سنة بعد سنة يلحظ الإنسان كيف انقلبت ظاهرة إيمانية ورمزية نورانية ربانية إلى ظاهرة فولكلورية تعبّر عن الكثير من إشارات الجهل والتخلف عند ممارسيها. وفي هذا الشأن لا يختلف المسلمون عن المسيحيين الذين قلبوا الاحتفالات بعيد المسيح إلى بهرجات مادية استهلاكية دخلت في الدورة الاقتصادية السنوية لتلك البلدان. دعنا نبرز بعضاً من إشارات وممارسات التشويه وسوء الفهم التي لحقت بالظاهرة الرمضانية والتي ستزيدها تجذّراً وتنوّعاً قيم الثقافة العولمية الإعلانية الاستهلاكية التي تجتاح أرض العالم كله، ومن ضمنه عالم العرب والمسلمين، التي اندمجت حديثاً في نسق الثقافة الرمضانية القديمة المعهودة:
أولاً: ممارسة الهجمة الشّرائية النهمة لمواد الأكل والشراب قبل وأثناء رمضان من قبل كل الشرائح الاجتماعية، فقيرها وغنيّها. وهي هجمة مرتبطة مباشرة بالإسراف إلى حدود التخمة في الأكل والشراب من غروب الشمس حتى طلوعها. ولا يوجد تفسير منطقي لهذه الظاهرة المرضية التي تجمع الضدّين، الصيام والتخمة، والتي تتعارض مع مقاصد الدين من فريضة الصوم ومع تحليلات العقل ومع متطلبات الاقتصاد في المجتمعات الفقيرة، والتي أيضاً تعجز علوم النفس والاجتماع عن تبريرها. وبالطبع لم يغب عن بال الانتهازية التجارية المحلية أن تستفيد من هذه الأجواء الطفولية النفسية وذلك باستعمال كل أدوات ووسائل وألاعيب الإقناع الاستهلاكية الحديثة لتأجيج الغرائز الشهوانية الغذائية لدى جموع المسلمين. وهكذا تئن ميزانيات الدول العربية والإسلامية، وغالبيّتها الساحقة فقيرة وغير منتجة، تحت وطأة عادة الإسراف هذه. بل تتراكم الديون الفردية على أعداد كبيرة من الناس لتضعف إمكانيات التوفير في هذه المجتمعات من أجل استعمالها في دعم مشاريع التنمية والعمران. ثانياً: نلاحظ أن دروس رمضان الدينية والروحية والنفسية والجسدية قد قصد بها أن تكون تمارين وتدريبات للصائم وذلك من أجل أن يتعوّد ممارسوها على مد تلك الممارسة لتشمل العام كله، بل العمر كلّه. ولذلك فان ممارسة التوقف المؤقت أثناء رمضان عن التدخين أو شرب الكحول والعودة المؤقتة إلى الصلاة والتعاطف مع الفقراء والمهمشين أثناء فترة الصيام القصيرة هي بهلوانية ذهنية وسلوكية في ممارسة الدين تجعل منه موضة مسرحية مؤقتة في حياة الإنـسان. ولعل بعض الخطابات الفقهية التي تجعل من رمضان شهراً خارج الزمن البشري وخارج الاجتماع الإنساني، باسم نزول القرآن الكريم أثناءه، تؤدّي بقصد أو بغير قصد إلى سلخ معانيه ومقاصده والتزاماته وممارساته ودفء عبقه الروحي من بقية شهور السنة الأخرى. ثالثاً: إن الهوس التجاري النّفعي بالبرامج والمسلسلات التراثية إبّان شهور رمضان يرسّخ في أذهان الناس أنه شهر تراثي لا صلة له بأجواء وقضايا وفهم وأحلام وتفاعلات حاضرهم. إضافة إلى أن العدد الهائل من تلك البرامج والمسلسلات، التي يمتدّ عرضها إلى ساعات الفجر، ينهك قدرة وحيوية المجتمعات للعمل والإنتاج ويبقي المشاهدين في حالات استرخاء ذهنية تضعف حيويتهم الروحية. ذلك أن منتجيها وعارضيها لا يرون في الثقافة الرمضانية المسطّحة إلا فرصة لممارسة ألعاب البيع والشّراء والربح والخسارة التي تسلع المناسبات ومن ثم البشر المنبهرين بها. إن قلب شعيرة دينية غنية بالمعاني الروحية المحررة للنفس إلى مناسبة إسراف اقتصادي وتخمة غذائية وتبذير شخصي ومديونيات عائلية مرهقة وممارسات فولكلورية تراثية تستدعي بناء ثقافة فقهية رمضانية تخرج هذه المناسبة من عبث التشويه وتعيد لها حيويتها الروحية لإغناء أيام السّنة كلّها وسنوات عمر الفرد كلّها، ولالتحامها التام المتجدّد مع قضايا الفقر وعدالة توزيع الثروة ورفض اللامساواة في أرض العرب والمسلمين. إن من عادات البشر، عبر تاريخهم، حرف مقاصد الأديان وتشويه أهداف الايديولوجيات، غير أنها، ككل العادات، يمكن تقويمها وتصحيحها، ليعود للحياة سموها.