محمد رضا بوحسين
إن الطائفية «مصطلح» ينتمي بالدرجة الأولى إلى ميدان «السياسة» لا إلى مجال الدين والعقيدة، إذ الدين وفقاً للشرائع السماوية يحترم التعدد والاعتقاد والتوحيد سواء في العقيدة المسيحية أو الإسلامية، فمن يفهم الدين يعلم أنه عقيدة هدفها التوحيد.
«فالطائفية» في حقيقتها أداة توازي السوق السوداء للسياسة، ينتهجها البعض مشروعاً سياسياً وصولاً لتحقيق نتائج لا يمكن التوصل إليها إلا من خلال هذه الممارسة دون اعتبار لآثارها المدمرة على المستوى الاجتماعي والوطني وما تقوده من مقدمات لانقسامات داخلية اجتماعية وسياسية تهدد بتغيير ملامح المجتمع السياسي القائم وجغرافية، وأخطرها قابلية تحولها لحرب طائفية أو أهلية لا تبقي ولا تذر، خاصة إذا كانت قائمة على قاعدة الاحتقانات السياسية والأمنية التي تنتهج أدلجة الصراعات بين أطرافها بقصد المحافظة على وجود فرقائها وتعزيز مواقع أطرافها.
إن الفتن والحروب الطائفية لو وقعت واتسع مداها يصعب بعدها عودة الاستقرار، إذ إنها لا تتوقف عند حدود البلد والمجتمع الذي تدور رحاها داخله، وإنما تمتد وتتسع لتشمل المنطقة المحيطة بها ما دامت التداخلات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ناشطة وطبيعية بين بلد الاحتراب ومحيطه الجغرافي، وهنا تكمن خطورة محاولة الأطراف الخارجية استثمار الفتن والاحتراب الداخلي بما يخدم ويحقق مصالحهم بالدرجة الأولى.
إن أشد ما ابتليت به أمتنا العربية والإسلامية طوال التاريخ هو الفتن الطائفية، ولعل ما يمر به العالم العربي في هذه المرحلة الدقيقة تستدعي منا كشعوب (إسلاميين ومسيحيين)، ونخب سياسية وأنظمة أن نستوعب الأهداف المبطنة للسياسات الخفية والمعلنة التي يراد لها أن تتحقق بأيدي الشعوب لصالح تحقيق الحلم الكبير بالشرق الأوسط الجديد تكون أهم معالمه تقسيمه إلى كنتونات عرقية وطائفية ستكون فيه شعوب المنطقة الحلقة الأضعف لتاريخ الألفية الثالثة وهي الخاسر الأول اقتصادياً وسياسياً وسيادياً.
إن كانت حالة الاستقطاب السياسي – في هذه المرحلة التاريخية – بالمنطقة العربية والإسلامية داخلياً وخارجياً ساهم في وجود توترات طائفية، فمن الطبيعي جداً أن تسعى بعض الأطراف الدولية، إبقاء فتيل هذه التوترات الطائفية مشتعلاً لإضعاف كل الأطراف الداخلية في تلك الدول، ولو نظر كل طرف منا داخله إلى مصالح الأمة وأولاها الاهتمام المطلوب بحيث جعلها أسمى أهدافه لما استطاع الغير دولياً من اختراق جسد الأمة من ثقب الفتن الطائفية ليتخذه ممراً ضيقاً لحروب أهلية تجر البلاد والعباد إلى مستقبل مجهول، وإلى جراحات دامية تصيب النفوس قبل الأبدان.
فإذا كان طموح بعض الدول في المجتمع الدولي هو إيجاد شرق أوسط جديد وفقاً لروئ سياسية معينة، فإنه علينا كشعوب وأنظمة ونخب سياسية أن ندرك ألا نكون أدوات نلعب دور هذه الدول لتحقيق أهدافها واستراتيجياتها وطموحاتها على حساب مصالحنا الذاتية والوطنية والإنسانية، لنكون بعدها مستعبدين ولكن بقيم جديدة وفق معايير الألفية الثالثة.
ليس المقصود تعليق مشاكل المنطقة على مشجب «نظرية المؤمراة»، إلا أن المؤمرات لا تنجح إلا بخلل في الذات وهو ما يستدعي دائماً الالتفات إلى ذاتنا ومصالحنا وعقولنا والتحليل الواعي للواقع السياسي والتاريخي لمحيطنا. فإذا كان صحيحاً أن أمتنا والمنطقة مستهدفة، فإن الأصح أن نكون جميعاً دائماً على درجة من الوعي والالتفات لذاتنا وما هي عليه وما ينبغي منها، حتى لا نتيح للمستهدفين أن ينجحوا في اختراق واستثمار مشاكلنا الداخلية، من خلال الفتن الطائفية التي قد نشعل حطبها بأيدينا بقصد أو دون قصد تحت عناوين فئوية أو استحقاقات آنية ولكن بالنتيجة نحقق بأيدينا فيها أهداف غيرنا. فإن تشاغل وانشغال البعض في إثارة الفتن الطائفية لاشك سيهيئ للمؤمرات ممرات سالكة للعبور وخلط الأوراق الداخلية، وما سيتحقق سيصاغ بمعادلة في ظاهرها تحقيق جزئي لطموح هذه الشعوب ولكن في باطنها يحقق 80 في المئة من طموح الدول الداعمة و20 في المئة من طموح الشعوب المستهدفة!
إن وضوح القرائن تدل على المدلول، فالغرب منذ البداية شجع حركات الربيع العربي وحركها باعتبار أنها غير «مؤدلجة» إلا أنه استخدمها كمقدمة لينتهي بالنتيجة إلى «أدلجتها طائفياً» لأنها الأداة الوحيدة التي يمكنها بأقل الكلف وبأيدي الشعوب تحقيق حلمه وطموحاته بشرق أوسط جديد.
فبقراءة بسيطة للمفكر الأميركي كرمت روزفلت، يمكننا أن ندرك أن السياسة الغربية في منطقة الشرق الأوسط أشبه بمشتل زراعي يهتم فيه المسئول بصحة كل مشكلة من مشاكل المنطقة ويحرص على رعايتها ويسقيها بالماء ويمدها بالأسمدة بحيث تكون مشكلة كل بلد أكبر من غيره من الدول حتى يتمكن من السيطرة على هذه القطاعات الزراعية!
فبعد أن انقشع غبار ما أطلق عليه الربيع العربي، انكشف البطن الحقيقي لما يراد له أن يتحقق وبرزت الأجندات الحقيقية التي ما كانت الشعوب تدركها، وفجأة ظهرت الممارسات الطائفية لأنها السبيل الوحيد لتمزيق وتفتيت الجماعات ذاتها التي وقفت صفاً واحداً ضد أنظمتها، وذلك حتى تتمكن الأيادي الخفية التي لعبت دوراً في تحريك هذا البركان من تحقيق ما تطمح فيه، وهذا ما يفسر حقيقة تحول الحركات غير المؤدلجة إلى الطائفية بعدما استقر بها النوى!
ومن هنا علينا أن ندرك شعوباً ونخباً سياسية وأنظمة، حقيقية الدور الذي يتوجب أن يلعبه كل طرف في هذه المرحلة الدقيقة لمنع تحقيق ما لا يحمد عقباه.
فالشعوب والنخب السياسية، عليها أن تكون على درجة من «الوعي» لمنع استغلالها من الغير الذي يسعى إلى تحقيق طموحاته عن طريق الشعوب، وأن تدرك أن وجود مصالح وأجندات سياسية ضيقة عند بعض الأشخاص أو الجماعات التي تعمل دون أن تعي للأخطار المترتبة على ديمقراطية المصالح الضيقة على ديمقراطية المصالح العامة، وأن غياب الرؤى الاستراتيجية للأطراف الداخلية المعنية بالفتن الطائفية وعدم وعيها لآثار هذه الممارسة على المنظومة الاجتماعية والسياسية والفكرية في المجتمعات وما تؤديه من الانتقال إلى المجهول.
أما الأنظمة، فهي معنية ومسئولة بالدرجة الأولى من وضع عدد من الضوابط والأطر التي تحمي بها استقرار المجتمع وتعايشه السلمي على درجة واحدة من الحقوق والقدسية والمواطنة الحقة التي تشعره بالانتماء وحق الوجود والحياة، والتوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة بإدانة جميع العصبيات، وأهمها أن تعمل على ما يلي:
1. إيجاد منظومة إعلامية تعمل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. الفتن الطائفية تبدأ من الإعلام الطائفي الذي يثير الخلافات الطائفية ويكرس التعصب المذهبي أو الديني الذي يستفيد منه الغلاة من جميع الأطراف، الجميع يعلم كم سلطة الإعلام خطيرة وكيف يمكنه أن يحول الجنة إلى نار والحق إلى باطل فيهدم أنظمة ويقيم أخرى.
2. محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات، وهذا أمر يتطلب من المسئولين في الأنظمة التحلي بشجاعة كبيرة لتحمل المسئولية، إذ يجب عليهم النظر إلى مصلحة البلد واحترام القانون والقضاء بعين من الحيادية والابتعاد عن تصريف أي مشكلة أمنية أو سياسية أو قضائية عبر خانة الطائفية.
3. إيجاد نخبة وطنية، لها القدرة على الارتقاء فوق المصالح الجزئية والفئوية، حتى تصبح في مستوى المسئولية الوطنية، أي أن تتحرر النخب السياسية من هذه الممارسة لتتمكن من تجسيد الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من ارتهانها للعصبايات الخاصة حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة أمة ومواطنين.
4. العمل على رفع نسبة الوعي بأهمية التعايش المجتمعي خارج إطار الطائفية، فكلما زاد الوعي انكمشت القوميات والطائفيات في جغرافيا الوطن.
إن إدراك جميع الأطراف (الشعوب، النخب السياسية والأنظمة) لقواعد اللعبة، بعد أن وضحت الصورة بتحويل الحركات غير المؤدلجة إلى أدلجتها طائفياً، أن الهدف هو إدخال المنطقة في حرب طائفية باردة ستكون آثارها كارثية بكل المقاييس على الشعوب والأنظمة، فيتحقق بأيدينا على حساب مصالحنا حلم الشرق الأوسط الجديد. إننا جميعاً معنيين، بمختلف مواقعنا ومواقفنا قيادة العملية السياسية والبناء الاجتماعي بالمنطقة وفق مشروع سياسي توافقي يحيط المصالح الشعبية والسيادة الجغرافية للمنطقة بحماية يجعل من المنطقة جنة تعيش فيها الشعوب وتعز فيها الأوطان وتسقط على أعتابه مخطط شرق أوسط الألفية الثالثة.