اسماعيل أبو البندورة
تغرينا الثورات والانقلابات والتحولات التي حدثت في الوطن العربي في العامين الاخيرين بالقول مجدد وبعيدا عن اوهام الحتميات التاريخية، أنه من الصعوبة بمكان تخيّل العرب وهم مهمشون، أو في طريقهم للخروج من التاريخ، ذلك أنهم وحتى فى أشد لحظات الجزر والانسداد لا يلبثون بالانبثاق والانبناء القومي الذاتي، والتمّاس، والانشباك مع التاريخ ومحاولة تحريكة ان لم نقل صناعته وصياغته والامساك بناصيته، وهذه اطروحة ليست من بنات الخيال، وانما هي نتاج قراءات ومراجعات لمسارات وسياقات تاريخية وسياسية بعيدة وقريبة، ومقارنات مع شعوب اخرى انكفأت وطوت صفحة تاريخها بالمعنى الحافز والحضاري، وأبقت على طابعه التراثي والطقوسي، أو اعلنت نهايته، وتحولت الى كيانات جغرافية – تجارية – اقتصادية وعولمية لا تعبأ بالتاريخ أو بالمعنى التاريخي، وسوّغت ذلك بقناعات ذرائعية مختلفة ليس من اطرفها فكرة الواقعية اليائسة، أو الهروب من التاريخ الى المستقبل.
هل ندعي غرورا أو تفوقا عندما نقول عن العرب وتاريخهم أنهم كذلك، وأن تاريخهم قد استمر عبر الحقب المختلفة صعودا وهبوطا أو سقوطا ونهوضا؟ أم أننا نشير الى حقيقة وظاهرة تاريخية نافية للاستعصاء والاستثناء العربي، ومؤكدة للواقع الحضاري والاستمرار التاريخي للآمة العربية؟
هذا هو السؤال الذي نسعى للاجابة عليه وتحريره من التباساته، وبعد أن تم تناوله عربيا وعالميا بأشكال مختلفة من المقاربات والتحليلات التي حاولت أن تنفي خصوصيته وتجعله عموميا لامعنى قومي له، فكانت بذلك قراءة برانية أو انتقاصية الى حد كبير، أو أنها قرأته قراءة تاريخية موضوعية ووضعته في سياقات واعية ومتفهمة لحركة التاريخ العربي والعالمي وانفتحت على اصالته ومعناه التاريخي الاصيل، واستجابت بذلك لحقيقة، ويقين، واعتقاد قريب من فهم العرب لتاريخهم وسياقاته المفتوحة.
علينا أن نقول اولا أن الثورات العربية التي انبثقت في اكثر من قطر عربي، أعادت الاعتبار لمفهوم الثورة الشعبية وامكانية حدوثها في العصر الراهن، بعد أن استثنت واستبعدت المدارس والمعاهد ومراكز الدراسات العربية والعالمية، هذا البعد تماما من آفاق تصوراتها وتحليلاتها، ووجهت فكرها الى التحولات الديموقراطية البطيئة والتدرجية التي تزيح الأنظمة البالية والتسلطية بأشكال وأساليب بعيدة عن الثورة التقليدية ومنطقها واندفاعاتها، أو هي تلغي امكانيتها تماما في هذا العصر.
ولذلك فان استعادة مفهوم الثورة وامكانية حدوثها يمكن أن يعد بعدا تاريخيا يقع في صميم السياقات التاريخية لنهضة العرب والامة العربية، وأن أي ابتعاد عنه في أية مرحلة يعدّ قطيعة وانقطاعا عن سياق وقانون تاريخي حكم هذا التاريخ وأصبح جزءا لايتجزأ من تكوينه وطبيعته وجوهره. وقد برهنت الثورات العربية على ذلك اذ وصلت ماانقطع في التاريخ العربي وأنشأت فضاء جديدا للتفكير بالثورة والتمرد والتغييرعن طريق مغاير ومفاجيء للسائد لابل قد يكون نقيضا ونافيا له وليقيناته ومسلماته.ولقد رأينا شعوبا مختلفة تحاول اعادة انتاج شكل ومضمون " ميدان التحرير " المصري، أو ريادة " البوعزيزي" في ثورة تونس، باعتبارها نماذج كونية تصلح لساحات وظروف اخرى، أو باعثا لثورات قد تتولد، لكي تلغي أي هيمنة ثقافية كانت قد طلعت في غفلة عن الشعوب، وأنهت التاريخ على طريقتها الاستكبارية وجعلت حوار الامم صراعا بين الحضارات والثقافات.
وعلينا أن نشير الى فكرة رئيسية " وحتى لايدفعنا أي اغتباط تاريخي ثوروي، أو أي موقف نظري افتخاري " الى منزلقات معرفية – سياسية، تنأى عما نريد الوصول اليه ونحن نتحدث عن المعاني التاريخية للثورات العربية ودورها في اشتقاق الآفاق العربية الجديدة، بأن الثورات التي انطلقت في الوطن العربي لم تكن ناجزة، ولم تفصح عن كل معطياتها ومدلولاتها، ولم تكتمل في كامل ابعادها، وبعضها اجهض أو انتكس في أول أو في منتصف الطريق، ولكنها قدمت الاشارات والدلالات التي تصلح أن تولد املا وتفاؤلا تاريخيا بعيد المدى، يمكن البناء عليه، أو تطويره ليكون له معنى ودلالات تاريخية.
اننا نقول أن مرحلة جديدة قد تولدت في حياة العرب بعد التحولات الجديدة، وأنها بمآلاتها النهائية، يمكن أن تشير الى افتتاح أو اشتقاق آفاق جديدة امام عقل الامة، وأن احد المهمات الرئيسية الراهنة هي في كيفية تحويل هذا المنعطف الى سياق نهضوي جديد، والى توحيد عقل الامة مجددا حول فكرة النهضة والوحدة، والى اعادة السياقات الثورية الجذرية الى التاريخ المعاصر، ولحركة النضال العربي عن طريق المقاومة، ورفض الهيمنة، ومواجهة التحديات، وبذلك نعيد تاريخنا الى صراطه الذي نستعيده ونتحدث عنه بايجابية، ونعيد علاقتنا بتاريخنا الى مستواها وزخمها المطلوب، بأن نصوغه وفقا لشروط وجودنا وفهمنا للعصر واكراهاته وتحدياته.
هذا الافق الثوري الجديد الذي افتتح في تاريخنا العربي لابد له من مضمون مستحدث ومغاير نصوغه من المعطيات الجديدة المرتبطة بتاريخنا، وتجربتنا القومية، ورؤيتنا للمستقبل، وهو احد رهانات الثورة الجوهرية، بأن لايقتصر التغيير على الاشكال وانما يمتد الى المضامين،والامتداد الى المجتمع، والثقافة، وبناء الانسان الجديد، وبغير ذلك فاننا نبقى خارج سياقات تاريخنا الثورية الانعطافية، ونجهض الثورة الحقيقية التي تتكثف في النفوس والعقول، ونحولها الى ثورات شكلانية طقوسية لاتمتد الى الروح، وانما تدور حولها!!
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.