منذ عام 2003، بل قبل هذا التاريخ، أي منذ حصول العدوان على العراق عام 91م وما أعقبه من سنوات الحصار والعقوبات الظالمة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، كان واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع العراق "بعقلية إجرامية" و"سلوك عدواني" لا مجال أو مكان فيهما للجانب الإنساني أو الأخلاقي، وأنها محكومة بإستراتيجية قائمة على الهيمنة، والنابعة من "نشوة الانتصار" على الاتحاد السوفيتي السابق وما انتهت إليه الحرب الباردة من نتائج قادت إلى تفردها وسيطرتها على العالم، لذلك ومع سيطرة "المحافظين الجدد" على كل مفاصل الإدارة الأمريكية، راحت واشنطن تتصرف من وحي تلك "العقلية الإجرامية" وبطريقة يغلب عليها "الاندفاع" و"الهستيريا" السياسية والعسكرية التي لا تخلو من الانفلات والتخبط السياسي، عبر عن نفسه مراراً وتكراراً في شكل مواقف وسياسات حمقاء وطائشة تجاه العراق بشكل خاص وتجاه كل الدول والقوى التي ترى فيها واشنطن عائقاً أمام مخططاتها العدوانية في المنطقة بشكل عام.
لذا فإن الاستراتيجية الأمريكية واضحة، والأهداف واضحة أيضاً، ولم تكن وليدة أو ناتجة عن بعض الأحداث الطارئة والخطرة التي شهدتها المنطقة، مثل نشوب الحرب العراقية الإيرانية أو دخول العراق إلى الكويت، بل على العكس أن الاستراتيجية الأمريكية وكل السيناريوهات التي حصلت في إطارها تلك الأحداث، تؤكد بما لا يقبل الشك أن كل تلك التطورات قد تمت وفق تلك الأهداف المرسومة من قبل الإدارة الأمريكية والمتمثلة في السطو والسيطرة على ثروات المنطقة وخاصة البترول، وإعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية للمنطقة وحماية حليفها الرئيسي "دولة الكيان الصهيوني".
ومن أجل وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ كان لابد من البدء بتفكيك دول المنطقة إلى كيانات أو "كانتونات" طائفية وعرقية، مستغلة الأوضاع والظروف السياسية والاجتماعية التي تعيشها هذه الدول، وطبيعة التركيبة السكانية التي تتميز بتعدد الأديان والمذاهب والأعراق.
ولقد جاءت الأحداث المتتالية في المنطقة، التي توجت بالغزو الأمريكي البريطاني للعراق واحتلاله وتدميره بصورة وحشية، لتكشف كيف عملت واشنطن على توظيف العامل الديني والمذهبي، في هذا الاحتلال وكيف استعانت بالوضع الإيراني بعد ثورة عام 1979م في إيران ومجيء نظام ذي خلفية وتوجهات دينية، ويحمل شعارات مثل "تصدير الثورة" ذات أبعاد طائفية، وهي جميعها تفصح عن أن النظام الإيراني هو الآخر يحمل مشروعاً تفتيتياً للمنطقة، وهو ما يعني حصول توافق في المصالح والأهداف بين الطرفين الأمريكي والإيراني تجاه المنطقة. حصل ذلك التوافق أولاً في أفغانستان، ثم تأكد بعد ذلك بصورة أقوى في العراق فقد أكد أكثر من مسؤول إيراني: انه لولا مساعدة إيران لما استطاعت أمريكا احتلال العراق،
ولم يكن ذلك من قبيل المفاجآت أو الأسرار فقد كانت التحضيرات والاستعدادات للغزو والعدوان على العراق جارية على قدم وساق، وكل الأطراف التي كانت تسمي نفسها "المعارضة" قبل الاحتلال والماسكة بالسلطة اليوم كانت شريكاً أساسياً في تلك التحضيرات ولم يكن أحد يتصور أن هذه الأطراف أو القوى المحسوبة على "إيران" يمكن أن تشارك من دون موافقتها أو رضاها.
وسواء حصل التوافق الأمريكي – الإيراني في العراق في إطار تحالف غير معلن أو تم في إطار "تكتيكي" أملاه بعض حسابات المصالح والمستجدات، فإن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل أو ينكر الدور الإيراني السلبي في العراق، فكل الأحداث التي عاشها هذا البلد قبل وخلال وبعد الغزو تؤكد بما لا يقبل الشك أن إيران كانت هي "عصا الأعمى" التي دخلت بها وتوكأت عليها الولايات المتحدة في غزوها للعراق، وبالتالي فإن الطرفين مسئولان مسئولية مباشرة عن إخراج العراق من المعادلة التي تحفظ التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وهو ما سمح لهما باللعب والعبث بأمن واستقرار منطقة الخليج العربي، كما هما مسئولان عن تقطيع ونهش جسد هذا القطر العربي وتدمير كل ركائزه الحضارية والإنسانية، وقتل وتشريد الملايين من شعبه وتنصيب أتباعهما من العملاء من بعض الجهلة والحاقدين والسراق الفاسدين.
واليوم ونحن نتتبع الأحداث في المنطقة نستطيع أن نرى الجانب الآخر من الصورة التي تحكم طبيعة العلاقة بين واشنطن وطهران حالياً وفي المستقبل، نرى أولاً كيف تعمل أمريكا جاهدة على استغلال "الوضع الإيراني" أو توظيف "الحالة الإيرانية" بما يخدم سياساتها العدوانية في المنطقة، فهي بالإضافة إلى محاولتها توجيه الأحداث الداخلية فيها، نراها تصرخ ليلاً ونهاراً بسبب "الملف النووي الإيراني" بزعم أنه يمثل خطراً على المنطقة ويهدد السلم العالمي، وهي هنا (واشنطن) تتجاهل عمداً الخطر الصهيوني الحقيقي، والواقع أن أمريكا ترمي من وراء هذه الضجة المفتعلة الإبقاء على حالة الخوف والهلع التي تعيشها دول المنطقة (بالأمس العراق واليوم إيران) خاصة دول الخليج العربي التي تتعرض بشكل مكشوف لضغوط ومحاولات من قبل واشنطن لدفع هذه الدول لتطبيع علاقاتها مع "الكيان الصهيوني" في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ناهيك عما يمكن أن يؤدي إليه من استمرار حالة الاضطراب وعدم الاستقرار إلى إجبار هذه الدول على الدخول مع أمريكا وغيرها من الدول الغربية في اتفاقيات عسكرية وأمنية، وتوقيع صفقات للسلاح، وهو ما يعني استمرار هدر ونزف مدخولاتها على حساب التنمية فيها وعلى حساب رفاهية شعوبها.
والواقع أن "إيران" من خلال اتباع سياسة تصعيدية على مستويي الخطاب والسلوك، وإصرارها على استعراض عضلاتها وقدراتها العسكرية وإحساسها بأنها الرابح الوحيد على المستوى الاستراتيجي من كل التطورات في المنطقة، وبالتالي المطالبة بالاعتراف بها كدولة إقليمية كبرى ووحيدة في المنطقة، بعد غياب العراق، الأمر الذي يكشف عن طموحات بالسيطرة والهيمنة، نقول ان: إيران بإعلان كل هذا هي في الواقع تقدم الكثير من الحجج والمسوغات لواشنطن وتوجِد لها التبريرات للمضي في سياساتها واستكمال مشروعها الاستعماري في المنطقة.
وبالمقابل أن هذه الوقائع تقودنا إلى استنتاج منطقي مفاده أن الصراع الظاهر على السطح حالياً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران يؤكد أن "العراق" وليس السلاح النووي هو القضية الرئيسية التي تحكم أفق العلاقة بين الطرفين، فإيران تمارس داخل العراق سياسة مزدوجة من خلال ما تملكه من نفوذ وقوة على الأرض، فهي تريد أن تدفع بالانسحاب الأمريكي إلى أبعد مداه من حيث الحجم والوقت، من أجل أن تأخذ هي مكانه، فالعراق هو أهم ورقة استراتيجية بالنسبة إليها، لذلك ليس من المستبعد أو الغريب أن توظف ورقة السلاح النووي، وغيرها من الأوراق السياسية التي تملكها في المنطقة من أجل الدخول في صفقة مع واشنطن تطلق يدها في العراق، وليس من المستغرب أن تقبل الأخيرة مثل هذه "المقايضات" بين الطرفين، خاصة أن أمريكا تواجه حالياً مأزقاً في العراق وأفغانستان، وهما الدولتان اللتان جرى احتلالهما بمساعدة "إيران" وهذه هي الحقيقة الشاخصة التي ليس بمقدور أحد أن ينكرها.
ماذا يعني هذا؟ وما الذي نريد أن نصل إليه؟
يعني بوضوح، وكما أشرنا في سياق هذا الموضوع، أن أمريكا بالرغم مما تمتلكه من قوة عسكرية وتفوقها في العديد من المجالات على مستوى العالم، فإن سياساتها الرعناء التي تخضع لحسابات القوة وحدها كثيراً ما قادتها إلى منزلقات خطرة وأوقعتها في أزمات لا تعرف سبل الخروج منها، ولعل أزمتها الراهنة في العراق تكشف بشكل جلي عن هذه الحقيقة، فحساباتها الخاطئة التي اعتمدتها عام 2003 عندما قامت بعدوانها واحتلالها للعراق، مدفوعة بأوهام القوة وبعض الأحلام المريضة، هي التي أوحت لها بأن احتلال العراق سيكون مجرد نزهة، وأن جميع الأوضاع في هذا البلد سوف تسير وفق مخططاتها الإجرامية، وأن الأمور سوف تبدأ وتنتهي حسب إرادتها ومشيئتها، وأن الطريق سوف يكون أمامها سالكاً مفروشاً بالزهور بمجرد أن ترفع شعاراتها الكاذبة والمضللة حول "الحرية" و"التحرير" و"الديمقراطية" وأن مجرد اتفاقها مع "إيران" (من خلال تعاون الأحزاب الموالية لها) على طبيعة وشكل النظام السياسي للعراق بعد الاحتلال سيجعلها في مأمن، مهما تمادت في جرائمها ضد هذا البلد وضد شعبه.
ولسنا بحاجة للتحدث عما آلت إليه الأوضاع في العراق اليوم، فأمريكا تحتل العراق بما يزيد على مائة وخمسين ألف جندي تساندهم قوة عسكرية من مختلف صنوف السلاح، ولكنها في الواقع تجد نفسها "محاصرة" وعاجزة عن تحقيق أهدافها، وأن خياراتها في هذا البلد تضيق يوماً بعد آخر، كما ترى أمام عينها أن أوراق اللعبة التي رسمتها للعراق تتسرب من تحت يدها واحدة تلو الأخرى.
فنحن عندما نتحدث عن الاتفاق بين الطرفين "الأمريكي – الإيراني" قبل الاحتلال، لا نقول ذلك من باب التحليل أو نطرح مجرد استنتاج يقبل الخطأ أو الصواب، بل ان الوقائع التي كانت تتم على الأرض من خلال اللقاءات والمؤتمرات التي عقدت برعاية واشنطن وبريطانيا في العديد من العواصم الغربية، وبعضها عقد في شمال العراق بعد تمرد "الحركة الكردية الانفصالية" وتفردها بالسيطرة على هذا الجزء من العراق وفصله بالحماية الأمريكية والصهاينة، في هذه المؤتمرات جرى الاتفاق على شكل النظام القائم على المحاصصتين الطائفية والعرقية والاتفاق على طمس عروبة العراق وقطعه عن امتداده القومي، ومن أجل انجاز هذا الاتفاق على الأرض، قامت واشنطن وفي أول خطواتها بعد الاحتلال، بتفكيك الدولة العراقية الوطنية، وإحلال محلها دولة ذات "صبغة" ايديولوجية طائفية، في كل عناوينها ومقرراتها، بدءًا من الدستور مروراً بالجيش وأجهزة الأمن وتشكيل الحكومات والبرلمان وكل المؤسسات الدبلوماسية والإعلامية والثقافية، وانتهاءً بكل مفاصل ما يسمى "العملية السياسية"، ثم جرى بعد ذلك دعم هذه السياسات بالعديد من التشريعات والقوانين القائمة على الإقصاء و"الاجتثاث" والتهميش لشرائح رئيسية في المجتمع العراقي والتمادي في سياسة البطش والإرهاب.
ومع كل هذه الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، وبعد كل التطورات التي شهدها الواقع العراقي طوال السبع السنوات من عمر الاحتلال، عرفت واشنطن أن "حسابات الحقل عندها لم تطابق حسابات البيدر" وعرف العالم أن أمريكا في كل حروبها قد تنتصر وتحقق أهدافها في القتل والتدمير، ولكنها هي خاسرة وفاشلة بامتياز في البناء والتعمير، وربما اكتشفت – ولو بشكل متأخر – أن قواعد اللعبة قد أصبحت خارج سيطرتها، وربما أدركت أن "الثعلب الإيراني" قد استدرج "الثور الأمريكي" إلى مستنقع العراق لاستنزافه وتكسير "قرنه" بعد أن اتضحت حقيقة كون إيران هي الطرف الوحيد الرابح من غزو العراق واحتلاله.
ورأت واشنطن ومعها كل العالم كيف راحت أحلام "طهران" تتعاظم في العراق وفي المنطقة، بل صارت خارج سياق ما هو مسموح به، لذلك أرادت واشنطن وعبر بوابة الانتخابات الأخيرة "تقليم" أظافر إيران سياسياً وتحجيم نفوذها بكل السبل، في إطار المواجهة الظاهرة بين الطرفين على أرض العراق، وهكذا رأينا كيف يحاول كل طرف "كسر عظم الآخر" من خلال تزوير الانتخابات والتلاعب ببرامجها، وتفصيل إجراءاتها وأنظمتها بما يخدم مصالح كل طرف وشاهدنا عملية الإقصاء والإبعاد ومسرحية إعلان النتائج النهائية، وإعادة فرز الأصوات وبالشكل الذي أعاد رسم أو تشكيل القوائم الرئيسية من القوى والأحزاب العميلة لها والمشاركة أصلاً في "العملية السياسية".
فواشنطن رمت بثقلها وحشدت كل طاقاتها وراء قائمة "علاوي" وهي القائمة التي رفعت بعض الشعارات "الوطنية" و"العلمانية" لدغدغة عواطف الشارع العراقي ورغبته في الخلاص من الحكومات الفاسدة والطائفية التي تعاقبت على حكم العراق.
وبالمقابل لجأت "إيران" عبر كل أساليب الترهيب والترغيب إلى دعم قوائم حلفائها من أجل تكريس وجودها ونفوذها في العراق لذلك مارست ضغوطها على حلفائها لإعادة اندماج قواها مرة أخرى لقطع الطريق على تشكيل أي حكومة لا ترضى عنها أو تكون خارج سيطرتها.
وسط هذه الحالة الظلامية التي تسود العراق ووسط فوضى وعتمة الغزو والاحتلال، لم تبرز سوى نقطة ضوء واحدة، هي المقاومة الوطنية العراقية التي استطاعت بفعل استراتيجيتها إرباك حسابات كل الأطراف على الساحة العراقية، حيث استطاعت تعرية أهدافهم الخبيثة وفضح ادعاءاتهم الزائفة حول الديمقراطية، ووجهت ضربة قاصمة إلى "عمليتهم السياسية" الميتة أصلاً، وبذلك أدخلت جميع المحتلين (الأمريكان والإيرانيين) وكل العملاء المتقاتلين على الكراسي والمصالح، أدخلتهم جميعاً في أزمة حقيقية لا يعرفون كيفية الخروج منها.
ولا شك أن الذي أربك حسابات هؤلاء جميعاً، هي تلك الضربات التي قصمت ظهورهم وأشعرتهم بأن احتلال العراق ليس "نزهة" لذلك نقول ان خيارات المحتل الأمريكي في العراق قد ضاقت وتقلصت إلى أبعد الحدود، وليس أمامه سوى التسليم بواقع وحق المقاومة والاعتراف بها كممثل للشعب العراقي والدخول معها في مفاوضات من أجل سبل إنهاء احتلال العراق.
كما أنه ليس أمام الدول العربية الداخلة في العباءة الأمريكية التي أسهمت أو تواطأت مع أمريكا في غزو العراق، وهي تريد اليوم مواجهة إيران ونفوذها المتزايد في العراق والمنطقة عبر "البوابة الأمريكية"، ليس أمامها للتكفير عن أخطائها وخطاياها في حق العراق وشعبه، سوى طريق دعم المقاومة العراقية بكل السبل المتاحة، والتراجع عن دعم المشروع السياسي الأمريكي في العراق الذي فشل فعلاً والذي هو في طريقه للانهيار التام.
عندها سوف يرى الجميع مقدرة وعزم المقاومة على إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، ومعالجة كل إفرازات ومخلفات الاحتلال، و"كنس" كل "القمامات" التي جلبها المحتل وقامت "بتلويث" و"تسميم" أجواء العراق والمنطقة ليعود العراق حراً عربياً موحداً ترفرف عليه راية التحرير.
وان غداً لناظره قريب.