بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في ندوة سياسية عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي في واشنطن في منتصف الثمانينات من القرن الماضي حول الأمن في منطقة الخليج العربي وتأثيرات الحرب العراقية الإيرانية عليه، أعطى أحد أعضاء اللجنة ملاحظة مهمة وهي أن العراق هو خط الدفاع الأول عن المنطقة وليس عن نفسه فقط أمام التهديد الإيراني وشعار تصدير الثورة الذي رفعه الخميني، وكما كانت ملاحظة السياسي الأمريكي دقيقة، فقد جاءت ملاحظة دبلوماسي عراقي شارك في الندوة المذكورة أكثر دقة وتصويبا للرؤية الأمريكية، فقد قال معقبا على ملاحظة الأمريكي (نعم هذا دقيق ولكن للأسف فإن العراق سيكون الخط الأخير) وأيد المجتمعون وجهة نظر الدبلوماسي العراقي واعتبروها أكثر تشخيصا لواقع المنطقة وضعف دول الخليج العربي من الناحية العسكرية وخاصة أن إيران التي حولها الشاه إلى ترسانة ضخمة من أحدث الأسلحة الأمريكية قد أضافت إلى تلك الأسلحة بعد أيدلوجيا غيبيا، بحيث لو انهار خط الدفاع الأول أمام الإيرانيين فسوف لن يجدوا أمامهم خطا آخر يعرقل زحفهم نحو حلم الضفاف الغربية للخليج العربي، الذي تعطل عشرين عاما بخندق دم العراقيين عبر تضحياتهم الجسورة في مواجهة الريح الصفراء التي انطلقت تحت شعار تصدير الثورة لا لتقف عند حدود الجغرافيا وإنما حدودها كل ماء بعد يابسة وطموحها كل يابسة بعد ماء، أوقفها العراقيون بعد أن أصابوا عدوهم باليأس حتى جرعوه كأس السم فأخروجه من أرضهم خاسئا وهو حسير.
هذه الندوة لا بد أن تكون قد أعطت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تصورا بالغ الدقة عن الأمن الإقليمي لمنطقة ظلت الولايات المتحدة تنظر إليها على أنها جزء مهم من منظومة الأمن القومي الأمريكي والمجال الحيوي لها، غير أن النتائج التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق وإعطاء دور سري في هذا الغزو لإيران عكس تباينا بين البدايات والنتائج على نحو دفع المراقب الحصيف إلى طرح المزيد من الأسئلة الملحة حول قدرة الولايات المتحدة على انتخاب أهدافها من جهة ووضع جدول الأولويات لهذه الأهداف من جهة أخرى، فضلا عما إذا كانت الإستراتيجية الأمريكية تعمل على الضد من المصالح العليا للبلاد، فإذا كان مفهوما لدى الكونغرس الأمريكي أن العراق هو خط الدفاع الأول عن منطقة الخليج العربي بوجه الأطماع والأخطار الإيرانية، فكيف يعمل بلد مثل الولايات المتحدة على إزالة هذا الخط من الخارطة بإرادة سياسية قاطعة وخطة عسكرية متكاملة لاحتلال العراق وفتح أبواب العراق للنفوذ الإيراني الذي بات مكافئا للنفوذ الأمريكي في إتخاذ القرار وصنع الحكومات ورسم السياسات؟ حتى بفرض وجود خطوط دفاعية أخرى، ذلك أن تدمير أحد الخطوط سينقل الثقل إلى الخطوط اللاحقة ويمكن أن تتهاوى تباعا، خاصة وأن الولايات المتحدة ملتزمة بموجب اتفاقيات عسكرية وأمنية مع دول المنطقة على حمايتها من كل الأخطار المحدقة بها.
ما جرى في العراق خلال السنوات السبع والنصف الماضية، وانعكاس انهيار منظومة الدولة العراقية وخاصة المؤسسة العسكرية التي كانت تمثل عامل توازن إستراتيجي في أكثر مناطق العالم قبولا لإغراء القوة، على دول الإقليم مجتمعة لاسيما الصغيرة منها، كان بتفاصيله المأساوية واحدا من اسوأ الدروس المستخلصة من اعتماد مبدأ القوة المسلحة في حل المنازعات الدولية والإقليمية، وبشكل خاص من قبل الدول الكبرى التي ينظر إليها على أنها راعية لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وإذا بها تفعل ما في وسعها من أجل تعطيلهما وإرغام المحافل الدولية الضامنة للميثاق كمجلس الأمن الدولي لتكون أداة طيعة بيدها تسخرها وتحركها بالاتجاه الذي يخدم مشروعها الكوني للهيمنة على العالم وخاصة مصادر الطاقة الرئيسة.
فهل كانت الولايات تعي جيدا أن خطتها بغزو العراق واحتلاله ستقود إلى كل تلك الفواجع، ليس على العراق فقط، وإنما على مصالحها نتيجة دخول طرف طارئ وبثقل استثنائي على خط قسمة الغنائم؟ بل ربما يأتي السؤال بصيغة أكثر تأثيرا في إيقاع صدمة وترويع من طراز غير أمريكي، هل خططت الولايات المتحدة لإيجاد شريك لها في كعكة الخليج العربي والشرق الأوسط تعمل على تدجينه وترويضه ليكون جزء فاعلا في منطقة تنظر إليه بحذر وريبة وترفض إدخاله في تشكيلاتها الإقليمية، لعوامل التاريخ القديم وحروبها الطاحنة والسياسية القريبة وصراعاتها الدموية المفتوحة على عوامل التباين القومي والمذهبي وأطماع التوسع على حساب التاريخ والجغرافية لمنطقة ذات حساسية بالغة تجاه مواقد النار التي يشعلها التوسعيون المحليون والطامعون الغرباء، ولماذا يفعل بلد له قدرات الولايات المتحدة على البحث عن شريك مشاكس يعتمد الخديعة والتقية السياسية، ويؤشر الطافي من العلاقة بينهما صراعا حادا وخلاف جادا؟ هل يتم ذلك لاحتواء إيران تدريجيا وإعادتها إلى منظومة التحالف الغربي الذي تقوده أمريكا نفسها؟ أم هي محاولة من مصانع السلاح الأمريكية لابتزاز دول المنطقة وإخضاعها لهاجس الرعب من التمدد الإيراني وخاصة بعد أن أصبح على وشك امتلاك أسنان نووية، فتعقد صفقات السلاح لدول المنطقة تحت لافتة التوازن العسكري بين الفريقين؟
من يراقب الظاهر من الدور الإيراني ليس في العراق فقط وإنما في عموم الوطن العربي والعالم الإسلامي، سواء بصورة مباشرة عن طريق السفارات الإيرانية أو قوات الحرس الثوري الإيراني، أو بواسطة الوكلاء المحليين والمعتمدين من رجال دين مجندين لخدمة الدولة الإيرانية بصرف النظر عمن يحكم فيها والأحزاب الغارقة بالأوامر والتوجيهات والأموال الإيرانية، لا بد سيصدم بقوة من حجم ما حققته إيران لنفسها من إنجازات على صعيد النفوذ حتى في مناطق كانت مغلقة تماما بوجهها حتى أمد قريب، أما الغاطس فربما يذهل المراقب نتيجة للامبالاة واللااكتراث الذي يواجه به نفوذ إيران المتزايد في المنطقة والتي قد تستفيق ذات يوم لتجد أرتال الحرس الثوري الإيراني ببزتها العسكرية الرسمية، تحتل ما تحت نوافذ الحكام الذين تواطئوا على قتل العراق واطمئنوا إلى التعهدات الأمريكية بتوفير الحماية لهم، لكن الولايات المتحدة ستفكر بعد تجربتها المريرة في العراق ألف مرة قبل أن ترسل جنديا أمريكيا واحدا دفاعا عن هذا النظام أو ذاك.
العراقيون استعادوا هذه الأيام ردهم على نوايا تصدير الثورة الإيرانية بقوة السلاح، فكانت صولاتهم في سوح المعارك مصدر فخر ومجد ليس للعراقيين الذين شاركوا فيها أو وقفوا إلى جانب جيشهم في الخطوط الخلفية، وإنما للعرب الذين لا بد أنهم شعروا بالفراغ نتيجة خروج العراق من معادلة التوازن الإقليمي بمن فيهم أولئك الذين ما زالوا يقيمون المهرجانات في ذكرى ذبح العراقيين من قبل المحتلين على اختلاف سحناتهم ولغاتهم ولكناتهم.
الاثنين 18 شوال 1431 / 27 أيلول 2010