بقلم: اكرم عبيد
قال الداعية الأمريكي لحقوق الإنسان المناضل مارتن بوثر كينغ الذي اغتالته رصاصات الحقد العنصري، "أحلم أن أعيش أنا وأطفالي في مجتمع لا يكون الحكم فيه على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم".
لكن حلم ماتن لوثر كينغ لم يتحقق حتى اليوم بالرغم من وجود قانون الحقوق المدنية الأمريكي لكن العنصرية مازالت أقوى من كل قوانين الإدارات الإمريكية المتعاقبة وهذا ما يؤكد أن المشكلة في نفوس البيض وليس في نصوص القوانين.
لذلك فأن الاحتجاجات الشعبية الأمريكية على مقتل مواطنين أمريكين من السود ليس حدثاً عابراً ولا فردياً في مدينة فيرغسون، بل سلوك عنصري يتكرر باستمرار كما أكدت بعض الدراسات الصادرة عن مركز الدراسات الأفريقية الأمريكية في جامعة كالفورنيا، والتي أكدت أن 80% من المواطنين الأمريكيين السود يتعرضون للتمييز العنصري رغم مرور 50 عاماً على صدور قانون الحقوق المدنية، الذي ألغى التمييز العنصري ووضع الأمريكي الأسود على قدم المساواة مع الأمريكي الأبيض في الحقوق السياسية والاجتماعية والقانونية.
لكن الحقيقة غير ذلك لأن الأحداث أثبتت ان الممارسات والسلوك العنصري ما زال السمة الغالبة لدى معظم المواطنين الأمريكان البيض من العرق الأنكلوسكسوني.
وفي منتصف شهر حزيران/يونيو من العام 2014 تم قتل أربعة مواطنين أمريكيين سود من أصول أفريقية برصاص الشرطة كما أشارت مجلة (ماذر جونس) اليسارية الأمريكية في تقرير نشرته قبل أيام قليلة وفي مقدمتهم مقتل الشاب ترايفون مارتن في سانفورد بولاية فلوريدا، الذي انتشرت أخباره حول العالم والذي قال عنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما: " أنا نفسي كان من الممكن أن أكون في مكان ترايفون مارتن".
ومنذ مقتل الشاب ذي الأصول الإفريقية مايكل براون في التاسع من أغسطس/آب 2014 أصبحت هذه المدينة بؤرة لتجدد الجدل حول قضية العنصرية والاختلاف الطبقي والاقتصادي في المجتمع الأمريكي. وهنا يبرز التساؤل عن مدى انتشار التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد تسببت هذه الجرائم العنصرية الدامية وأعمال العنف التي شهدتها شوارع مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري الأميركية التي تحولت إلى ما يشبه ساحة حرب، بغضب شعبي كبير قد يتحول إلى انتفاضة شعبية لمواجهة سياسة التمييز العنصري التي ما زالت راسخة بين أوساط المجتمع الأمريكي، من خلال العنف الذي تمارسه الشرطة الأمريكية ضد السود، ولم يكن مقتل الشاب الأسود مايكل براون على يد شرطي أبيض، تم تبرئته فيما بعد من قبل ما يسمى "هيئة المحلفين" المؤلفة من أشخاص منهم 9 من البيض و3 من السود، وهذه الجريمة تتجدد باستمرار في أكثر من مدينة أمريكية لتظهر الوجه الحقيقي لسياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي تتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية المزعومة لسلطاتها الأمنية والقضائية الموغلة في دماء المواطنين الأمريكيين السود وغيرهم من الأعراق الأخرى.
ويرى المتخصص الأخصائي الاجتماعي دارنيل هانت، مدير مركز الدراسات الإفريقية – الأمريكية في جامعة كاليفورنيا، أن ظاهرة عنف الشرطة الممارَس على السود لها جذورها وخلفياتها قائلاً: "لدينا رئيس أسود لكن معظم الأمريكيين السود يعانون حالياً من سوء الأحوال الاقتصادية أكثر مما كانوا عليه قبل 20 عاماً. إنهم مهمشون في جميع مجالات الحياة، فنسبة البطالة بينهم زادت خلال عقود إلى ضعف نسبتها بين البيض، كما أن مدخولهم المالي أقل بنسبة الثلث من متوسط دخل الفرد في الولايات المتحدة، ونسبة السود الفقراء أكثر ثلاث أضعاف من البيض، كما أن الاعتقالات والعقوبات في أوساطهم أكثر منها لدى البيض".
وتمثل هذه الاحتجاجات في ولاية (ميسوري) الأمريكية دليلاً قوياً على سياسة التمييز العنصري والعنف المسلط من قبل الشرطة، وتذكرنا بأنها نسخة طبق الأصل للأحداث في أواخر الستينيات في عهد الرئيس ليندون جونسون، والذي تمثل بانفجار الغضب الشعبي للأمريكيين السود بعد أن قام البيض بتحقيرهم وإذلالهم، مما اضطر الرئيس الأمريكي لأن يدفع بالجيش الفيدرالي إلى الشوارع "لضبط الأوضاع".
وأكدت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية أن حادثة القتل المتعمد للمواطن الأمريكي الأسود لا تحتاج إلى تحقيق فيدرالي كي يوضح معالم التمييز العنصري وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية المنتشرة في تلك المقاطعة منذ عقود طويلة.
وكما يرى المحللون أن انتخابات باراك أوباما في حد ذاتها كانت دلالة لا تقبل الشك على أن المجتمع الأمريكي لا يزال رازحاً تحت أغلال العنصرية، فتصويت السود في انتخابات الرئاسة 2008 بأغلبية كاسحة وشبه مطلقة لأوباما أكد على أن معيار الاختيار عرقي وإن حاولوا تعليل ذلك بأنهم يريدون معالجة التفاوت في الرعاية الصحية والدخل والعدالة والتعليم.
وقد توهم بعض المواطنين الأمريكان أن انتخاب الرئيس أوباما أول رئيس أمريكي "أسمر" سيطوي صفحة سياسة التمييز العنصري في الولايات المتحدة إلى الأبد، التي ما زالت جذورها قابعة في وجدان معظم رغم مرور 50 عاماً على صدور قانون الحقوق المدنية الذي من المفترض أنه ألغى سياسة التمييز العنصري، ووضع أبناء الشعب الأمريكي على قدم المساواة بين السود والبيض في الحقوق والواجبات الوطنية وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والقانونية.
لكن "السحر انقلب على الساحر" وهذه حقيقة لا ينكرها القاصي ولا الداني في هذا العالم خلال الفترة الماضية وخاصة بعد محاولات الإدارة الأمريكية التدخل في الشؤون الداخلية لعدد من الدول في العالم بشكل عام وفي "الشرق الأوسط" بشكل خاص مثل سورية والعراق ومصر واليمن وغيرها تحت غطاء ما يسمى حقوق الإنسان والديمقراطية المزعومة الملطخة بدماء الأبرياء.
ورغم تبجح الإدارات الأميركية بالحرية والدفاع عن حقوق الإنسان المزعوم فإن المجتمع الأمريكي ما زال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة ومشاكل عديدة وفي مقدمتها سياسة التمييز العنصري التي تعتبر الوجه الآخر لسلوك وممارسات مجرمي الحرب الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخاصة في القدس المحتلة.
بالرغم من أنّ الدستور الأميركي يمنع التفرقة بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو غير ذلك، إلا أنّ سياسة التمييز العنصري ما زال يتوارثها معظم الأميركيين البيض.
وهذا في الحقيقة لم يأت من فراغ، وإنما هو حقيقة وواقع ملموس تؤكدها الممارسات العنصرية التي تمارسها السلطة الأمنية والقضائية ضد السود بالدرجة الأولى ثم العرب والمسلمين وأخيراً المهاجرين من مختلف دول العالم، ضد هؤلاء جميعاً رغم أن القوانين الأميركية تحرم مثل هذه الممارسات العنصرية البغيضة، ورغم أنّ العالم ينكر مثل هذه الجرائم بحق الإنسانية بعد نجاحه في القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا "الأبارتيد" وها خير مثال على رفض المجتمع الدولي للعنصرية والتمييز العنصري في العصر الحديث هذا المجتمع الذي بقي عاجزاً عن طي ملفها في فلسطين المحتلة وأخيراً في الولايات المتحدة.
واليوم فالمشكلة الأكبر التي تواجه الولايات المتحدة ليست في عجز سلطاتها في التعامل بنجاح مع هذه الأزمة ذات الجذور التاريخية والنفسية والعقائدية المتغلغلة في المجتمع، ولكنها تكمن أيضاً في فجوة الثقة المتسعة بين المواطنين السود والحكومات عموماً، حتى ولو كان الجالس في البيت الأبيض رئيساً من أصول أفريقية سوداء.
لذلك فأن سياسة التمييز العنصري والتوتر العرقي تحديان كبيران للديمقراطية الأمريكية ولاستقرار ووحدة المجتمع الأمريكي.
هذه هي الحقيقة لسلوك وممارسات السلطات الأمريكية العنصرية بحق مواطنيها قبل غيرهم في الوقت الذي تتشدق فيه بالدفاع عن حريات الشعوب وحقوق الإنسان والديمقراطية ومحاربة الديكتاتورية وهي تمارسها اليوم في أبشع صورها وأشكالها ضد مواطنيها السود، وهذه مفارقة كبيرة فيما تدعيه الولايات المتحدة من حرص مزعوم على الحرية والديمقراطية ومناهضة كل أشكال التمييز العنصري، وما تمارسه على أرض الواقع من نفاق سياسي وازدواجية في المعايير في التعامل مع هذه القضايا لتضليل الرأي العام العالمي وخاصة بعد لعب دور المعلم الذي يعطي المحاضرات والدروس للدول والشعوب الأخرى للوفاء بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان.