عبدالنبي العكري
«الطبل» هو واحد من أشهر أفلام المخرج الألماني جونتر جراس، وتناول حياة طفل في مرحلة صعود النازية في ألمانيا في الثلاثينيات، وتوّجت بالحرب العالمية الثانية الكارثية التي أكلت الأخضر واليابس في أوروبا والعالم.
يقدّم لنا جونتر جراس بطله كطفلٍ قارع طبل في كشافة الحزب النازي من الأطفال واليافعين، ثم يتدرج إلى عضو في الشبيبة النازية، ثم عضو في الحزب الاشتراكي الوطني (النازي) ومقاتل في صفوف الرايخ الرابع.
ويربط جراس بشكل ذكي بين قرع الطبل مع ما يحدثه من تهييج للنفوس، وإغراقها في الوهم وتكييفها لتتقبل الدعاية النازية اللاعقلانية. كما يربط بين فراغ العقل وفراغ الطبل.
لقد درج في ثقافتنا الشعبية تعبير الطبّال، وهي لا تعني الطبّال الفعلي، وإنما المروّج لأسياده ومعزبيه وأفكارهم وأطروحاتهم باللجوء إلى تكرار تعبيرات وجمل وأفكار مغلوطة، حتى يتم التسليم بها كحقائق، كما كان قارع الطبل في فيلم جونتر جراس. وإذا كان قارع الطبل في فيلم جراس مخدوعاً ومأخوذاً بفكرة جهنمية هي الايدلوجية النازية، فإن نظراءه لدينا لا ينطلقون فيما يروّجون إلى عقيدة أو إيديولوجية، فهم يعرفون جيداً أن ما يروّجون له غير منطقي، لكنهم ينطلقون إما من حقد أعمى وعصبية جاهلية، أو من منافع أنانية، وقد بانت النعمة على كروشهم وفيلاتهم وبذخهم وسياراتهم.
لنحاول أن نفند منطقهم في الدفاع عن السلطة والفئات المنتفعة منها، ومهاجمتهم الدائمة للمطالبين بالإصلاحات الشاملة والعميقة.
بادئ ذي بدء، يعتبرون الدولة دولة مدنية، أما ما تطالب به المعارضة فهي دولة ثيوقراطية (دينية) على غرار إيران، ويذهبون أبعد من ذلك، في وصفها بدولة «ولاية الفقيه»، لكنهم يعرفون قبل غيرهم أن الدولة ليست مدنية، بمعنى الدولة العلمانية، حيث يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات، فهناك تمايزات واضحة بناءً على الانتماءات الطائفية والقبلية، وتنعكس على الملكية والثروة وخصوصاً العقارية. وتسنم وظائف الدولة، والتمثيل في البرلمان. وهذه الدولة ليس ديمقراطية انطلاقاً مما نص عليه الدستور من أن «الشعب مصدر السلطات جميعاً»، بل نخبة ضيقة، تسيطر على الثروة والسلطة.
وبالمقابل فإن ما تطالب به حركة التغيير، وهي أكبر من المعارضة، ليس دولة دينية ثيوقراطية، ولا دولة ولاية الفقيه، بل دولة مدنية ديمقراطية حقة، ينتفي فيها التمييز والامتيازات. دولة قائمة على المواطنة المتساوية، وأن الشعب هو مصدر السلطات جميعاً. دولة يتمتع فيها شعبها بثرواته الطبيعية، وتصان فيها الملكية العامة من أراضٍ وسواحل وجزر وثروات باطنية، وغيرها. ونحيلهم إلى «وثيقة المنامة» الصادرة عن تحالف المعارضة.
أما المغالطة الثانية، فهي اعتبار جميع ما تقوم به المعارضة أو الحركة الحقوقية من نشاطات أو فعاليات أو احتجاجات، بأنها عنف يتوجب إدانته، وقد يصاحب بعض الاحتجاجات عنف وهو عنف مدان، لكن العنف الأكبر يأتي من قوات الأمن الذي تسبب في قتل ما يزيد عن مئة ضحية، دون أن يلقى إدانةً من قبل هؤلاء المتحاملين.
أما المغالطة الثالثة، فهي أن الحكومة المنتخبة تتعارض مع الدستور، وأنها ستؤدي إلى حكومة محاصصة وليست حكومة وفاق وطني. وإمعاناً في التويتر فإنهم يصوّرون بقاء الوضع الحالي كضمانة وحيدة لاستقرار البلاد، وإلا فإنها ستنزلق إلى المجهول، وأن الحكومة المنتخبة أو الحكومة الحائزة على موافقة البرلمان، بمثابة تعدٍّ على صلاحيات الحكم، كما ستؤدي إلى تهميش الطائفة. ولا ندري كيف تكون مملكة دستورية ديمقراطية، إذا لم تنبثق الحكومة من البرلمان المنتخب المعبّر عن إرادة الأمة! وبالطبع أن ذلك يتطلب تعديلات دستورية، وهو أمر منطقي لأي نظام يريد تطوير نفسه.
المغالطة الرابعة أن كل من يطالب بالإصلاح الجدي والتغيير الشامل من المعارضة أو الجمهور هو خائن للوطن، وعميلٌ لإيران وحزب الله و… والقائمة تطول، بينما من يريد تكريس الوضع الراهن هو الوطني الغيور، وذلك في خلطٍ للأوراق وتشويهٍ لسمعة المعارضة ما يلقى هوى لدى قوى ودول إقليمية. وفي هذا السياق، يأتي الكشف بين فترةٍ وأخرى عن اكتشاف خلايا وهمية ومؤامرات متخيّلة لقلب نظام الحكم أو التآمر مع قوى أجنبية.
إن هذه إهانةٌ لشعبٍ اختار طوعاً وفي ظل استفتاءٍ للأمم المتحدة، خيار الدولة المستقلة الديمقراطية في ظلّ آل خليفة، على خيار الالتحاق بإيران في العام 1970، وأكّد ذلك في الدستور ومن خلال الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني في 2001. والسؤال الذي يوجّه لهؤلاء: من هو أكثر وطنيةً: من يؤكد على استقلالية الوطن أو ارتهانه لقوى إقليمية؟ لقد قالت سلطنة عمان كلمتها الواضحة والجريئة، نحن إقليم مستقل منذ عهد الرسول، كذلك إقليم البحرين مستقل منذ عهد الرسول، فما هي دواعي الإلحاق سوى الاستقواء بالخارج؟ وهكذا يمكننا الاستطراد في تفنيد أطروحات هذا الإعلام المنحاز.
إن من الملاحظ أن أسلوب هذا الإعلام يفتقد إلى أدنى درجةٍ من الموضوعية، فمن الناحية الإخبارية يستفيض في عرض وقائع وأحداث ووجهات نظر الحكومة والموالاة، ويحجب تماماً وقائع وأحداث ووجهات نظر المعارضة والمجتمع المدني المستقل. وإذا ذكر واقعةً ووجهة نظر فإنه يعمد إلى تشويها والتقليل من شأنها.
أما الملاحظة الثانية فهي أن كتّاب الرأي، إن أسميناه رأياً، ينطلقون من موقف مسبق يفتقد إلى الموضوعية، فهو خطابٌ مشحونٌ بالكراهية والحقد والتخوين، ليس بحق المعارضة فقط، بل ضد مكوّنٍ أساسي للوطن، وتنضح منه العنصرية والطائفية. ويتعدّى الأمر إلى الأخلاق حيث لا يتورّع هؤلاء عن وصف من يختلفون معهم بأقذع الألفاظ التي تقع تحت طائلة القانون، لو كان هناك قانون يُحتَرم ويطبّق على الجميع.
لقد وصفت اللجنة البحرينية المستقلة لتقصى الحقائق «لجنة بسيوني» خطاب التحريض والكراهية هذا وطالبت بوضع حدٍّ له، وأن يكون الإعلام حاثّاً على التلاحم الوطني، وأن يتحلى بالموضوعية. لكن الشاعر يقول: لقد أسمعت لو ناديت حياً… ولكن لا حياة لمن تنادى!
لقد استمرأ هؤلاء حياة البلهنية التي لم يكونوا يحلمون بها، ووجدوا كل الدعم من الجهات الراعية، لكن فاتهم أن الزمن تغيّر، وأن الفضاء الإلكتروني مفتوحٌ، وأن أصغر طفل يدرك المغالطات والافتراءات في هذا الزمان.