاده التغريبية السياسية والاجتماعية والقيميّة، في تشويه ملامح الأصالة للوجه الحضاريّ الإنسانيّ للعروبة، باعتبار "العولمة" أحد ابرز ملامح وجه "النيوليبرالية الغربية" القبيح المتمثل في امتداداتها "الكولونيالية الجديدة" المتغولة بفعل قبضتها الناعمة في أرجاء الكرة الأرضية؛ منذ عقود ليكشف عن وجهه الأقبح منذ مطالع الألفية الجديدة، خاصة بعد غزو العراق الشقيق واحتلاله، وتدمير بناه البشرية والمادية؛ ليصبح حقل تجارب المشروع التدميري الامريكي الصهيوني النموذج لما بات يعرف بـ"الفوضى الخلاقة" وحصان طروادة مشروع "الشرق الأوسط" الجديد!!
وفي ضوء ما سبق ستحاول هذه الاطروحة استشراف بعض التجليات الحضاريّة الكونية في استحضار مفهوم العروبة، واستكناها أفق رسالتها الإنسانية في أبعادها الحضارية المعاصرة؛ سعيا إلى ترسّم ملامح الأبعاد الاستراتيجية التي ينفتح على أفقها هذا المفهوم .. وسط واقع عربي معاصر، ينوء بثقل التحديات السياسية والاجتماعية والقيمية؛ الغارقة في ضبابية عُجمة المفاهيم التي تعج برطانة تداوليتها مختلف الأطياف السياسية في جميع أقطار الأمة، وسط محيط إقليمي (شرق أوسطي) باتت الوطنية والعروبة وما يتصل بهما من مفاهيم فرعية من مثل علاقة العروبة بالدِّين، وعلى الخصوص الإسلام، وعلاقة العروبة بالحداثة وغيرها من المفاهيم الملتبسة المدلول، تماما كما هو مفهوم الإرهاب في عرف السياسات النيو ليبرالية الغاشمة .. وسط واقع أريد له، وبحكم تغلغل المنظومات المتحكمة فيه أن يكون رازحًا بالاستتباع إلى المشروع الصهيوني الغربي؛ المتغلغل في مفاصل الكيانات القطرية للأمة، المحاصرة بمطامح جوارها الإقليمي ومصالحه، وفقا لعلاقة محاور الإقليم وتقاطع تبعيّاته للمشروع الكولونيالي المتحكم بفعل العولمة في الهيمنة على مقدرات الامم الواقعة في نطاق الإقليم، ومسخ ثقافات مجتمعاتها، وطمس المعالم الحضارية المميزة لهوياتها المشرقية.
وسط كل هذه التجاذبات الإقليمية والدولية وفي أتون صراع هيمنة المطامع والمصالح المعادية للأمة العربية وفي مقدمتها المشروع الصهيو- أمريكي؛ تبرز مظاهر استلاب هوية الامة العربية والتغييب الممنهج لمشروعها الحضاري.
إن ذلك من شأنه بالبديهة أن يستثير وعي نخب الأمة ومثقفيها الأصلاء لإدراك مسئولياتهم في اجتراح مقاربات حقيقية وواقعية لتشخيص طبيعة الأخطار الوجودية المحدقة بالأمة ( معرفيًا واجتماعيّاً وقيَميًّا وسياسيًا ) والسعي في ضوء نتائج التشخيص الموضوعيّ إلى تدارس أنجع البدائل المقترحة؛ لصياغة مقاربات فكرية عميقة قابلة للتطبيق؛ لمواءمة واقع الأمة في ضوء المتغيرات الكونيّة، على نحو يفضي إلى تداول الوسائل العملية لإدارة التخطيط للنهوض بالأمة وتوحيد رؤاها الفكرية والعملية تجاه قضاياها الراهنة والمستقبلية، وإدارتها وفقُا للأولويات الاستراتيجية لمصالح الامة، ورسم خريطة محيط علاقاتها الإقليمية والكونية، في عالم متشابك المصالح والرؤى.
واستنادا إلى الإطار المفاهيمي الذي تتبناه هذه الأطروحة يمكن مقاربة بعض التصورات النظرية والتداوليات العملية لمفهوم العروبة، وفقا للاعتبارات الموضوعية الآتية :
أولا: اعتبارات الهوية والانتماء القومي : حيث العروبة هوية ثقافية جامعة تمثل القاسم المشترك لسكان جغرافية الوطن العربي، مستوعبة على امتداد العصور قيم المشترك التاريخي الثقافي والاجتماعي، وما يتفرع عنه من ثراء تنوع الانتماءات العرقية والعقائدية، ممايحتم على المنتمين لهذه الهوية البحث في كوامن العوامل الوازنة لهذه الرابطة والعمل الدؤوب على تفعيلها بوعي، على نحو يثري تنوع روح الانتماء، ويعزز الروابط القومية والوطنية بين أبناء الأمة، على اختلاف انتماءاتهم العرقية والعقائدية والسياسية، ويحترم خصوصية العادت والتقاليد التي تشكل تكامل جماليات فسيفساء النسيج الاجتماعي للأمة؛ في حاضرها الثقافي، أو امتدادها التراثي الأصيل .
إن من شأن هذا الانتماء الحضاري الواعي لقيم الأمة معالجة ما تشهده الأمة اليوم في حميع أقطارها من تنازعات فئوية متوارثة تتمظهر في عصبيات مقيتة تمس جوهر وحدة المشترك التاريخي بين أبنائها؛ حيث تتبدى مظاهر هذه التنازعات باستحضار التباهي بما تحفل به المخيلة التاريخية أو الدينية اوالعرقية من رواسب قائمة على الاستعلاء القبلي أو العشائري أو المذهبي، وفي بعض ممارسات التفاخر القائم على استنهاض نخوة متوهمة تسيء بلاشكً إلى الجوانب المشرقة الملهمة في تراث الأمة.
وعلينا أن نعي وسط الراهن البائس للأمة اليوم أنَّ استحضار مثل هذه العصبيات المقيتة وتحكًمها في واقع الحياة العربية اليوم يستبطن بالضرورة تخلف وسائل استحضارها الذي يغيًب جميع فرص الخيارات الممكنة المتاحة للأمة في استكشاف مقومات النهوض بحاضرها المتردي، ويسهم في ضياع بوصلة تطلعاتها المستقبلية، وسط غبش تضارب مصالح أبنائها، وتخبط رؤاهم الفئوية الضيقة.
لذا يبدو -من وجهة نظر هذه الأطروحة- أن وعي الأولويات الملحة لإدراك الوجهة الصحيحة لبوصلة واقع الأمة العربية في حاضرها، واستشراف مستقبل أبنائها منوط أولاُ بعمل المخلصين من أبنائها على تربية الأجيال الناشئة على إدراك الإمكانات الحقيقية للنهوض بواقع الامة، وإكسابهم الدرايات المعرفية والعملية لتفعيل تلك الإمكانات للنهوض بواقع الأمة، وذلك مرهون ثانيا بالعمل الدؤوب على ترقية استعداداتهم وتنمية طاقاتهم المعنوية والمادية الخلاقة لتحديد أنماط مسارات فعل التغيير التنموي الحضاري النابع من حاجات الأمة، واختيار مسارات هذا الفعل، وإدراك المديات اللازمة بواسطته لإنجاز صناعة واقع الامة ورسم أفق مستقبل أجيالها الناشئة، على ضوء منظومة غايات النهضة المنشودة والأهداف الآنية والبعيدة لمشروع نهضتها الحضاري وتقدمها المستمر والمستدام٠
إن من شان هذا التطلع الوحدوي التنمويً إذا ما رفد بمنظومة من قيم التفكير التحرّري الخلاق أن يكسب روح الأمة ووجدانات أبنائها مناعة التحصًن مما قد تثيره موروثات الولاءات السياسية والحزبية والفئوية الضيقة من انقسامات على حساب غايات مشروع وحدة الأمة وتطلع أبنائها واستقلالهم الفكري الواعي والناقد، بما يكفل لهم دورًا واعيا ومستقلا في التخطيط لإدارة إرادة تطلعاتهم الممكنة والمشروعة في تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية، وفق معايير واضحة تحفظ بالضرورة كرامتهم الإنسانية في كل قطر من أقطار الأمة.
وسنتناول في الجزء الثاني من هذه الاطروحة إن شاء الله اعتبارات علاقة العروبة بالإسلام واعتبارات علاقة العروبة بالتراث والمعاصرة.