أنهينا حديثنا السابق الموسوم بـ "السياسة الأمريكية في حقبة أوباما" بسؤال عما إذا ما نحن الآن فعلا أمام تحول تاريخي كوني، وما هي معالم السياسة الأمريكية، في عهد أوباما. وبدقة أكثر، ما نصيبنا نحن العرب من هذه السياسة؟ وما هو مستقبل الوجود الأمريكي في العراق وأفغانستان؟ وهل نطمح بموقف أمريكي عادل تجاه القضية الفلسطينية؟ وهل ستدور الماكنة الاقتصادية بشكل يجعل عالمنا أكثر بهجة ورخاء؟. ووعدنا أن نكرس هذا الحديث لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة.
وفي هذا السياق أكدنا على أن قراءة، موقف صانع القرار الأمريكي تستوجب وعي الظروف والقوى الاجتماعية التي تقف خلف الرئيس أوباما، والخريطة الاجتماعية للحزب الديمقراطي، ودور الطاقم القديم- الجديد في رسم معالم السياسة الأوبامية. وقراءة النصوص، والتلميحات التي حملتها خطابات أوباما، بعد إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية، كونها غير خاضعة، لمنطق التنافس والدعاية.
والواقع أن أحاديثنا خلال فترة التنافس على الرئاسة قد تناولت بشكل مكثف، تفاصيل عن تركيبة وعقيدة الحزبين المتنافسين: الجمهوري والديمقراطي، والقوى الاجتماعية التي يمثل الحزبان مصالحها، ولذلك لن نتعرض في هذا الحديث أو الأحاديث القادمة، مجددا لتلك التفاصيل. لكن ذلك لا يغني عن التأكيد أن التركيبة الاجتماعية للحزبين قد أفرزت طريقتين مختلفتين في التفكير، إحداهما تنطلق من مبادئ راسخة، ومحافظة يمثلها الحزب الجمهوري، والأخرى فضفاضة وأكثر انفتاحا، ويمثلها الديموقراطيون. وضمن هذه المقاربة نجيز لأنفسنا، استعارة مفهومي الأيديولوجية بالنسبة للجمهوريين والبراجماتية للديموقراطيين.
فالجمهوريون يمثلون طبقة أرباب العمل والاحتكارات الكبرى، وذلك يعني التجانس النسبي في مصالحهم، بما يعطي ثباتا نسبيا في موقفهم من قضايا الاستعار القومي، ونزع الأسلحة، وتغليب مصالح الكارتلات والاحتكارات على ما عداها من المصالح، وإطلاق مبدأ آدم سميت "دعه يعمل" دونما وازع أخلاقي أو مراقبة أو حساب. والانفلات الأيديولوجي لا تحكمه مصدات ولا تقف في وجهه عوائق. وسيكون على الدولة أن تقلص مؤسساتها وأفرادها وأنشطتها وتتراجع، لصالح الحرية الاقتصادية. وتتيح لهم تحالفاتهم مع الكنيسة، وتبنيهم لمواقف متشددة من المثليين وقضايا الإجهاض دعما من المؤسسة الدينية، تستثمر بذكاء في تسعير لغة المواجهة مع غرمائهم. وخلال قرن من الزمن ارتبطت حقب توليهم للرئاسة، بصعود كاسح للأنماط المكارثية، حيث تضاعف القيود على الحريات الشخصية، ويمارس مقص الرقيب دوره في التعتيم على ما لا يتوافق مع الاستراتيجيات والسياسات المطروحة من قبلهم.
بالنسبة للديموقراطيين، لا تتيح هيكلية حزبهم، ولا القوى التي يمثلونها لهم ذات الفرص المتاحة لغرمائهم من الجمهوريين. فهم يمثلون تحالفا كبيرا وفضفاضا، يشمل مصالح واسعة ومختلفة. فتحت مظلتهم تنضوي الطبقة الوسطى، والأقليات من أصول عرقية مختلفة من إسبان وسود وملونين وعرب… كما تشمل أتباعا من كل الأديان، مسيحيين ويهود ومسلمين. وهم يتواجدون تقريبا في مختلف مكونات النسيج الاجتماعي الأمريكي، باستثناء المكون الرأسمالي. إن ذلك يعني بداهة، استحالة وجود عقيدة سياسية جامعة للحزب، خلافا لما هو ممكن بالنسبة للجمهوريين. ومن هنا فلا مناص من الاستعاضة بتغليب "المصلحة العامة" على الموقف العقائدي, وتأتي البرجماتية، كوسيلة وحيدة جامعة، تضمن استمرار التحالف بين مجموعات هي بطبيعتها متنافرة، وتشمل جل مكونات التراتيب الاجتماعية والدينية والإثنية، ومجموعات المصالح وقوى الضغط.
لا بد إذن أن يجري تغليب اللغة البرجماتية على أحادية التفكير، وسيكون من الصعوبة، ضمن هذا الواقع انفلات ماكنة الاقتصاد دون محاسبة أو مراقبة. ولأن الجموع الواسعة من النخب الأمريكية، مرتبطة في مصلحتها بهذا الحزب، فهو الأقرب لحمل شعار "دولة الرفاه"، وتبني النظرية الكنزية. ومن خلال ذلك، سيجري العمل على تنشيط الاقتصاد، وتوسيع أنشطة الدولة، وزيادة عدد مؤسساتها وموظفيها، وتفعيل الضمانات والتأمينات الاجتماعية، والحد من الانفلات بما يساعد على التقليل من حدة الأزمة الاقتصادية العنيفة التي تمر بها أمريكا والعالم بأسره.
لكن ذلك لا يعني في كل الأحوال، عدم وجود قواعد أساسية وضوابط وأعراف وتقاليد تحكم عمل الحزبين، فيما يتعلق بالثوابت العليا، والمصالح القومية. فالمهمة الأساسية للحزبين هي صيانة الدستور، وسيادة القانون، وتأمين المصالح الأمريكية. والاختلاف بين الحزبين فيما يتعلق بالسياسة الكونية للولايات المتحدة، ليس في الاستراتيجيات بل التكتيكات. وحين يتعلق الأمر بالهيمنة على العالم، وتأمين استمرار التفوق الأمريكي، فإن الحزبين يتعهدان باستمرار، بضمان ذلك.
من هذه المقدمات، نستطيع القول، إن الملفات الخارجية التي تركها الرئيس جورج بوش، لخلفه أوباما، لن يتم إغلاقها، ولن تترك دون معالجة. الاختلاف لن يكون في الأهداف والنوايا، ولكن في طريقة المعالجة. وبالنسبة لأوباما، وللديموقراطيين بشكل عام، ليس استخدام القوة المفرطة هدفا بذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق غايات وأهداف محددة، وإذا كان بالإمكان تحقيق تلك الأهداف والغايات دون استخدام تلك القوة، فليس هناك ما يحتم اللجوء لها. ومن الواضح في هذه السياسة أن الأهمية ليست طريقة ركوب عربة الحصان، ولكن الحرص على وصوله إلى هدفه.
بمعنى آخر، ستبقى الملفات التي تركها الرئيس السابق، بوش الشغل الشاغل للمرحلة الرئاسية الأولى لباراك أوباما. وبالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين سيكون على رأس هذه الملفات موضوع الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، والقضية الفلسطينية، والملف النووي الإيراني، وإعادة ترتيب العلاقات السياسية، التي لحقها الضرر جراء سياسات سلفه بوش، مع البلدان العربية والإسلامية. وعلى الصعيد العالمي، سيكون في مقدمة الملفات، العلاقات مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي واليابان، وأمريكا اللاتينية.
وتعيدنا هذه الملفات، بكل تأكيد إلى الأسئلة التي قدمنا بها هذا الحديث: هل نحن فعلا أمام تحول تاريخي كوني؟ وما هي معالم السياسة الأمريكية في هذه المرحلة؟. ما هو متاح أمامنا لا يشجع كثيرا على التنبؤ بمتغيرات رئيسية وهامة ستقبل على اتخاذها الإدارة الأمريكية الحالية. فالطاقم الذي يساعد أوباما على إدارة الحكم، وبخاصة الفريق الذي يعمل في الشؤون الخارجية، في الغالب يتكون من أفراد عملوا مع إدارة الرئيس، بيل كلينتون. وخلال فترة كلينتون، اختلفت القفازات التي يلبسها هذا الفريق عن تلك التي استخدمها فريق بوش، لكن الممارسات العدائية بحق العرب والمسلمين، بقيت هي السائدة في كلتا الحقبتين.
بل إن إدارة كلينتون كانت أكثر نشاطا من إدارة خلفه بوش، في تأمين المصالح الأمريكية. فخلال حقبته، تم توقيع اتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني، ووقعت منظمة التحرير الفلسطينية مع "إسرائيل"، اتفاقية أوسلو، التي اعترفت بـ "مشروعية" اغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين، وقيام دولتين، عبرية وفلسطينية في حدودها التاريخية. وكان لجورج ميتشل، مبعوث الرئيس الأمريكي الحالي، للشرق الأوسط دور كبير في التفاهمات التي تحققت بين الصهاينة وقيادة السلطة الفلسطينية أثناء عهد كلينتون. وخلال تلك الحقبة، كانت عمليات التجريف وهدم البيوت واغتيال القيادات الفلسطينية، وفرض الحصار وإعلان حالة الطوارئ في الضفة والقطاع تجري على قدم وساق، بدعم وتأييد أمريكيين. وخلال عهده، وبدعم من إدارته أيضا ارتكب الصهاينة مجزرة قانا حيث هوجم مقر الأمم المتحدة في لبنان، وقد ذهب ضحيتها العشرات من الفلسطينيين. كما كان من ضحاياها الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، الدكتور بطرس غالي، الذي وقفت إدارة كلينتون بحدة ضد تجديد ولايته، لمجرد إدانته للعدوان الصهيوني على مقرات الأمم المتحدة.
ولم تكن سياسة كلينتون، تجاه العراق، أقل عدوانية من سلفه الرئيس بوش الأب، فخلال عهده جرت صياغة الخارطة المرتقبة للعراق الجديد، حين تم فرض مناطق الحظر الجوي للطيران العراقي بالشمال والجنوب، بما يتسق مع تفتيت العراق، وتمزيقه إلى ثلاثة كيانات: دولة كردية في الشمال، ودولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الوسط، وفي عهده أيضا جرت عملية ثعلب الصحراء، حيث جرى تدمير واسع للبنية التحتية العراقية، التي كانت هشة في الأصل بفعل الحصار الضاري الذي فرض على العراق، منذ عام 1990. واستمرت فرق التفتيش عن "أسلحة الدمار الشامل" تعمل ليل نهار.
تلميحات الرئيس أوباما، في خطاباته وتصريحاته، رغم تغليفها بلغة جديدة، لا تشي بأن ثمة تغيرا رئيسيا في السياسات الأمريكية حيال الملفات العربية والإسلامية. لكن الأمور لن تكون ساكنة، على أية حال، ستكون ثمة تغييرات لكنها ليست باتجاه ما ينبغي أن تكون عليه… بل وفقا للمصالح والاستراتيجيات الأمريكية.. وستكون لنا معها وقفات بإذن الله في أحاديث قادمة.