سليمان تقي الدين
تهدف الشرق أوسطية إلى إقامة نظام إقليمي جديد على أنقاض النظام الإقليمي العربي الذي مثلته جامعة الدول العربية طوال نصف قرن . يشمل مفهوم الشرق الأوسط دول الجوار الإسلامي في آسيا (أفغانستان باكستان- إيران- تركيا وقبرص) ودول شمالي إفريقيا والقرن الإفريقي والدولة الصهيونية في فلسطين . بدأت فكرة الشرق الأوسط منذ خمسينات القرن العشرين لا سيما مع مشاريع الأحلاف العسكرية التي كان يدعمها الغرب، ومنها حلف بغداد، وكانت وظيفتها آنذاك مواجهة تيار القومية العربية والمد اليساري . يفترض الشرق الأوسط وجود منظومات أمنية واقتصادية وسياسية مشتركة، وقد كتب عن هذا المشروع زعماء الدولة الصهيونية وفي مقدمتهم شمعون بيريز . ومن بين أهم أهدافه، اليوم، تأكيد سيطرة الولايات المتحدة على قلب العالم من الناحية الاستراتيجية ضمن سياسة الولايات المتحدة، كما يعّبر عنها الرئيس جورج بوش لتغيير العالم وقيادته، وعلى منطقة حدود مع كتل ذات أهمية على المستوى الدولي: روسيا، الصين، أوروبا . ومن أجل ضمان التحكّم الكامل بالنفط بما هو سلعة استراتيجية تقرر مصير الدول الصناعية الكبرى: أوروبا واليابان والصين والولايات المتحدة نفسها . ويفترض هذا النظام أن الدولة الصهيونية تحتل فيه موقعاً مميزاً .
إن تحقيق هذا المشروع بات ممكناً بنظر الولايات المتحدة اليوم بعد انفرادها بقيادة العالم، لاسيّما بعد انهيار التعددية القطبية، وعجز القوى الدولية الحالية عن كبح جماح هذه الاندفاعة الأمريكية لتشكيل نظام عالمي جديد تسيطر عليه الولايات المتحدة وتحدد اتجاهاته الرئيسة . لكن الولايات المتحدة بدأت تواجه عقبات مهمة على هذا الصعيد في فلسطين والعراق وسوريا وإيران، فضلاً عن عدم توافقها مع الأنظمة العربية على طريقة تشكيل المنطقة ومع الدول الكبرى، بالنظر لإدراك هذه الدول مخاطر المشروع الأمريكي على العالم .
لقد كان احتلال العراق بالنسبة للولايات المتحدة بمنزلة بقعة الزيت التي ستنتشر في المنطقة، ومدخلاً لإحداث تغيير شامل يكون نموذجه العراق . لكن المقاومة العراقية شلّت قدرات الجيش الأمريكي وحاصرته، وتبيّن أن القوى الليبرالية التي راهنت عليها الولايات المتحدة هامشية جداً إزاء القوى ذات التمثيل الطائفي لاسيّما تيارات الإسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني . وصار واضحاً الآن أن تفكيك النظام في أي بلد عربي ينطوي على احتمال قوي بتفكيك الدولة وتهديد قد يطاول الكيان نفسه، خاصة في الدول ذات التنوع الديني والطائفي والعرقي، لأن الاجتماع السياسي يقوم في الغالب على نواة صلبة من أقليات طائفية وجهوية وعائلية، وهذه النواة تمارس التهميش والإقصاء للجماعات الأخرى وكذلك الاضطهاد والقمع . وفي غياب الحريات العامة، التي تسمح بتشكل مجتمع مدني، تلجأ الجماعات الأهلية إلى التكتل في أطر طائفية ودينية .
فعندما ينهار النظام وتنفك القبضة الأمنية عن المجتمع، نحتاج إلى تعاقد وطني جديد يعيد تأسيس الدولة على توازنات جديدة من مكونات مجتمع تشكل الكتل الطائفية قواه الأساسية . عندها تطرح صيغ الطائفية والتقسيم والفيدرالية، بوصفها الخيارات المتاحة في غياب الكتل الشعبية الوازنة التي تعتبر أن المواطنة هي ركيزة الدولة الحديثة .
فالكتل السياسية التي تتشكل على أساس ثقافة دينية حصرية فئوية لا تستطيع أن تتبنى صيغة للدولة تقوم على فكرة الديمقراطية البسيطة . وتكون الخيارات الفعلية هي بين صيغ من التقسيم الجغرافي الطائفي أو الديني، وصيغ الفيدرالية أي صيغ الدولة المركبة التي تؤمّن مشاركة الجماعات وفقاً لتوازن القوى الديمغرافية أو السياسية، هذا المنحى الذي أخذته الأمور في العراق يمكن أن يعم دولاً أخرى إذا ما حصلت تصدعات أمنية في هذه الدول أو جرت نزعات أهلية في مسار عملية التغيير .
ففي قراءة المعطيات السياسية في العالم العربي الآن، تراجعت القوى المدنية أو العلمانية التي كانت تعبّر عنها الأحزاب الليبرالية أو اليسارية أو القومية لمصلحة قوى الإسلام السياسي الذي يسود الآن في الشارع . وهذا يعني أننا أمام مرحلة تاريخية تطول أو تقصر مطبوعة بمشكلات حقيقية تواجه نشر وتفعيل الممارسة الديمقراطية بما في ذلك مشاركة الأقليات في المجتمع والدولة مع ملاحظة الفروقات من بلد إلى آخر . ولكن يصعب الآن تقديم نظرة متفائلة عن مصير العالم العربي ومستقبله في العقود المقبلة على مستوى المهمات الثلاث أو التحديات الثلاث التي يواجهها في الاستقلال والتنمية والديمقراطية .
إن القوى الحيّة في العالم العربي، لا تزال منقسمة إلى معسكرين رئيسين: المعسكر الذي يمركز المهمات الراهنة على مواجهة التحدي، الهيمنة الغربية، والمعسكر الذي يمركز المهمات الراهنة عند تحدي مسألة الديمقراطية وإلى حد ما التنمية . وهناك ما يشبه القطيعة والتناقض بل المواجهة بين هذين المعسكرين، لكن العالم العربي يحتاج إلى تكوين جبهة واحدة تستطيع أن تجمع في مشروع واحد مهمات الاستقلال والتنمية والديمقراطية، وهذا يعني ضرورة تلقيح الإسلام السياسي بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومزاوجة الليبرالية المعاصرة مع الهموم الوطنية والقومية، فلا يمكن الآن بناء نموذج ديمقراطي في ظل الاحتلال ومشاريع الهيمنة العالمية التي تحاول إعادة تكوين الكيان السياسي للعرب وفقاً لمصالح غريبة عن تطلعات شعوب المنطقة .
على أي حال فإن محور القضايا كلها هو حقوق المواطنة، أي العنصر الأساس في بناء الدولة الحديثة، وهذه لا يمكن معالجتها فقط في إطار الحقوق السياسية بل تجب معالجتها في إطار التنمية أيضاً . وللتنمية في العالم العربي آفاق تحتاج إلى قيام متحدات اجتماعية أوسع من الكيانات الحقوقية الحالية وليس تقسيم هذه الكيانات أو زجها في مشكلات تتعلق بوحدتها الداخلية .
من هنا تتعاظم ظاهرة الانقسامات السياسية على أسس دينية وطائفية فيتحول الواقع الديني إلى إطار سياسي مغلق نتيجة الامتيازات والحرمان التي بنتها السلطات السابقة، وفي ظل الثقافات غير المنفتحة يصبح الصراع على السلطة مسألة صدامية في ظل غياب الديمقراطية . من هنا نحتاج إلى شبكات أمن اجتماعي توفرها الدولة الحديثة عبر كفالتها للحريات العامة والفردية، وعبر التنمية التي تحرر المواطن من اللجوء إلى المتحدات الطائفية، مع ضرورة توفير سبل تداول سلمي للسلطة ومشاركة سياسية حرَّة من قبل جميع الفئات الاجتماعية والطائفية .
ولا يمكن للحركات المدنية أن تزدهر إلاّ في إطار برنامج اجتماعي يعيد تشكيل الناس على أساس مصالحها الأساسية خارج انقساماتها الثقافية، وهذا ما نعتقده وقد افتقدناه في لبنان في السنوات بل العقود الماضية . من هنا الحاجة إلى بلورة برنامج على هذا الصعيد يعيد ربط مسألة حقوق المواطنة في سياق اجتماعي واحد، هو التنمية والديمقراطية، فلا محل لهذه الحقوق في ظل الانقسامات الطائفية والثقافية الحادة التي نشهدها اليوم . لكن من غير المعقول أن يستمر العالم العربي مرتهناً فقط لفكرة حساسية مسألة الأقليات على حساب المشاركة الأوسع من جميع مكونات المجتمع في فضاء ديمقراطي .
المصدر: جريدة دار الخليج الإماراتية – 8 فبراير/ شباط 2012