جمال محمد تقي
تقرير كيدي واحد من مخبر سري يمكن ان يضعك خلف الشمس لسنوات تنسى خلالها اسمك، وتتذوق فيها صنوف ووجبات مبتكرة من التشويه الجسدي والنفسي وتحت اشراف اياد مريضة مدربة لازالة اي آثار آدمية لديك، ويمكنها ان تفقدك حياتك سهوا نتيجة للحماسة الزائدة التي يتمتع بها عادة من يكلف بعملية استجوابك!
تتعدد الاسباب والموت واحد، كأن تموت تحت التعذيب، او بحفلة اعدام معلنة او سرية، او بكاتم صوت، او بدواء تالف، او باشعاع قاتل، او بنيران صديقة، او بواحدة من المفخخات المزروعة بامر امراء الحكم او امراء الجماعات المتطرفة، او الموت مسموما نتيجة لسوء التغذية اولفساد ماء الشرب، او نتيجة لرصاصة او قذيفة طائشة اطلقتها واحدة من الحمايات الخاصة، والامر هنا سيان ان كانت عناصر تلك الحمايات اجنبية او عراقية!
خلال عام 2010 وحده تم اعتقال 1785 شخصا بتهمة الارهاب ليضافوا الى العدد الذي تراكم في السجون المعروفة وغير المعروفة والتي تم تأهيلها او اعتمادها كسجون ومعتقلات منذ احتلال العراق عام 2003، والذي ناهز الاربعين الفا، وبات المعدل السنوي للمعتقلين في الاعوام التالية لا يقل عن الفين، هذا بحسب ارقام منظمة العفو الدولية!
بحسب تصريحات لبرلمانيين عراقيين، وبحسب بعض تقارير هيئة النزاهة العراقية فان هناك ما لا يقل عن 4000 فاسد كبير في الطاقم الاداري والسياسي الحاكم، وان هناك مالا يقل عن 3000 شهادة مزورة يحملها متنفذون في الطبقة الحاكمة، وهذه الارقام تزكيها تقييمات منظمة الشفافية العالمية التي تعتبر العراق ومنذ 2003 وحتى الان من اكثر بلدان العالم فسادا، وقبل هذا وذاك يزكيها الواقع المتردي الذي يعط بكل الروائح الكريهة الفاسدة، فالميزانيات الضخمة التي يعود الفضل في مواردها لعوائد النفط المستخرج من الارض العراقية لا يتحقق منها غير الاهدار الذي لا مثيل له والنهب الذي قل نظيره، والدليل على ذلك التدهور والانحطاط الشامل الذي ميز كل قطاعات الدولة والتي كانت مضربا للامثال بالتطور والجودة، كالقطاع الصحي والتعليمي والخدمي والصناعي، ويكفي ان نشير الى واقع الحالة المزرية لخدمة الكهرباء والماء الصالح للشرب لنجد ان حكام العراق الذين استخلفوا من قبل المحتلين لم ينجحوا سوى بتدمير ماهو ناجح في العراق وسوى بجعله مكبا يستورد كل ما يحتاج اليه من الخارج ومن دون ادنى مستويات الجودة وباسعار مضاعفة تدل على فساد المتاجرين بها!
الاعلام الحكومي يعلك هذه الايام بوعود الاصلاح وما ستحققه من اجماع لمعالجة المشاكل والازمات القائمة وهو يحاول الهاء الناس عن تلمس جوهر العطل الساري في جسد الدولة العراقية والذي حولها الى دولة فاشلة ومن اوسع الابواب، وهو يطبل للمصالحة بين شركاء الحكم انفسهم، والى الغاء التمييز الطائفي الذي يسبغ كل الاجراءات التنفيذية لمقررات الحكومة لكونها حكومة محاصصات يتمتع بحصة الاسد فيها من يمسك بمنصبي رئاسة الوزراء والقيادة العامة للقوات المسلحة، والذي سيكون حتما محصن من اي مسائلة بحكم غلبة عدد نواب طائفته على نواب البرلمان من الطوائف الاخرى!
في هذا الوقت عينه يقرر رئيس الحكومة المصادقة على تنفيذ حكم الاعدام بحق 260 سجينا، وتقرر الهيئة العليا للمساءلة والعدالة اجتثاث 32 قاضيا من قضاة محافظة نينوى، ويجري تعطيل اي مسعى جاد لصياغة قانون انتخابي عادل، واعتماد معايير المهنية والحياد في تشكيل المفوضية المستقلة للانتخابات، وتقييد الاحزاب بقانون محكم يساهم بسحب الغطاء عن الهايكل والتنظيمات المخلة ببديهيات العمل الوطني واساسيات المنافسة الشريفة والتي اشاعت ومازالت بين العراقيين الفتن الطائفية والعنصرية!
مازالت الكفاءات العراقية تتسرب الى حيث الامن والامان وتكافؤ الفرص، ولم يعد للعراق من الملايين التي هاجرت منه بعد احتلاله الا من تقطعت بهم السبل، كما في حالة العراقيين المتواجدين في سوريا، وحتى هؤلاء لم يعد منهم سوى عدد محدود لم يتلق حتى الان ما يجعله يتفائل بتلك العودة، فالحرص الجاد على عودة الكفاءات العراقية يشكل حلقة مهمة في اي سياسة فعلية لاعادة اعمار العراق وتأهيله، ولكن الذي يجري اليوم هو عكس ذلك تماما، لان من يريد عودة الكفاءات لا يجتث تلك المتواجدة اصلا في الميدان كما في حالة اساتذة الجامعة والقضاة والعلماء والعسكريين المتخصصين، وهذا الحال بحد ذاته هو مؤشر اخر على زيف ادعاءات المتسلطين على حكم العراق، فلا ينتظر من اهل التجهيل والدمار حرص واعمار!
لقد 'تروب' الوضع العراقي على ما فيه من نسغ آسن، لان من يصل للسلطة اولا في العراق الجديد لا ينتظر منه ان يدحرجها طوعا لغيره، وعلى اساس القاعدة الديمقراطية القائلة : باطلاق العنان للتداول السلمي للسلطة بين الافراد والاحزاب والجماعات السياسية، فالجميع القوى الطائفية والاثنية حصة في غنيمة الحكم، وان من وصل الى قمته اولا وعلى نفس قاعدة المحاصصة تلك سيسعى بكل ما تمنحه تلك القمة من ادوات لاعادة انتاج تلك المحاصصة ليحافظ هو وجماعته على الغنيمة الكبرى في تلك السلطة، وان باشكال مختلفة، فهو ومن اجل اعادة انتاج سلطته سيسعى لاستخدام القضاء والاجهزة الامنية لتصفية الخصوم واستخدام المال العام للهيمنة على الاصوات، وتجيير الاشراف الانتخابي لمصلحته مما يجعله قادرا على تمديد فترة حكمه، وهذا الامرلا يمنعه من اعطاء بعض المغانم غير المؤثرة على مكانته لمن يفترض بهم شركاء له بالحكم، وكل هذا يجري بنفس كليشة الصناديق الانتخابية التي توهم من لا يعرف حقيقتها، بالممارسة الديمقراطية.
يبدو ان ادراك بعض الشركاء من ذوي الحس المرهف لهذا الحال جعلهم يصرون على تضمين اية ورقة اصلاح جادة فقرة تحدد ولاية رئاسة الوزراء بفترتين غير قابلة للتمديد، اضافة الى دعواتهم للدفع باتجاه تبني واضح وسريع لقانون العفو العام الذي لا بد من ان ينصف ولا يكلف، فكتلة الاحرار التي تمثل التيار الصدري تتبنى هذه الدعوات وتجدها قارب نجاة من الازمة القائمة الى جانب تفعيل دور الرقابة البرلمانية على العمل الحكومي بمجمله وعلى كل عمل الهيئات المستقلة.
من ناحية اخرى فان التيار الصدري نفسه يقر بلا جدية الدعوات الاصلاحية المطروحة تلك ويعتبرها مجرد مسكنات لكسب الوقت!
بعد كل هذه التناقضات، من يستطيع مساءلة حكام العراق عن فسادهم وفتنهم وفشلهم، اذا كان من يفترض بهم نوابا عن الشعب عاجزين عن مجرد استجوابهم، فعن اية مساءلة وعدالة يتحدثون؟