د / يوسف مكي
عروبة العراق واستقلاله ووحدة أراضيه هي أهداف لا تقل وجاهة عن محاربة الإرهاب، وينبغي أن تكون في سلم الأولويات من اهتماماتنا. وما يجري في العراق الآن هو غياب استراتيجية عملية في الحرب على الإرهاب.
فقد مضت قرابة خمسة أشهر، منذ بدء الجيش العراقي والحشد الشعبي الحرب ضد تنظيم «داعش»، وقرابة عام كامل منذ بدء التحالف الدولي حربه المعلنة على «داعش» في العراق وسورية. ورغم الزخم الكبير أخيراً الذي شهدته محاولات اقتحام مدينة تكريت في محافظة صلاح الدين، فإن ذلك تراجع في الأيام الأخيرة، وليس هناك ما يشي بقرب تحرير المحافظة، فضلاً عن تحرير المحافظات الأخرى التي يسيطر عليها «داعش»، وعلى رأسها محافظتا الأنبار وصلاح الدين. فما هي المعضلات التي تواجه القوى التي تعلن تحالفها ضد «داعش» في هذه الحرب؟
نقطة الضعف الأولى في هذه الحرب تعود إلى العام 2003 حين جرى احتلال العراق من الأميركيين، واتخذ الحاكم الأميركي قراراً بحل الجيش الوطني وإعادة تشكيل جيش آخر، يتسق مع ما أطلق عليه الأميركيون في حينه مع تشكيل العراق الجديد.
كشفت الأيام اللاحقة عن أن أحد أهداف الاحتلال الأميركي هو حل الجيش العراقي، وتأكد ذلك في السنوات الأخيرة التي ارتبطت أحداثها بما عرف بالربيع العربي، حيث جرى تدمير جيوش السودان وليبيا واليمن وسورية، ويتم الآن بشكل منهجي للجيش المصري، والهدف هو إحداث خلل في موازين القوة العسكرية يؤدي بشكل حاسم إلى تفوق الكيان الصهيوني على كل الجيوش العربية.
تأسس الجيش العراقي مجدداً بعقيدة مختلفة وغير وطنية شعارها عدم شن الحرب على الجيران، وأن يكون بقوة صغيرة ومحدودة في معداتها وذخائرها وإمكاناتها العسكرية، وكانت كلفة تأسيس هذا الجيش مدعاة للاستهجان والسخرية من كبريات الصحف العالمية، حيث أصبحت صفقات الفساد التي ارتبطت بتأسيسه تزكم الأنوف.
ولذلك لم يكن ضعف مقاومة هذا الجيش حين تم الاستيلاء على محافظة الأنبار بأكملها من «داعش» أمراً غريباً على المتابعين للتطورات السياسية في العراق، وبشكل خاص حرمان هذا البلد العريق من جيش قوي يؤمن حدوده ويدافع عن أمنه واستقلاله.
لقد خسر الجيش العراقي كل معاركه قبل عام عندما احتل «داعش» أربع محافظات عراقية في فترة قياسية قصيرة، لأنه افتقر للهوية الوطنية ولم تكن له هوية أخرى بديلة عنها. فقد كان الجيش خليطاً من مكونات النسيج العراقي، ولكنه لم يحمل هوية وطنية بسبب هيمنة مليشيات الطوائف على السلطة في المركز.
الآن يخوض الجيش العراقي، مدعوماً بمستشارين وضباط إيرانيين، وقصف أميركي جوي على مواقع «داعش»، معركته ضد الإرهاب. لكن العنصر الحاسم لاقتحام مواقع «داعش» منذ بدأت هذه الحرب هو للحشد الشعبي.
والحشد الشعبي عماده قوات بدر التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، (سابقاً)، وحزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي، والتيار الصدري، وعصائب الحق، وجميعها قوى كان لها الدور الأساس في العملية السياسية التي تشكّلت بعد الاحتلال الأميركي. وقد أسهم بعضها في حرق المكتبات والاعتداء على المتاحف ومرافق الدولة ونهب الجامعات والمصانع والمؤسسات الحكومية، في الأيام الأولى التي أعقبت الاحتلال الأميركي.
لقد كان دور بعض هذه الميليشيات جلياً في تدمير الدولة الوطنية العراقية، والعمل على إلغاء الهوية العربية من ذاكرة العراقيين، وإعادة تشكيل العاصمة كما حدث في أحياء العدل واليرموك والشرطة، ومن خلالها أعيد تشكيل الدولة العراقية بمقتضى رؤية الحاكم الأميركي في العراق بول برايمر.
المعضلة الأخرى التي تواجه الحرب على الإرهاب هي افتراق الاستراتيجيات ضمن القوى التي تقود الحرب. فأميركا تقوم بضربات جوية منتقاة وخجولة وليست في عجلة من أمرها، فهذه الحرب وفقاً لتصريحات بعض المسئولين الأميركيين ربما ستستغرق عشر سنوات، وإيران القوة الإقليمية الأكثر حضوراً في أرض السواد ترى أن استمرار سيطرة «داعش» على محافظة الأنبار يعني حرمانها من عمقها الاستراتيجي في سورية ولبنان وصولاً إلى البحر المتوسط.
إن رؤيتها للحرب تقوم على تحرير صلاح الدين ثم الانتقال مباشرةً إلى محافظة الأنبار، وتعد تحرير الموصل شأناً مؤجلاً، فالمدينة هي الثالثة في المدن العراقية من حيث الحجم وتعداد السكان، واقتحامها سيكلّف الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدات. يضاف إلى ذلك أنها تقترب كثيراً من الحدود التركية التي تتعاطف حكومتها مع وجود «داعش» في بعض المناطق العراقية. إن ذلك يتيح لـ «داعش» أن تستمر في تأمين الدعم اللوجستي لقواتها ويمنحها قدراً أكبر من المناورة والكر والفر.
الأميركيون الذي احتلوا العراق وقاموا بحل جيشه الوطني يعيدون تكرار نفس الخطأ الآن بعدم اتخاذ موقف حاسم تجاه احتلال تنظيم «داعش» لعدد من المحافظات العراقية، تحت ذريعة عدم رغبتهم في نزول قواتهم على الأرض، وأيضاً بناء على حسابات ما بعد التوقيع على إقفال الملف النووي الإيراني، ورفع الحصار، وإقامة علاقات متينة مع ملالي طهران.
الحراك العربي الأخير الهادف لمكافحة الإرهاب في أرض السواد ينبغي أن يضع نصب عينيه هذه الحقائق، وألا يترك الشعب العراقي لغياب الدولة القوية فريسة للإرهاب.
عروبة العراق واستقلاله ووحدة أراضيه هي أهداف لا تقل وجاهة عن محاربة الإرهاب، وينبغي أن تكون في سلم الأولويات من اهتماماتنا. وما يجري في العراق الآن هو غياب استراتيجية عملية في الحرب على الإرهاب. وهي حربٌ لن يكتب لها أن تستعيد عروبة العراق واستقلاله إلا ببناء جيش قوي بهوية وطنية وعودة العراق للعراقيين، وذلك وحده ما يتسق مع حقائق الجغرافيا والتاريخ.