عبدالنبي العكري
أضحى شائعاً خلط الناس للطائفة والمذهب، ومن ثم الخلط بين الطائفية والمذهبية، واعتبارهما أمرين متلازمين، وهو خطأ شائع.
لاشك أن جميع الديانات السماوية والوضعية، بما فيها الإسلام والبوذية مثلاً، شهدت ظهور مذاهب ومدارس فكرية بعد موت رسولها أو مؤسسها، فقد شهد الإسلام أول خلافات ما بين الصحابة في واقعة السقيفة بعد موت الرسول (ص) مباشرةً. وبسبب غياب المرجع المجمَع عليه ظهرت اجتهادات فقهية، في ظل ظروف جديدة وإشكالات جديدة ومصالح فئوية وسياسية وغيرها. لقد توفي الرسول (ص)، وسيطرة المسلمين لم تتجاوز جزيرة العرب، وكان الرسول يحث المسلمين وخصوصاً الصحابة، على تجهيز جيش أسامة بن زيد ليعبر حدود الجزيرة العربية شمالاً، لكنهم كانوا منغمسين في صراع على الخلافة. والمهم أنه بعد موت القائد المؤسس للإسلام (ص)، ظهرت مذاهب ومدارس فكرية وفلسفية عديدة، منها مدرسة الإمام جعفر الصادق (ع)، والإمام الشافعي (ر) والإمام أبو حنيفة النعمان (ر)، والإمام مالك (ر) والإمام أحمد بن حنبل (ر)، من أئمة أهل السنة. كما ظهرت اجتهادات فكرية مهمة لفقهاء مثل أبي حامد الغزالي وواصل بن عطاء (مؤسس مدرسة المعتزلة)، وهناك مؤسسون لمذاهب أصغر مثل الزيدية نسبةً إلى الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين، والإباضية نسبة إلى الإمام عبدالله ابن أباض، والإسماعيلية وغيرها العشرات من المذاهب والمدارس الفكرية.
وظهور المذاهب وازدهار بعضها وأفول البعض الآخر، مرتبط بعوامل تاريخية وجغرافية وبشرية عديدة مثل قيام الدول وأفولها، والعزلة والانفتاح، وتدخل الدول الأخرى إلى حد الغزو، وتوجّه الحاكم ذاته. وكلنا يعرف أن دول الخلافة الإسلامية تبنت مذاهب معينة، وحاربت أخرى لإضفاء الشرعية على حكمها. فبعد حكم الخلفاء الراشدين الأربعة حيث لم تكن هناك مذاهب، حاربت الدولة الأموية المدرسة الفكرية لأهل البيت، فيما حاربت الدولة العباسية المدارس الفكرية لأبناء عمومتهم العلويين، ومنها مدرسة الإمام الصادق (ع)، مؤسس الفقه الجعفري. وقد تركت الدولة العباسية الحرية للمدارس الفكرية الأخرى، غير أن الخليفة المأمون، وفي ظل اهتمامه بالفلسفة اليونانية الوضعية العقلانية، تبنّى فكر المعتزلة وزجّ بالمقابل بالإمام أحمد بن حنبل في السجن لمخالفته فكر المعتزلة. وفي ظلّ الاضطهاد الديني ظهرت المدارس الصوفية السرية، التي تعرّضت للقمع بحيث تم إعدام داعيتها الحسين بن منصور الحلاج ليكون عبرةً لمن يعتبر، ما اضطر الصوفيين اللجوء للتقية والانزواء في أماكن نائية، ومنهم الشاعرة رابعة العدوية.
ونلحظ في التاريخ الإسلامي اضطهاد أتباع مذاهب تُعتبر متمرّدةً على المألوف، مثل الأباضية والإسماعيلية والزيدية والموحّدين (الدروز)، ولذلك لجأ أتباعها إلى بلدان الأطراف والأماكن الحصينة. وقد ازدهر المذهب الإباضي في عمان، والمذهب الزيدي في اليمن، والإسماعيلية في شمال سورية، والدروز في جبل لبنان وجبل السويداء. والغريب وجود أباضيين في أطراف الصحراء الكبرى جنوبي بلدان المغرب العربي في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب.
وكما حدث في حضارات أخرى، فقد تحوّلت المدارس الفقهية التي هي ظاهرة صحية، وبفضل تدخل الدولة القسري ومصالحها وميول حكامها، إلى مذاهب شبه مغلقة، تنازعت أولا، وكفّر منظّروها بعضهم البعض، أو شكّكوا على الأقل في إسلامهم، ثم احترب أتباع المذاهب، وهو ما شهده الغرب المسيحي أيضاً. لكن الأخطر هو انحدار أتباع المذهب إلى طائفة. فبفعل استبدادية الدولة العربية الإسلامية سواءً كانت خلافة أو سلطنةً أو مملكةً أو إمارة، مع ما يفرزه من تبنٍّ لمذهب واحد وفرضه قسراً على المذاهب الأخرى، واضطهاد أبتاعها، تحوّلت المذاهب إلى طوائف مغلقة، لا يخرج من أتباعها أحد ولا يدخل فيها من خارجها أحد، إلا فيما ندر، خلافاً للحالة الصحية لتعدّد المذاهب الفكرية والدينية، حيث من الطبيعي تبنّي مدرسة فكرية أو دينية والتخلي عن أخرى، وهو ما ترتب عليه ظهور مدارس فكرية ودينية جديدة كانت تبدو في بدايتها خارج المألوف.
إن ما تعانيه الأمة العربية والعالم الإسلامي اليوم من ظاهرة الطائفية المقيتة، هو محصلة لقرون من الاستبداد والانحطاط العربي والإسلامي، ثم قسرية الدولة العثمانية الدينية، وتعاملها مع غير أهل السنّة من المسلمين وأتباع الديانات الأخرى كالمسيحية مثلاً، كأقليات وليس كمواطنين متساوين.
وجاء الاستعمار ليستغل الخلافات المذهبية والدينية ويغذّيها ليحكم سيطرته، مع وجود حكام ونخب في معظم البلدان التي حكمها، تعاونوا معه في سياساته المدمرة. وأخيراً جاءت دولة الاستقلال مبشّرةً بعهد جديد من المساواة بين المواطنين وإشاعة الحريات الدينية من بين أهداف جميلة كثيرة، لكن الذي حدث عكس ذلك تماماً، فلم تمض بضع سنوات على نيل الاستقلال بعد حروب تحرير وطنية في بعضها، ساهم الجميع فيها وصهرت كل قوى الشعب بغض النظر عن الدين أو المذهب أو القومية أو الطبقة، إلا أنه سرعان ما تبنت معظم هذه الدول مذاهب معينة وتفسيراً ضيقاً للإسلام، ما أسهم في تكتل أتباع المذاهب الأخرى وانغلاقهم عن بعضهم البعض، وتكرّس كينونة الطوائف.
الطائفية ليست نتاج اليوم أو حتى التاريخ القريب، بل هي صيرورةٌ رافقت انحدار الحضارة العربية الإسلامية، وتفكك الدولة العربية وخضوعها للقوى الأجنبية، ثم تشرذمها وتجزؤها إلى دول، انتهى الحكم في معظمها إلى التسلط والفئوية بل والطائفية، «وكما تكونوا يولّى عليكم». إنّما الطائفية بظواهرها الخطيرة الحالية، هي نتاج الفكر السلفي المتطرف، والجهادية السلفية أهم مظاهره، حيث توجّهت إلى استهداف أبناء الإسلام الآخرين قبل الأجنبي، وكانت أخطر انطلاقاتها في أفغانستان، حيث عمّ بلاؤها الوطن العربي والعالم الإسلامي من أندونيسيا وباكستان شرقاً حتى المغرب غرباً، ومن تركيا شمالاً حتى الصحراء الكبرى جنوباً.
تكمن الخطورة في تصاعد العنف الطائفي لفظياً وجسدياً، واحتدام المعارك الطائفية كما في باكستان والعراق وسورية ومالي وليبيا، وخطورة تحوّله إلى حروب طائفية. ومعروفٌ التلويح بشقّ المسلمين بين سنة وشيعة، وخرافة الهلال الشيعي مقابل الهلال السني، ومعنى ذلك تقسيم عددٍ من الدول العربية المتعددة المذاهب مثل المملكة العربية السعودية والعراق وسورية ولبنان والحبل على الجرّار. وهو ما سيقود إلى غرق الأمة العربية والعالم الإسلامي في حرب ضروس، أين منها حروب الجاهلية الأولى، وهو الأمر الذي تدعو إليه «إسرائيل» وغلاة الطائفيين المتعصّبين من جميع المذاهب.
الطائفي لا يدافع عن طائفته، فمصلحة طائفته هي في التعايش والمساواة مع الطوائف الأخرى، والمذاهب الأخرى، لكنه محكومٌ بفكرٍ لا إنساني مغلق أو حبيس الكراهية، أو الساعي وراء المال والنفوذ. الطائفي هو عدو أبناء طائفته وأبناء الطوائف والمذاهب والديانات الأخرى.
الآن وقد وضحت نذر الكارثة، فلنعمل لتعايش الطوائف على الأقل، ومساواة أبنائها أمام القانون، وحيادية الدولة، وإبعاد الطائفية عن شئون الدولة، ثم نعمل في مرحلة لاحقة إلى انتهاء ظاهرة الطائفية، واتباع الناس لمذاهب ومدارس فكرية مفتوحة للكل ومنفتحة على بعضها، ومتسامحة مع من يختلف معها، وبالطبع تعايش أتباع مختلف الأديان، في ظلّ المواطنة المتساوية، وحيادية الدولة تجاه الاختلافات المذهبية والدينية… فهل نعي خطورة ما يجرى ونتصدى له بحكمة قبل فوات الأوان؟