أخيرا وبعد طول انتظار، أعلن قادة الخليج العربي، في البيان الذي صدر عن قمتهم الثامنة والعشرين، التي عقدت بالعاصمة القطرية، الدوحة في الفترة من 3- 4 من هذا الشهر عن عزمهم إطلاق السوق الخليجية المشتركة اعتبارا من مطلع الشهر القادم.
ولا شك أن تحقيق هذه الخطوة هو فأل خير ومبعث ارتياح، من قبل المواطنين الخليجيين، الذين أملوا في تحقيق الوحدة الخليجية غداة الإعلان عن تشكيل مجلس التعاون الخليجي قبل ما يقرب من الثلاثين عاما. وبالنسبة للجيل الذي آمن بالوحدة العربية، وحلم بتحقيقها فقد تم النظر إلى تأسيس مجلس التعاون، باعتباره خطوة هامة تختزل طريق الألف ميل. الآن وقد أعلن عن موعد انطلاق هذه السوق، فليس أمامنا إلا أن نبتهج، ونعلل النفس بخطوات عملية أخرى، على طريق تحقيق الوحدة الخليجية.
نبتهج لأننا نؤمن أن القوة تكمن في الوحدة، ولأن المصاعب والتحديات التي تواجهها منطقتنا لا يمكن أن نضطلع بمواجهتها منفردين، ومشتتين. وأيضا، لأن تطبيق مفهوم المواطنة الخليجية، يفتح أمامنا أفاقا أرحب وأوسع للحركة. نفرح بهذه الخطوة لأنها إذا ما جرى تطبيقها، فإن المنتظر منها أن تحقق المساواة التامة في المعاملة بين مواطنين، ربطهم التاريخ، وعمقت الجغرافيا صلاتهم مع بعضهم، وكانت الثقافة حاضنهم الروحي والوجداني، وكان تكريمهم بحمل رسالة السماء قد جعل منهم خير أمة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
قرار قمة التعاون الخليجي، بإطلاق السوق المشتركة، كما جرى الإعلان عنه في بيان الدوحة الختامي، سيمكن مواطني دول المجلس من حرية التنقل، وممارسة العمل والمهن والتملك وكافة الأنشطة الاقتصادية والاستشارية والخدمات الاجتماعية. وبالمنظور العلمي والعملي، فإن ذلك لا يحقق فقط منافع مضاعفة لأبناء هذه المنطقة، ويتيح مزيدا من الفرص للعمل والاستثمار، ويسهم بالقضاء على البطالة، ولكنه يضع الأجزاء الكليلة والمتناثرة، في مكانها الصحيح، ويمنحها القوة والمنعة، ويعيد صياغة التركيبة، الديموغرافية لمنطقة الخليج، بما يضمن الحفاظ على هويتها العربية، ويحمي عروبة الخليج. وأكثر من ذلك بكثير، فإنه يسهم في كسر الحواجز النفسية التي تعيق تحقيق الوحدة الخليجية الكاملة، ويشجع بقية البلدان العربية على الاحتذاء بهذه الخطوة، على أمل الوصول إلى تحقيق السوق العربية المشتركة، والوحدة الاقتصادية بين أقطار الأمة.
ومن وعي هذه الأهمية، فإن المرء، في الوقت الذي يشعر فيه بالاعتزاز، والامتنان لجميع من حرض وشجع وساهم في اتخاذ القرار التاريخي بإطلاق السوق الخليجية المشتركة، فإن من حقنا أيضا أن نضع الأيدي على القلب، خشية من اصطدام موسم البهجة والفرح بمعوقات البيروقراطية وتبلدها وتعقيداتها.
إن مواجهة معوقات وتعقيدات البيروقراطية، يتطلب توجيهات من الأعلى بتشكيل ورش عمل متخصصة، تتحرك على مدار الساعة، من أجل استكمال مهمات التحضير لانطلاق السوق، بالموعد المقرر. وتتطلب أيضا، تشكيل مكاتب تنسيق لتدفق العمالة، وإعادة صياغة لوائح العمل، في دول الخليج العربي، لكي تقترب من بعضها. كما تتطلب صدور قرارات بالحدود الدنيا لأجور مواطني الخليج بما يلبي حاجاتهم الأساسية من سكن وتعليم وعلاج وغذاء، ويؤمن العيش الكريم لهم، وصدور مراسيم تمنحهم الأولوية في التوظيف بدول المجلس، لكي لا تتحول صياغة المواطنة الخليجية إلى عبارة فضفاضة لا يسندها فعل. وربما اقتضى التخفيف من تدفق العمالة الأجنبية لمنطقة الخليج افتتاح معاهد تأهيل مهنية مشتركة، تكون التخصصات فيها مرتبطة بحاجة السوق، وتتطور في حركتها وأدائها وبرامجها وفقا لحاجة السوق الخليجية من الموارد البشرية.
ويتطلب تحقيق السوق الخليجية المشتركة أيضا تشكيل لجان أخرى، على وجه السرعة، للبت في قضايا الاستثمار والتملك، وتخفيف بؤر الاختناق، في المعابر البرية، ومراكز التفتيش لتسهيل سفر المواطنين، وضمان عبورهم بيسر، وبدون متاعب.
هناك أمور أخرى، تجعل الخشية مبررة، هذه الأمور للأسف تجد مناخاتها في هيمنة بقايا الموروث المناطقي والقبلي. هذا الموروث لا تجدي معه قرارات ومراسيم، بل يقتضي انتقالا في ثقافة المجتمع، وتعميق مفهوم المواطنة الخليجية، لتحل مكان الموروث القديم، المستند على الإقصاء والتهميش. تجاوز هذا الموروث يبدأ من الحي الذي يقطنه المواطن، ومن تعميق شعور الانتماء للوطن الكبير… ليتعمم من الحي إلى المدينة، فالدولة، ثم إلى عموم منطقة الخليج.
في هذا السياق، يمكن أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني، في بلدان الخليج، وتفاعلها الخلاق والحوارات المشتركة فيما بينها، دورا رئيسيا في تضييق شقة التهميش، والترويج لمفهوم المواطنة الخليجية، وإعطائها ترجيحا أعلى مما عداها من الانتماءات الأخرى. وسيكون مستوى الفشل والنجاح في هذا الصدد مرتبطاً بجودة الأداء، وتساوقه، ووعي الجميع بأن تغليب مفهوم الانتماء الخليجي سيكون في نهاية المطاف لصالح الجميع.
ولا شك أن لوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في دول الخليج دوراً مركزياً، في تعميق مفهوم المواطنة الخليجية. وللأسف فإن أجهزة الإعلام لم تقم بهذا الدور حتى يومنا هذا. وقد تم التعامل مع القرارات التاريخية الأخيرة، بلا مبالاة وعدم اكتراث في معظم وسائل الإعلام بجميع دول الخليج، مما جعل المواطن الخليجي يتساءل عن مدى جدية هذه القرارات.
لقد جرى التعامل مع القرارات الأخيرة، بذات روح التساهل والتغاضي، التي جرت مع القمم الخليجية الأخرى. ولم ينظر إلى القرارات الأخيرة باعتبارها نقلة نوعية في مسيرة مجلس التعاون الخليجي، باتجاه تحقيق الوحدة. وإذا كان التواضع والابتعاد عن الضجيج مطلوبا في كل الأحوال، حتى وإن تعلق الأمر بالقرارات الإيجابية التي تخص الحياة اليومية للمواطن الخليجي، فإن الزج بالمواطن، بهذه المسيرة، وتعميق وعيه بالمزايا والمنافع الوفيرة التي ستجنيها المنطقة ومواطنوها، وضمان تفاعله مع هذه القرارات هي مهمة أخلاقية ووطنية لا يجوز السماح بالتقصير فيها.
من هنا ينبغي الخروج على الأنماط التقليدية، التي تم التعامل وفقا لها، على كافة الصعد، في اجتماعات القمم السابقة. لا بد من الزج بمختلف القوى الفكرية والثقافية والفنية، والنخب الاجتماعية، ومؤسسات المجتمع المدني، في جميع بلدان الخليج العربي لتعميق مفهوم المواطنة، وتعزيز روح الانتماء، ومناقشة المصاعب التي من المحتمل أن تتعرض لها هذه التجربة، وإيجاد المخارج والحلول لها، لكي نضمن سير السفينة إلى بر الأمان.
ينبغي أن يصبح الجمهور، من خلال وعيه وتفاعله مع قرارات القمة الأخيرة، بما يخص السوق المشتركة، حارسا أمينا على هذه التجربة ومدافعا رئيسيا عنها، في وجه المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها، لكي نضمن استمرار حركتها بإيقاع يتجه إلى الأعلى، وصولا إلى تحقيق الوحدة الخليجية.
لقد حان أوان العمل، فقد تحقق لنا أخيرا حلم انتظرناه طويلا… حلم عكس روعتنا حين جعلنا منه حقيقة; نشر في : التجديد العربي
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.