عبدالإله بلقزيز
يشبه مشهد انسحاب القوات الأطلسية من أفغانستان مشهد انسحاب القوات الأمريكية من العراق . تمتد وجوه الشبه بينهما من الطابع الاضطراري للانسحاب، إلى دلالاته على صعيد الحصيلة السياسية لحقبة الاحتلال في البلدين، ودلالاته على صعيد التوازنات الداخلية التي أنتجتها الغزوة الكولونيالية للبلدين، إلى النتائج التي ترتبت، وستترتب، على مرحلة الاحتلال برمتها، وعلى مستقبل البلدين في سياق الانهيار الشامل للدولة والتفسخ الكامل للمجتمع اللذين أفضت إليهما تلك الغزوة، إلى احتمالات تمكين دول الإقليم من فرص الإمساك بالأوضاع في البلدين إمساكاً كاملاً – بعد جلاء الاحتلال – وتقاسمها العبث بمصيرهما مع القوى السياسية – الدينية المتطرفة التي ولّد العنف الكولونيالي اندفاعتها العسكرية والسياسية الجامحة . النتائج البائسة تتشابه لأن مقدماتها تتشابه، ولأن السياسات التي أفضت إليها كانت من التهور ومن الانتشاء بشهوة القوة إلى حد الانتحار .
ولقد انتحرت السياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان، ونحرت معها دول أوروبا التابعة، فكانت العلامة الأولى على الهبوط الحاد لمعدل القوة الأزمة المالية العالمية، والركود الاقتصادي في الرأسماليات الغربية، والإفلاسات المتعاقبة لدولها (اليونان، إسبانيا)، واهتزاز القيمة النقدية لليورو، وكانت علامتها الثانية صيرورة الصين القطب الاقتصادي الثاني المزاحم للقطب الأمريكي على عرش النفوذ العالمي، وترجح أيلولته إلى قوة أولى عالمية في السنوات العشر القادمة، ثم كانت ثالث العلامات الفقدان التدريجي الأمريكي لسلطة إدارة الشأن الدولي – وهي سلطة آلت إلى الولايات المتحدة عقب انتهاء الحرب الباردة – واستعادة روسيا نفوذها السياسي الدولي، ومكانتها كشريك للولايات المتحدة في إدارة الشؤون الدولية . وإن شئنا المزيد، أضفنا إلى العلامات الثلاث السابقة (علامة) رابعة هي انكباح جماح العسكرتاريا الأمريكية، بعد الذي أصابها من ضربات موجعة في العراق وأفغانستان، ورسوخ تدريجي لعقيدة الامتناع عن التدخل العسكري في أزمات دولية، أو خوض حروب جديدة ولو من أجل المصالح، على نحو ما نلاحظ منذ صعود إدارة باراك أوباما .
لم تدخل أمريكا إلى العراق وأفغانستان، بتلك الحشود العسكرية الهائلة التي دخلت بها، كي تخرج منهما سريعاً وقبل تحصيل أهدافها الكاملة من غزوهما، كانت تخطط للبقاء فترة زمنية أطول، الفترة التي تكفيها للسيطرة على مصادر الطاقة وخطوط الإمداد في البلدين، ولضم الدولتين إلى منظومتها الأمنية الإقليمية والدولية في مواجهة روسيا والصين، وإنتاج نظامين عميلين مستقرين في البلدين . وباستثناء الهدف الثالث الأخير، الذي نجحت فيه نسبياً (نسبياً لأن النظامين ليسا مستقرين)، فقد فشلت في تحقيق الهدفين الرئيسيين فشلاً ذريعاً . ولقد كان الذي أفشل مسعاها إلى تحقيق ذينك الهدفين هو: المقاومة الوطنية العراقية، بين العامين 2003 – ،2008 وحركة "طالبان" في أفغانستان، وهما من أجبرا قواتها العسكرية على الجلاء تحت وطأة ضرباتهما الموجعة التي أزهقت أرواح الآلاف من جنودها، ومرغت هيبتها العسكرية .
ما حصل للولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان هو عينه ما حصل للاتحاد السوفييتي في أفغانستان: الهزيمة العسكرية النكراء، ولكنها – أيضاً – الهزيمة المتدحرجة، أي التي تولّد هزائم أخرى من رحمها من دون انقطاع . هزيمة الجيش الأحمر السوفييتي في أفغانستان، قبل ما يزيد على ربع قرن، لم تخرجه من هذا البلد فحسب، وإنما كانت مقدمة لإخراجه من أوروبا الشرقية برمتها، ليصبح ذلك مقدمة لانفراط "المعسكر الاشتراكي" وانهيار الاتحاد السوفييتي . وهزيمة أمريكا في العراق وأفغانستان لن تختلف في المآلات – فيما نزعم – عن هزيمة السوفييت حتى وإن تأخر مداها في الزمان، أو جرت وقائع نتائجها على نحو مختلف عما جرت عليه في النظام السوفييتي .
ليس يعنينا، هنا، مآل الولايات المتحدة أو مآل قوتها ومركزها في العالم بقدر ما يعنينا ذلك الخراب العظيم والمخيف الذي تركته جيوشها وسياساتها في البلدين اللذين احتلتهما ونشرت الموت والفوضى فيهما . لقد كانت مأثرة أمريكا في العراق وأفغانستان – وربما مفخرة صقورها – أنها دمرت الدولة فيهما، ومزقت نسيج المجتمع ووحدته، وأطلقت عصبياتهما من دهاليز القرون الوسطى لتعمل معاول الهدم والفتك، وهندست لها حروبها الأهلية: باسم الله أو باسم القبيلة أو باسم المذهب . لم تترك للبلدين موارد قوة ومنعة، فقدمتهما هدية لدول الجوار: العراق لإيران وأفغانستان لباكستان وإيران، حيث لا جيش وطنياً سوى ميليشيات مذهبية وإثنية أطلق عليها اسم الجيش، ولا دولة وطنية مركزية سوى سلطات أهلية فيدرالية على حدود الطوائف والمذاهب والعشائر والإثنيات أطلق عليها اسم "الدولة الفيدرالية" .
والأنكى أن أمريكا التي جاءت إلى أفغانستان من وراء شعار محاربة الإرهاب، نشرت بحروبها الإرهاب في كل مكان في العالم، خرجت أمريكا وبقيت "طالبان" و"القاعدة" في أفغانستان، بل توسعتا إلى باكستان: حيث معقل "القاعدة" وحيث نشأت "طالبان باكستان" رديفة لصاحبتها الأفغانية الأصل . ثم إنها حاربت "القاعدة" في العراق، وسخرت العشائر في حربها تلك من خلال ميليشيات "الصحوات"، فانتهى الأمر إلى قيام "داعش" وتحالفها مع العشائر وسيطرتها على غرب العراق وبعض شماله، واستيلاءها على شرق سوريا وبعض شمالها، وتهديدها الجوار العربي للبلدين .
أي حصيلة، إذن، يمكن لأمريكا أن تفخر بها، أو تبرر بها – لشعبها وللإنسانية جمعاء – حروبها الظالمة؟