حقيقتان أساسيتان لن تغرب عنهما الشمس، منذ أن بدأت الخليقة وحتى يرث الله الارض ومن عليها، اللتان راح ينأى عنهما الحكم الطائفي اللقيط في العراق، هما المبادئ والوطن.
فبعد أن حشد الاحتلال كل امبراطوريته الاعلامية والسياسية والعسكرية لتدمير الوطن وبناه التحتية، أوعز الى طلائع مشروعه التفتيتي الذين قدموا معه أو التحقوا به، الى انتهاك البنى التحتية للانسان العراقي، وتحطيم كل المبادئ والقيم التي تربى عليها، وأحلال ثقافة غريبة، قوامها الاستهزاء بالنزاهة والشرف من خلال تقديم الحماية التامة لكل الفاسدين والمفسدين وتغيير النظرة الاجتماعية الدونية لهم، الى نظرة جديدة قائمة على أساس الشطارة في ذلك الفعل والجرأة في استغلال الفرصة، كما حاولوا اسقاط الدين في براثن مباركة الظلم والعدوان وانتزاع حافز الجهاد والمقاومة منه، من خلال سحب أقدام البعض من رجال الدين كي يلتحقوا بركب المحتل والسلطة، فباتوا يحرقون لقادة الاحتلال وأزلامه البخور في بيوتهم الخاصة، استقبالا لهم وتيمنا بمقدمهم، ويقيمون لهم الولائم ويقدمون لهم الهدايا، كما سعوا جاهدين الى استغلال البعض من ضعاف النفوس من زعماء وشيوخ العشائر، كي يقدموا لهم بعض الوجوه التي حسبت في يوم ما على المقاومة، وينشئوا منهم ما يسمى (قوات الصحوة)، التي أعلنت عن صحوتها الخيانية ضد أهلها ورفاق دربها ووطنها لصالح المنهج الاستعماري الامريكي.
واذا كان الاحتلال وأزلامه قد نجحوا في اختراق المجتمع العراقي بهذه الوجوه التي تعتبر من أعمدة النسيج الاجتماعي، وسرت سمومهم في دماء البعض حتى تدنت القيم الاجتماعية الى مستويات دنيا، فان الاخطر كان التلاعب الذي مارسه السياسيون بعقول البعض من عامة الشعب، بانتقالاتهم الفجائية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، ومن الجهر بمعاداة الاحتلال وأعوانه، الى مباركة العملية السياسية الامريكية والتبرك بالسلطة والتخلي عن كل المبادئ من أجل الظفر بها، ومن الوطنية والاستحقاقات الشعبية والخطوط الحمراء على عودة من انتهك حقوق الانسان في السجون السرية والعلنية، الى الطائفية واستحقاقات (المكونات)، ومن عروبة العراق وبوابة الامة الشرقية، الى التوسل بايران كي تعطي صك الغفران لهم، حتى يجود ولاتهم على العراق برفع الاجتثاث عن هذا وذاك، أو تنصيب فلان وفلان في سلطة ينأى الشرفاء عن الولوج في مناكبها، والتي لا تجلب الا العار لشاغليها.
وقد برز على هذا المسرح تياران رئيسيان هما (التيار الصدري)
و(قائمة العراقية)، اللذان تعرى قادتهما من كل أوراق التوت التي تغطوا بها قبل وبعد الانتخابات الاخيرة، كي يلبسوا لباس السلطة بأي ثمن، ويديروا بكل وقاحة ظهورهم الى كل ماحمّلتهم جماهيرهم من أمانات، فالتيار الصدري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بدفاعه عن الهوية الوطنية، ووحدة العراق، وحقوق الطبقات المسحوقة من جماهيره، ومناداته بالقصاص القانوني من المفسدين وناهبي قوت وثروات الشعب، وموقعي الاتفاقية الامنية العراقية ـ الامريكية التي ضج (البرلمان) باعتراضات نوابه عليها، وتحركات زعيمه المكوكية بين تركيا وسورية، ولقاءاته مع زعيم القائمة العراقية، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من التحالف معه من أجل التغيير كما قالا، نجده قد باع كل بضاعته في لقاء واحد جرى بينه وبين ممثل المالكي في ايران، بهدي من رسالة بعثها له عادل عبدالمهدي يستنجد فيه شهامته كي يغلب مصالح الطائفة على الخلافات الاخرى، وبرعاية فتوى مشتركة من خامنئي والحائري، فالقى بكل شعارات مرحلته الوطنية الى سلة المهملات، وأبدل كل خطوطه الحمر على المالكي الى خطوط خضراء براقة، واكتفى بأن يحصل تياره على وزارات ومناصب نيابية في رئاستي البرلمان والحكومة، وأن يُطلق سراح مُعتقليه وتسقط كافة الدعاوى القضائية عن الاخرين من أنصاره، فصمتت كل أصوات نوابه في (البرلمان) والناطقين باسمه ووكلائه ومريديه، الذين سمع منهم الشعب شتى صنوف الشتائم والاعتراضات على المالكي وسياساته وسجونه طوال فترة تسنمه السلطة، وبذلك فقد اختصر مقتدى الصدر كل مأساة الوطن والمواطن بسلة مطاليب فئوية وطائفية وحزبية ضيقة، وها هو يجيب على اعترضات أنصاره الذين سألوه ( هل تتوقع التزام المالكي بما أبرمتموه معه، خاصة هو مَن وقع الاتفاقية الامنية المشبوهة لبقاء قوات الاحتلال) فيقول (نعم هو وقع الاتفاق ومد يده ليدافع عن ضرب بوش (بالحذاء)، لكن هذا لا يعني أني اتبرأ منه، بل يجب أن أسعى لهدايته) وبذلك هو يحاول تثقيف أنصاره على ضرورة نسيان الجرائم والسرقات وكل الدماء التي سالت، من أجل فسح المجال له كي يمارس عملية (الهداية) للمالكي وجلبه الى طريق الصواب، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذه الهرطقات والفبركات التي لا أساس منطقي أو حقيقي لها.
أما الطرف الاخر الذي مارس المتاجرة بالشعارات الوطنية وبمأساة الوطن والمواطن وبامتياز كبير، فقد كان (قائمة العراقية)، التي حاولت أن تكون وريثا لجبهة التوافق الطائفية، لكن بزعامة علمانية من طائفة أخرى لاغراض ليست مبدئية، ولا تتعلق اطلاقا بالعبور خارج السرب الطائفي الذي يسيطر على الوضع السياسي العراقي، بل لايمان أطرافها كافة بأن العمل السياسي في العراق لا يمكن أن يعبر خارج الاطار الطائفي بعد اليوم، وكي يصلوا الى المنصب الاول في الدولة، لا بد أن يتخندقوا خلف شخصية من الطائفة الاخرى التي أصبح منصب رئاسة الوزراء في رحلها حصرا ضمن المحاصصة الجارية، وقد كانت تصريحات قادتها الكبار بأنهم يمثلون مكونا لا يمكن تجاهل استحقاقاته، دليلا قويا على طائفية القائمة وعلى ايمانها بالعملية السياسية التحاصصية، بل ان ترشيح أسامة النجيفي الى رئاسة البرلمان وهو المحسوب على أحزاب الاسلام السياسي السني، كان الاطلاقة الاخيرة التي قضت على مصداقية القائمة، بعد أن ترنمت طويلا بالشخصيات المنضوية تحت لوائها من القوميات والطوائف والاديان الاخرى، ولو كان لدى القائمة العراقية أدنى ايمان صادق بالوطنية لدفعت لرئاسة البرلمان آشوريا أو كرديا أو تركمانيا أو شيعيا أو مسيحيا، وبذلك تكون لها دالة وطنية على كل الكتل الاخرى، وسنة حسنة لها أجرها عليها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة.
لقد تبخرت شعارات القائمة العراقية واتضح نفاقها السياسي بشكل مقزز على أعتاب المناصب الحكومية والبرلمانية، فبعد أن عابت على الجميع مراجعهم السياسية الاقليمية وارتباطاتهم بايران، نجدها تتوسل بمراجعهم الدولية والاقليمية وتطالب بضمانات دولية، كي تضمن حصصها الحكومية، بل أن زعيم القائمة كان يسير على خطى التوجيهات الامريكية التي كانت تصله من أوباما وبايدن هاتفيا، حتى لحظة انسحابه من جلسة (البرلمان) الاولى التي فضحت ركاكة قادة القائمة، فالنجيفي يعلن غضبه وسخطه على انعدام الثقة بين القادة وينسحب من جلسة الرئاسة، ثم يعود بخفي حنين، بعد أن نصحته القوى الدولية بالعودة الى ادارة الجلسة، ثم تتقاطر تصريحات المسؤولين في القائمة، بالاسف لفعل الانسحاب الذي ارتكبوه، ثم يتسابقون الى زيارة جلال الطالباني للاعتذار عن عدم مشاركتهم في التصويت على انتخابه، مؤكدين رغبتهم الصادقة بالمشاركة السياسية وتنفيذ كل المتطلبات اللازمة لتأكيد حسن السيرة والسلوك في وقت ملأوا الدنيا ضجيجا برفض المشاركة في حكومة محاصصة، ووضعوا الف خط وخط أحمر على المشاركة في حكومة يرأسها المالكي، وأنه لن يصير رئيس وزراء مرة أخرى الا على جثثهم، وها هو من قال ذلك يقضي معظم وقته معه في المنطقة الخضراء رئيسا لبرلمان مزيف، بينما القائد البارز الاخر بعد أن اجتثه المالكي وحرمه من الانتخابات، وقيل انه صدرت عليه مذكرة القاء قبض هرب على أثرها الى عمان، يجلس اليوم الى جوار المالكي جنبا الى جنب في مجلس الوزراء نائبا له، بعد أن أبدع في تقديم حسن السيرة والسلوك هو وقيادّيون آخرون من نفس القائمة، عندما تقدموا بطلبات استرحام الى رئيس هيئة (المساءلة والعدالة) والى رئيس الوزراء كي يعفو عنهم، وعن تمجيدهم لحزب البعث، الذي أقسموا أغلط الايمان أنهم لم ينتموا اليه، ثم حملوا أوراق الاسترحام تلك الى قاعة (البرلمان) كي يقرأوها علنا على مسامع زملائهم النواب متوسلين الصفح عنهم من (نواب الشعب)، لكن نواب التحالف صفعوهم على وجوههم عندما غادروا الجلسة رافضين اعتذارهم قبل ان يقرأ هؤلاء الاعتذار، بينما كان الجمهور الذي صوت لهم عبر صناديق الاقتراع يرقب المشهد ويصفعهم بقدر عدد الاصوات التي صوت لهم بها، بل كان الجمهور يتمنى لو استعار المطلك والعاني والكربولي بعضا من شجاعة امرأة عراقية مناضلة كانت بعمر أبنائهم هي يسرى سعيد ثابت، حينما وقفت أمام أقبح محكمة في التاريخ تهتف باسم العروبة والحق والمبادئ في خمسينيات القرن الماضي، غير هيابة بحبال الاعدام التي كانت ترمى عليها، ولا بقصائد الانتقام التي كانت تلقى في قاعة المحكمة للتحريض على قتلها، لانها كانت واثقة تماما من أن حياتها كانت مجرد وسيلة شريفة لتحقيق أهداف نبيلة، وليست منصبا يباع ويشترى أو جاها حياتيا زائلا، لذلك وقفت هي ورفاقها وأخوها المناضل أياد سعيد ثابت يصدون بدمائهم أبشع هجمة شعوبية على الامة، ولم يهادنوا أو يعلنوا البراءة كما فعلها هؤلاء ويخذلوا من صوت لهم، لكن البطولة لا تحملها الا النفوس النقية والضمائر التي تتحسس أوجاع الشعب ومعاناته، وبائعو الشعارات أبعد ما يكونون عن ذلك.
'باحث سياسي عراقي