د . علي محمد فخرو
منذ تفجّر ثورات وحراكات الربيع العربي منذ ثلاث سنوات وموجة استنفار المفكّرين والمثقَّفين والنَّاشطين السياسيين العرب، من أجل المشاركة في ساحات الإعلام المرئي والسَّمعي وقاعات المحاضرات والمؤتمرات وصفحات الصحف ووسائل التواصل الإلكترونية، لاتستقرُّ ولا تهدأ، بل إنها موجة في صعود وازدياد في الزّخم .
لكن مايشدُّ الانتباه، هو أن معظم تلك المناقشات والسجالات والكتابات تتوجه لإقناع الجموع العربية بقبول وتبنّي أفكار وخطابات ونظم وشعارات أصبحت منذ عشرات السنين من ثوابت وممارسات ومتطلبات العصر الإنساني الذي يعيشه العالم، هذا بينما نحن ندور من حولها .
إن ثوابت من مثل عناوين الحرية الشخصية، وحرية العقيدة والضمير، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والإعلام المستقل، والشفافية في الحكم والتسامح بين مكونات المجتمع والمواطنة غير المنقوصة، وغيرها كثير تقبلها أغلبية الناس كلمات وعناوين وتعابير، لكنها ترفض الكثير من محتوياتها وتفاصيلها، وهنا تكمن المشكلة، إذ إن ضمير وقيم وقوانين العصر هي في تلك التفاصيل .
هنا تضطر أن تطرح على نفسك هذا السؤال البائس: هل أن عصور التخلف والاستبداد والتسلُّط التي فُرضت على مجتمعات العرب عبر القرون قد فعلت فعلها في قابلية كثير من العرب دخول العصر والتعايش مع الكثير من ثوابته الإنسانية المبهرة؟
دعنا نضرب بعض الأمثلة لتوضيح صعوبة المشكلة التي يواجهها دعاة التناغم مع العصر .
ما إن تذكر الديمقراطية حتى ينبري أحدهم ويسأل: لماذا الديمقراطية وليس الشورى الإسلامية؟ يجيب المتحدث بأن الشورى هو توجيه إلهي عام ويحتاج إلى الكثير من التفصيل بالنسبة لمكوناته ومرجعياته وتنظيمه وتطبيقاته، وبالتالي فلماذا لا نلتزم بالتوجيه الإلهي العام، وفي نفس الوقت نأخذ بتفاصيل النظام الشوري البشري الديمقراطي كتطبيق للأمر الإلهي؟
جواب السائل يكون بالتركيز على كل ما هو سلبي في تطبيق الديمقراطية ونسيان متعمّد لكل ما هو إيجابي مبهر في التجربة الديمقراطية الإنسانية . وشيئاً فشيئاً يختفي موضوع الديمقراطية ليصبح النقاش حول موضوع فقهي – سياسي بالغ التعقيد والغموض ومختلفاً من حيث فهمه وتطبيقاته حتى من قبل بعض الفقهاء، موضوع "الحاكمية لله"، والنتيجة هي بقاء الأمة تحت جحيم الاستبداد والاستغلال بانتظار حل إشكالية فهم عربي مقبول للديمقراطية .
مثال ثان، يتحدث المحاضر عن حقوق المرأة، فيزجُّ موضوع قوامة الرجل بقراءة متناقضة مع العدالة الإلهية، مرسخة لعادات بدوية قديمة متخلفة، ومدمرة لأسس الديمقراطية وللكرامة الإنسانية .
مثال ثالث، يتحدث المتكلم عن الحقوق المتساوية في ساحة النشاط السياسي الديمقراطية للمنتمين لكل الطوائف فيزجُّ بموضوع ولاية الفقيه . يجيب المتحدث بأن الديمقراطية تتعارض مع أية ولاية ومن أي نوع كانت، سواء أكانت لفقيه أو لأيديولوجيا أو حزب طليعي أوقائد فذ، فيكون الجواب العبثي هو دعك من هذا الهراء فنحن نعرف أن ممارسة التقية ستقود عاجلاً أو آجلاً إلى ولاية الفقيه . وهكذا تدخل في دوَّامة التاريخ والأخطاء التي يرتكبها بعض الساسة الإسلاميين والصراعات السياسية السنية – الشيعية في هذه البقعة أو تلك، وينزوي موضوع التخلُّص من الطائفية عن طريق الديمقراطية .
مثال رابع، يكون الحديث عن الأهمية القصوى لموضوع التسامح في أيامنا الحالية، سواء على مستوى الأخلاق أو الثقافة أو الدين أو القانون، فيصرخ أحدهم: هل في تطبيق القانون تسامح؟ يكون الجواب بأن لا تسامح مع كسر القانون، ولكن شرط أن يكون القانون عادلاً وشرط أن تكون الجهة التي تطبق القانون عادلة . يؤكد المتحدث أنه عند ذاك لن تدخل الغوغائية السياسية في موضوع العدالة، والذي ساحته يجب أن تدار بموضوعية وضمير وسمو إنساني . لكن السائل معني بالانتقام والتصفيات ضد خصومه في هذا الحزب أو في تلك الجماعة، ولا وقت لديه لموضوع العدالة وشروطها الصارمة .
ليس الهدف هو الانتقاص من قيمة هذه الرؤية أو تلك، ولكن الهدف هو إبراز ضيق الساحة الفكرية التي تجري فيها مناقشات كبرى مصيرية . ضيق الساحة يأتي من الإصرار على زج التراث الديني، وبعضه فقه متزمت باجتهاد بشري مغلوط، وزج التاريخ وخلافاته العبثية في كل نقاش، بينما لا تسمع أحداً يشير إلى دراسات نقدية أو أبحاث رصينة أو اكتشافات جديدة، لكأن الحاضرين هم من أصحاب الكهف ولكأن الزمن العربي يراد له أن يتجمَّد ويتحنَّط .
ما يراه الإنسان مبطناً في أجواء تلك النقاشات هو رغبة البعض في أن تكون ثورات وحراكات الربيع العربي ثورات عبيد لا تؤدي إلى خلق مجتمعات حرَّة، وإنما تنتهي باستبدال أسياد طغاة سابقين بأسياد جدد .
لكن من حسن الحظ فإنَّ شباب ثورات وحراكات الربيع العربي الأحرار في القلب والعقل والروح لن يسمحوا بذلك، طال الزمن أم قصر .
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.