الشعب المقصود هنا في هذا الحديث هو الشعب العربي الممتد وجودًا من المحيط إلى الخليج، فقد كان وما يزال يقدم ملايين الضحايا والقرابين البشرية من أبنائه في حالات استشهاد كاملة ابتداءً منذ أخطأ طريقه إلى الحياة الكريمة، وانتهاءً بعجز قادته عن اختيار المسار
الصحيح لبناء حاضره ومستقبله. في كل قطر عربي تطالعك قائمة أو مجموعة قوائم عريضة لشهداء يتكاثرون بمرور الأيام، وتوشك القائمة أن تشمُل الشعب كلَّه الذي يعاني من مرارات يومية تجعل من الاستشهاد وسيلة للنجاة والفرار إلى الموت السريع العاجل، بدلاً من الموت البطيء، وما يرافقه من إذلال وغياب لأبسط مقومات الكرامة الإنسانية فضلاً على ضروريات الحياة، وفي مقدمتها الغذاء الذي لم يعد متوفرًا إلا للقادرين في ظل الظروف الخاضعة للتقلبات وارتفاع الأسعار.
هل كان من سوء حظ هذا الشعب أن يوجد على هذه البقعة من الأرض التي ظهرت فيها الديانات السماوية الثلاث وكانت لذلك محط أنظار العالم؟ وهل كان ظهور الجزء الأكبر من الثروة النفطية في هذه البقعة هو الذي حرك غرائز الطامعين ودفع بهم إلى ابتكار وسائل غير شريفة للاستيلاء على هذه الثروة التي باتت من ضروريات الحياة كالماء والهواء؟ وهل كان الصراع محتومًا من أجل الاستفادة من هذه الثروة التي كان في الإمكان أن تصل إلى محتاجيها دون حرب أو التواء؟ أسئلة تعددت الإجابات عنها وتكاثرت الكتابات عنها دون الوصول إلى نتيجة إيجابية مقنعة للغزاة والطامعين الذين جعلوا من عوامل القوة والسعادة التي كانت متوفرة للشعب العربي عوامل قهر وبؤس وشقاء وبابًا إلى تضحيات لم تتوقف.
واللافت للأذهان أن هذه التضحيات الغالية تبدو لغير المتعمقين في قراءة الواقع العربي وكأنها نتاج طبيعي وانعكاس للخلافات والانقسامات القائمة بين الحكام العرب مع بعضهم من ناحية، وبينهم وبين مواطنيهم من ناحية ثانية. وفي هذه الصورة السطحية يكمن الخطأ الكبير الناتج عن إغفال الفاعل الحقيقي والمستفيد من هذه الخلافات والانقسامات والذي غابت صورته أو غامت مع أن دوره حاضر كأقوى ما يكون في كل الحالات، ابتداءً من المشاجرات الصغيرة العابرة إلى الحروب المستعرة بين الجار وجاره، والأخ وأخيه. وإذا كانت الغالبية من الشعب العربي الشهيد قد تجاهلت ذلك الحضور الخارجي فقد صارت في الأعوام الأخيرة قادرة على أن تراه وتقرأ دوره بوضوح في كل ما جرى ويجري في الوطن العربي.
لهذا فإن شعبنا، كما هو شهيد الانقسامات والصراعات غير المبررة وغير المتوقعة، فهو أيضًا شهيد تلك القوى الجائرة التي تريد أن يظل مقتولاً ومشغولاً بما تصدره إليه وإلى قيادته المتعاقبة من خلافات ومماحكات، حتى لا يتفرغ لبناء ذاته والاعتماد على ما حباه الله به من ثروات بشرية ومادية ومن مواقع سياحية وإستراتيجية. وهنا أتوقف لكي أشير إلى أنه لا يكفي أن يعي الشعب الشهيد هذه الحقيقة، بل لابد من تحويل هذا الوعي إلى مواقف وخطوات وإلى إعادة اللُّحمة الأخوية بين أبناء الشعب الواحد، واستشعار أهمية تضافر الجهود لمواجهة المخلفات المعيقة والدسائس المرحّلة إلى الحاضر من سنوات الاحتلال والانتداب، وما تركته في النفوس من ندوب، وفي القلوب من آثار لا تبرأ بالصمت والتجاوز السلبي. ولعل في هذا الذي يشهده هذا الوطن الكبير من انتفاضات وثورات ما يضمن وضع الملايين الصامتة والمستعبدة أمام مسؤولياتها وفي مكانها الصحيح