د . عبدالعزيز المقالح
قال أحدهم: "إذا لم تحب وطنك احتقرك"، ونحن نضيف إلى ذلك القول إذا لم تحب لغتك احتقرك الكلام . وواقع الحال يشير إلى أننا في هذه اللحظة التاريخية المريرة نعاني احتقارين، احتقار الوطن الذي لم نحبه كما ينبغي، واحتقار اللغة التي لم يعد يعنينا أمرها وكأنها لغة قوم آخرين، وكما أن الشعوب العظيمة تقاس بإنجازاتها المادية، فإنها تقاس أيضاً بإنجازاتها اللغوية، فرنسا -مثلاً- ماذا تساوي من دون مبدعيها من المفكرين والشعراء وكبار الكتّاب؟ ولا ريب أن أمة تحتقر لغتها إنما تحتقر نفسها، وليس من أمة فوق هذه الأرض تحتقر لغتها كالأمة العربية في حين أنها الأمة الوحيدة التي ترتبط لغتها برباط روحي مقدس هو القرآن العظيم، الذي فتح لها ولغيرها من الشعوب عوالم المعرفة الروحية والإنسانية، وأعطاها مفاتيح التطور والدخول إلى الحياة الجديدة من أوسع الأبواب .
هناك -للأسف- من أبناء هذه الأمة من يرى أن اللغة العربية ليست سوى مجرد وسيلة تخاطب، وفي هذا القول من السوء والإجحاف ما يدعو إلى الترفع عن مناقشته أو الإشارة إلى قابليته، وهو مهما تكاثر وأفسحت له بعض المنابر المعادية المجال لن يتمكن من غمط حق اللغة العربية أو إنكار دورها في صناعة وعي الأمة والتعبير عن هويتها الروحية والقومية والإبداعية وما مثلته في الماضي وما تمثله الآن من وعاءٍ حامل لتراثها الفكري والأدبي وما أنجزه مفكروها ومبدعوها عبر العصور، ولو أن اللغات الحية كانت مجرد وسيلة للخطاب اليومي لكان في التعامل بالإشارة ما يكفي، وهو حال عرفته البشرية قبل أن ترتقي وتمتلك اللغة التي من خلالها تشكّل وجودها الحي وخرجت به من قائمة الحيوانات غير الناطقة . ولم يحصل الإنسان على صفة الحيوان الناطق تمييزاً له عن سائر الحيوانات الصامتة التي لا تاريخ لها ولا موروث ترجع إليه، وتدرك من خلال رجوعها إلى ما حققته وأضافته إلى حياتها عبر الأكل والشرب وبقية الممارسات البيولوجية .
وإذا كان للغات كل هذه المكانة والأهمية في حياة البشر لاسيما اللغات التاريخية ذات الموروث الحضاري والعلمي والفني، فإنه من الخطل والخبل الاستهانة بها وتجاهل ما يفرضه الواجب الروحي والوطني والقومي من ضرورة حمايتها والدفاع عن خصائصها والإقناع بأنها كالكائن البشري تماماً تحتاج إلى من يتعهد نموها وتطورها والالتزام بقواعدها حتى لو كان في تلك القواعد شيء من الصعوبة، علماً بأنه حين يكون الحديث عن اللغة العربية فلا بد لنا أن نتباهى بأن قواعدها أقل صعوبة من قواعد معظم اللغات بما فيها تلك اللغات الشائعة في أنحاء العالم . ومشكلتها – أي العربية- إنها لم تجد من بين أبنائها المتخصصين من يكشف عن سهولتها وما تتمتع به من جماليات شكلية وصوتية . ومن قدرات على استيعاب المعارف الكونية والتعبير عن المرئي واللامرئي، عن الواقعي والمتخيل .
إن اللغة العربية-شئنا أم أبينا- جزء لا يتجزأ من كينونتنا في هذا العالم، وهي علامة من علامات حضورنا فيه، وإن الانبهار المؤقت الذي استولى علينا في القرن المنصرم بلغات الآخرين الأقوياء الذين فرضوا أهميتهم المادية والثقافية على واقعنا كان في العقود الأخيرة من القرن نفسه قد بدأ ينحسر، وهو الآن يحتضر رغم الظواهر الاستثنائية المتمثلة في بعض المؤسسات التعليمية التي تبالغ في أهمية المعارف المكتسبة عن طريق اللغات الأجنبية سواء في العلوم الإنسانية أو التخصصات، لاسيما بعد أن أغنت المكتبة العربية بالعديد من الكتب العلمية المترجمة والمؤلفة، وهذه الإشارات لا تقلل من أهمية أن يكون على اطلاع واسع باللغات المهمة عالمياً غربية وشرقية بعد أن نكون قد امتلكنا لغتنا وصرنا قادرين على أن ننتقل منها وإليها .